كأن الموت مقدر أن يصيب رموز المغرب مرتين... مرة في رحيلهم المادي
والجسدي، ومرة ثانية في تناسيهم وتغييبهم عن ذاكرة أجيال هذا الوطن...
فقسوة التناسي والنسيان هي أشد بكل تأكيد من قسوة الرحيل الجسدي... فليس
بغريب وأنت تتجول بين أبواب الجامعات المغربية والثانويات أن تجد من يطلبون
العلم ومن سيتقلدون غدا مناصب عليا في هرم الدولة يقبضون بأيديهم على آلات
«إم بي 4» عوضا عن كتب الجابري ودواوين عبد الله راجع ومقدمة ابن خلدون.
هناك اليوم في المغرب موجة تنبأ بها الشاعر الراحل عبد الله راجع حين عنون
سنة 1982 أحد دواوينه بـ»سلاما وليشربوا البحار»، وهي الموجة التي تطوي
بعنف صفحة الذاكرة المشتركة للمغاربة وتعوضها كما تعوض اليوميات القديمة
بالجديدة... هناك من يكرس، عبر الإعلام العمومي والإذاعات الخاصة وعبر
أنشطة جمعوية مدعمة من قبل المصالح الثقافية للسفارات الأجنبية، فكرة
مختصرة مفادها أن كل ما هو مغربي هو بالضرورة سلعة منتهية الصلاحية.
فالسلع التي يتحدثون عنها هي العلوم والآداب التي تشكلت منها الخزانة
المغربية عبر أجيال من الأسماء التي حفرت أسماءها بكل فخر واستحقاق، واليوم
يريدون تعويض كل شيء بالمستورد... حتى ذاكرة الجيل الجديد لهذا الوطن
يريدونها كذاكرة «كارت ميموار» التي نحملها في جيوبنا ونخزن فيها الصور
والوثائق وترتبط بالحاسوب ويسهل عليك، وقتما امتلأت، أن تمحوها وتصبح فارغة
وقابلة للتخزين من جديد.
ففرنسا، التي تفتخر بفولتير وهيكو وسارتر، لا تفعل ذلك حبا في هذه الأسماء
الكبيرة بل لإيمانها بأن رموز الدولة في الفنون والثقافة والآداب والسياسة
شيء استراتيجي في تكوين الوعي الوطني والحفاظ على الهوية الفرنسية من كل
اختراق، وهو الوعي نفسه الذي جعل الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك يتدخل
شخصيا ليمنع الترخيص لمطعم «ماكدونالدز» بأن يفتح أبوابه داخل أروقة برج
إيفيل الشهير في قلب العاصمة، فقط لأن البرج معلمة هندسية فرنسية لا يجب أن
تحمل أروقتها علامة تجارية خاصة بالثقافة الأمريكية.
أنظروا إلى أسماء الجامعات المغربية... فباستثناء جامعات ابن زهر وابن طفيل
والقاضي عياض وشعيب الدكالي ليست هناك جامعات وكليات تحمل أسماء أبرز
وأشهر الأعلام المغاربة، بل لدينا جامعات وكليات نكرة تكتفي الوزارة
بتسميتها كليات متعددة التخصصات، وهي الكليات نفسها التي لا تستحق، في نظر
من يسيرون دفة التعليم العالي ببلادنا، أن تحمل أسماء الجابري أو المنجرة
أو عبد الله راجع أو العروي، وغيرهم
كثير.
اليوم في مراكش، يجتمع مجلس المدينة ليقرر في إطلاق اسم شارع من شوارع
مملكة ابن تاشفين على شرف المصمم العالمي إيڤ سان لوران، الذي اشتهر
بفساتينه التي طافت على أجساد مشاهير العالم تماما كما اشتهر بشذوذه
الجنسي،... فالظاهر، والله أعلم، أنهم يريدون من الأجيال الجديدة من أهل
مراكش أن يتعلموا خياطة الفساتين وأشياء أخرى على أن يتعلموا أصول
العقل...هكذا هو المغرب: اسم لخياط فرنسي أفضل من فيلسوف ومفكر مغربي
وعربي.