إذا ما أردنا التحرّر من أسْر المفاهيم الجامدة المتداولة بطريقةٍ واحدة، فما علينا إلا أن ننفثَ فيها أنفاسنا فتحيا بنا.
إن مفهوماً كالخيانة، هو مفهوم نحتته ذهنية ربطته بالفساد الأخلاقي
وبالشّر المطلق، لكن المفاهيم تحمل في داخلها نقيضها لأنها أصلاً إنسانيّة
وتحمل تناقضات الإنسان، وبالتالي تصبح هناك إمكانيّة للتشكيك بالشّر المطلق
وبالخير المطلق أيضاً.
لقد اعتدنا الانسياق وراء الآراء الشّائعة، إلا أنه لا بدّ لنا من قطيعةٍ
معرفيّةٍ مع السّائد حينما نودّ الفهم بشكلٍ إفرادي مستقلّ بعيدٍ عن الآراء
التقليديّة التي تحمل طابعاً جماعيّاً ضبابيّاً. فنحن نتعامل مع المفاهيم
بطريقة غير متأنّية ونتلقاها جاهزة دون أن نفكر في ماهيّتها، ومفهوم
الخيانة من المفاهيم التي تثير فينا ردّة فعلٍ سيّئة، فما أن تُلفظ هذه
الكلمة حتى نقابلها بالرّفض، ذلك أنها ارتبطت في ذهننا بالشّر وبالأخلاق
الفاسدة كما قلنا.
وإذا ما فتحنا أبواباً موصدة ستكون لهذا المفهوم أبعاد جديدة تفتح لنا
آفاقاً لتطوير المفاهيم، فلمّا كانت المفاهيم من صنع الإنسان فهي تحمل
صفاته، وكما أن الإنسان يتغير ويتطوّر، المفاهيم كذلك تخضع للتغيّر
والتطوّر بتغير الزمان والمكان، طالما أنّ للمفاهيم دلالاتٌ زمانية
ومكانية، ووحده الإنسان الذي اختار أن يتقوقع هو الذي تبقى مفاهيمه ثابتة،
عصيّة على الحركة.
نحن ننتمي إلى ثقافةٍ تزدري الخيانة وتخاف منها، والمجتمعات الأبويّة هي
الأكثر خوفاً من الخيانة كوْنها مجتمعات ذات بناء هرمي تسلطي، تقلقها خيانة
الثوابت، كما أنها تخشى من مضاهاة الحديث للقديم وخيانته له.
و السؤال الذي يباغِت العقل هنا والذي يحمل طابعاً فلسفياً هوعلى الشكل التالي:
لماذا نخون؟ نخون لأنه لا بدّ من الخيانة، نحن في خيانتنا نعلن عن وجودنا
المُهمّش، فحينما نتواجد في وسطٍ لا وجود فيه إلا للرّأي الواحد والاتجاه
الواحد والموقف الواحد، تصبح الخيانة أمراً لا مفرّ منه. خيانتنا للواحد هي
بشكلٍ أو بآخر استمتاعنا بالرقص مع بقيّة الأعداد في الحياة، فالحياة واحد
واثنان وثلاث وأربع وألف ومليون…….. وما الوجود عند "فيثاغورس" إلا انسجام
العدد والنّغمْ.
نحن نسعى من خلال الخيانة إلى التحرّر من أميّتنا، والأميّة هي الغرق في
الأم، فالأم هي التي تحتضن وترعى ويعيش الإنسان معها حالة التلقي التام،
وانفصال الإنسان عن أمّه هو في نفس الوقت رغبة في الاستقلال وصنع خيار خاص،
وبالتالي ولادة جديدة للذات تختلف عن تلك الولادة البيولوجية من الأم،
الولادة الجديدة هي ولادة روحيّة، تكون الذات فيها فاعلة وخالقة لنفسها.
