موريس سيني، رسّام كاريكاتير
وصحفي فرنسي معروف، عمل مع أسبوعية شارلي إيبدو الفرنسية لمدّة 16 سنة دون
توقّف، ثم طرد منها في السنة الماضية، عقب اتهامه بمعاداة السامية، وهي
تهمة من العيار الثقيل، تعني ما تعنيه داخل وعي غربيّ يشعر بنوع من تأنيب
الضمير أمام ضحايا جرائم النازية. معاداة السامية تهمة لم تعد تدلّ فقط على
الإهانة المفترضة التي قد تتعرّض لهاّ الأقليات اليهودية في المجتمعات
الحديثة، فإنها بدأت تشمل أيضاًً، كلّ نقد موجه لـ"أوّل" ديانة سماوية،
بدعوى أنّ مثل ذلك النقد من شأنه أن يوقظ أشباح معاداة السامية. ولا بأس أن
يتمّ، بين الفينة والأخرى، التكرّم على "ثالث" ديانة سماوية، بمثل تلك
الحصانة، ولو بدعوى عدم إيقاظ أشباح العنصرية. موريس سيني، جمع عليه
"المعصيتين" معاً.
حين نتكلّم عن موريس سيني، فإنّنا نتحدّث عن كاتب ورسّام ساخر، كاتب
لا يتردّد في التهكّم على معظم رجال الدّولة ورجال الدين، بل ويطال نقده
كافة الأديان، دون أن يستثني منها أيّة ديانة من الديانات، ولذلك يقال عنه:
لم ينج من انتقاداته اللاّذعة سوى موسيقى الجاز والقطط، الّذين أحبّهما
بقوّة. إنّه أيضاً مدافع مقدام عن قضية الشعب الفلسطينيّ، وهو ما عرّضه
مراراً لانتقادات لاذعة. لكن القطرة التي أفاضت عليه الكأس، وانتهت إلى
طرده من الصحيفة ورفع دعوى قضائية ضدّه من طرف الرّابطة الدّولية لمناهضة
العنصرية ومعاداة السامية، تتعلق بمقالين ساخرين نشرهما في نفس الأسبوعية.
المقال الأوّل نشره في عدد 11 يونيو 2008 من الأسبوعية، انتقد فيه بلغة حادّة، المسلمات المتحجّبات، وبسببه واجه تهمة العنصرية.
أمّا المقال الثاني، والذي واجه بسببه تهمة أشدّ وقعاً، فقد نشره في
عدد 2 يوليو2008 من الأسبوعية، حول ما أشيع عن احتمال تحوّل جان ساركوزي،
ابن الرّئيس الفرنسي إلى الديانة اليهودية، بهدف الزّواج من فتاة يهودية
تنتمي إلى إحدى العائلات الأكثر ثراء في العالم، وهو ما جعل الصحفيّ
السّاخر يعلّق على الخبر بكلام يمكن أن يفهم منه بأنّ ابن رئيس الجمهورية
لم يفكّر في الانتماء إلى الطائفة اليهودية سوى لأنها باتت تمثّل بالنسبة
إليه، فرصة سانحة للاغتناء السريع والثراء الفاحش. ومثل هذا الافتراض كان
كافياً لكي يواجه رسام الكاريكاتير تهمة معاداة السامية.
أمام هذه التهمة المروّعة، هذه التهمة التي تحرج الفكر الحرّ وتخيف
رجال السياسة، قليلون من تجرؤوا على مناصرة الرّجل، قليلون من امتلكوا
شجاعة التذكير بأنّ نقد الديانات أو حتى التهكّم عليها، لا يمكن اعتباره
معاداة للسامية ضدّ اليهود، أو عنصرية ضدّ المسلمين، أو حتى كراهية للأجانب
السيخ أو الهندوس أو نحوهم.
من بين هذه القلّة، يوجد الفيلسوف الفرنسيّ الحرّ، وناقد الأديان
والطوائف الدينية جميعها، مشيل أونفراي، والذي لم يكتفِ بمناصرة الرّجل
والدفاع عنه، وإنما ساعده مالياً ومعنوياً لأجل إصدار أسبوعية جديدة تحمل
اسمه: (سيني إبدو). والقصد من ذلك أن لا يختفي ذكر الرّجل ويزول أثره من
المشهد الإعلامي، وفق مبتغى من رفعوا الدّعوى ضدّه.
موريس سيني، يشخّص قصّة من قصص نضال (واجب الحقيقة) ضدّ (الحقّ في
الأوهام)، نضال (واجب النقد) ضدّ (الحقّ في احترام الخرافات التي تؤمن بها
بعض الجماعات الدينية والطوائف العرقية)، ولذلك ليس غريباً أن يكون مشيل
أونفراي في طليعة من أسندوا ظهر موريس سيني، حين عزّ النصير.
والواقع أنّ التيّار العلمانيّ الإنسانيّ اليوم، يجد نفسه أمام
مطالب ضاغطة عليه، تتجلى في أن مختلف الحركات السياسية تلزمه باحترام
الأديان، فالحركات اليسارية تطالبه باحترام الحرية الدينية للأقليات لمجرّد
أنها أقليات مستضعفة، والحركات اليمينية تطالبه باحترام الحرية الدينية
لسادة العالم لمجرّد أنهم أسياد. على أنّ الأمر قد لا يقف عند مجرّد احترام
الحرية الدينية، وإنّما قد يشمل في بعض الأحيان، ضرورة احترام المواقف
السياسية، حين تتمكن هذه المواقف من أن تكتسي نوعاً من الغطاء الديني، حتى
ولو كان الغطاء مثيراً للاشمئزاز، وإلاّ قيل إنّ هناك اعتداءً على الحرية
الدينية وخرقا لحقوق الإنسان، ومن ضمنها حق الإنسان في أن نحترم أوهامه.
إنّ كلّ إنسان حرّ في أن يختار أوهامه أو يفرضها على نفسه، وأن يعبد
ما يشاء ووقتما يشاء وبالنحو الذي يشاء، وفي كلّ الأحوال فالحرية هنا ليست
موضع نقاش، لكنّ المؤكّد أنّ الحقّ في الحرية لا يجب أن يحرمنا من واجب
النقد، لا سيما حين يكون النقد هو الوظيفة الأساسية للمفكّرين الأحرار.