ونحن مثلاً حينما نخون النمطيّة والنّمْذجة في الحب، نكون راغبين في
الإعلان عن طريقتنا الخاصة في حبّ نريد أن نعيشه كما نريد وكما نرغب نحن،
لا كما يرغب الآخرون، ولا كما تلقيْنا من تعاليم ووصايا تقدّم قالباً للحب
يجب أن يذوب فيه جميع الناس. إذن: الخيانة ضروريّة هنا من أجل تفتح الذات
والتعبير عن نفسها.
أنْ نخون، يعني أن نتخلى عن كل الطرقات المفتوحة لنمشي في طريقٍ نحن
فتحناها، ووحدها القطعان هي التي تسير في طريق مُمَهدة بشكلٍ مُسبَق، نحن
نخون لنكون نحن، وإذا لم نكن نحن سنكون الآخر، فإذا أردنا أن نكون نحن
(نحن)، وفي حالة تقابلٍ وتكاملٍ مع الآخر لا في حالة ذوبان فيه، علينا
بالخيانة من الطراز العالي.
فحينما يقول شاعرٌ كـ"محمد الماغوط": (سأخون وطني) في إحدى قصائده، هذا
يدفعنا للتساؤل عن مشروعيّة الخيانة، مشروعيّة أن نخون وطناً يحتضن
الفاسدين والقذرين والقتلة والمُسْتعمِرين، وخيانة محمد الماغوط هي قمّة في
الإخلاص لوطن يريده أن يكون وطناً حقيقياً وأكثر جمالاً.
قال "فرويد": (أكثر الناس حديثاً عن الأخلاق هم أكثر الناس بعداً عنها)،
وهذا ما لم يفعله محمد الماغوط حينما قال عن نفسه أنه خائن، وخيانته هنا
تشير إلى نقيضٍ تام يجعله من أكثر الناس إخلاصاً وحبّاً للوطن. كما أن
خيانة محمد الماغوط هنا تحثنا على التساؤل عن الكلمات وما تحمله في داخلها
من إيقاعاتٍ ونقائض، (فخيانة هذا هي في نفس الوقت إخلاص لذاك)، وخيانة محمد
الماغوط لوطن مزيّف هي إخلاص لوطن حقيقي.
لماذا تؤذينا خيانة الآخر؟ في الحقيقة نحن نستاء جداً من الذين خانونا أو
يخونوننا وخصوصاً في الحب، أمّا لماذا نستاء، فلأننا نرغب في أن نكون
محبوبين، وحينما تتم خيانتنا هذا يعني أننا لسنا بمحبوبين.
و لكن أليس الأرقى من الرّغبة في أن نكون محبوبين هي الرّغبة في أن نُحِب؟!
أن نُحِبّ من أجل الحب، وبشكلٍ أدق من أجل المحبوب ذاته، لا أن نُحِبّ من
أجل أن نُحَبْ. ما الضّيْر فيما لو كانت سعادة الشريك غاية في حد ذاتها؟
فنحن حينما نسعى لسعادة الشريك كي نكون نحن سعداء هذا يعني أنّنا لا نأخذ
الشريك بعين الاعتبار كذاتٍ يُفترَض أن تكون غاية بالنسبة لنا وليست وسيلة.
حينما يخوننا الشريك هذا يعني أنه كان مُكبّلاً بنا وتحرّر من أسْرنا
التملكي، وهذا يُفرح مَنْ يرغب لشريكه أن يكون حرّاً، فمَنْ يُحِب لا يحبّذ
لشريكه أن يكون عبداً.
حينما يخوننا الشريك، فهذا إعلانٌ منه عن حاجته لشيء غير موجود فينا،
وللإنسان الحق في أن يبحث عمّا ينقصه، فمشروعيّة الخيانة تكمن في البحث
عمّا نرغب فيه ونريده. إلا أن المعيار الأخلاقي الذي يحكم الخيانة هنا هو
الإعلان عنها للشّريك، كي يتقرّر ما ستكون عليه الحال بعد ذلك.
ماذا يعني أن نبادر نحن بفعل الخيانة؟ نحن دائماً نعتقد أننا ضحايا
الخيانة، ونُبْعِد عن أنفسنا هذه (التهمة)، ذلك أننا نعيش خارج ذواتنا،
متجهين بأنظارنا إلى الآخر، الواضح أمامنا، أما ذاتنا الخبيئة في داخلنا
فنبقى عاجزين عن التبصّر فيها، كونها غير مَرْئيّة، ونحن لا بد لنا من
معرفة أن اللامرئي أغنى بكثير من المرئي، لكنه صعب ويحتاج لجهد، وهذا ما لا
يستطيعه نافذو الصّبر، فيستسيغون السّهل المرئي ويذوبون فيه.
إذن، نحن أيضاً خنّا و نخون تماماً كما الآخر، نحن نخون الذات أولاً حينما
نشوّشها بالآخر وحينما نعكر صفاءها بالتقليد والتشبيه، وهذه خيانة غير
مشروعة، وحينما نقول مثلاً إن (المترجم خائن) نقصد أن هذا المترجم يقوم
بفعل الخيانة حينما يحوّر لغة النص الأصليّة ليطوّعها مع لغةٍ جديدةٍ، وفي
هذا تشويه لذات النص الأصليّة، وخيانة الذات غير مشروعة.
لكن خيانتنا تكون مشروعة حينما نريد التحرّر من أسْر الشّريك (لا أقصد هنا
الأسر الجميل الذي يسجننا ليحررنا). وإذا ما وددنا استعارة المفردات
الأفلاطونية، فنحن حينما نخون الشريك يكون ذلك كونه لم يَعُدْ يُكمّل لنا
نصفنا الآخر المفقود، فنرحل عنه كي نجد نصفنا الآخر في مكان آخر، وكما قلت
سابقاً إن لنا الحق في البحث عمّا ينقصنا ونرغب فيه، بدل أن نقهر أنفسنا
على عيش ما لا تستطيعه تحت شعارات الالتزام والإخلاص والوفاء الوهميّة،
فالمتعة أهم من الواجب وأكثر صدقاً منه.
(الجمال هو عالم جَرَتْ خيانته)، هذه كانت إحدى العبارات المدهشة، المثيرة
للمخيّلة في رواية (كائن لا تُحتملَ خفته) للكاتب "ميلان كونديرا"، ومن
الشخصيات المثيرة في هذه الرواية "سابينا" وقد عاشت هذه الشخصية خيانات
متكررة وكانت الخيانة بالنسبة إليها هي الخروج عن الصف والسير في المجهول،
وسابينا لم تعرف ما هو أجمل من السير في المجهول، وقد أعلمتْ زوجها الذي لم
تعد ترى فيه ذلك الرجل الغريب الأطوار بل ذلك السكير المزعج، أعلمته أنها
ستتركه.
ونستطيع استعمال التحليل ذاته في الصداقة، فنحن حينما نخون الصديق، يكون
هذا الصديق قد بدأ يَسْتنزف طاقتنا، وقد بدأت معادلة الأخذ و العطاء
بالاختلال، وهنا أيضاً تكون الخيانة والبحث عن صديق آخر مشروعة، طالما أن
الصداقة علاقة متبادلة يُفترض أن تكون غايتها الارتقاء بالآخر دون أن يكون
هناك أعلى وأدنى.
لكن لا بدّ من الحذر الشّديد في كلتا الحالتين أي الحب والصداقة، إذ يجب
أن تكون الخيانة أخلاقيّة بحيث يتم الإفصاح عنها للشّريك فلا يكون من نخونه
مغبوناً، وما أشعر بضرورة إيضاحه هنا هو أن الخيانة التي أقصدها تعني
الابتعاد فقط، لا الإتيان بما يقدّم أذيّة لمَنْ كانت تربطنا به صلة يوماً
ما، وأجمل هدية نقدمها للشريك أيّاً كانت صفته هي أن نكون نحن (نحن) بصدق
وبدون أقنعة.
الأحد نوفمبر 06, 2011 9:46 am من طرف هذا الكتاب