14 أكتوبر 2013 بقلم
الطيب بوعزة قسم:
الفلسفة والعلوم الإنسانية حجم الخط
-18
+ للنشر:شهد القرن العشرون تطورًا ملحوظًا في النظريات النقدية، وتحولاً كبيرًا في مناهج تناول النص الأدبي. وقد كان لعلم اللسانيات دور مميز في التأسيس لهذه التحولات المنهجية، إذ كان لدوسوسير فضل كبير في رفد الوعي النقدي بالمفهوم والمنهج؛ فإسهامه اللساني لم يكن ليفهم منه أنه مجرد حافز على إعادة اعتبار للعلامة اللغوية وبعدها الوظيفي في بناء النص الأدبي، ولم يكن مجرد تحفيز لانبثاق وعي احتجاجي ضد القراءات النقدية السيكولوجية والسوسيولوجية التي عاملت النص بوصفه مرآة عاكسة، حتى إنها تنصرف إلى دراسة سيكولوجية مؤلفه أو الشرط السوسيولوجي الذي اكتنف تبلوره أكثر مما تدرس النص ذاته، وإنما كان هذا التحول مؤشرًا على توكيد بعد فلسفي سيسفر عن نفسه بوضوح في ستينيات القرن العشرين في نظرية موت المؤلف، هذا البعد الذي يمكن أن نسميه بتأليه النسق اللغوي، حيث سيموضعه في موقع التسييد المطلق، ومن ثم ستخرج اللغة من سياقها الوظيفي كأداة للاستعمال إلى سياق السيادة محددًا للفكر وشرطًا له. وهذا ما جعل النقد الجديد المرتكز على اللسانيات البنيوية نقدًا يندرج ضمن تيار مابعد الحداثة؛ لأنه إذا كانت الحداثة توكيدًا للكوجيتو؛ أي الذات المفكرة، فإن اللسانيات البنيوية ستجعل من هذه الذات المفكرة كيانًا مشروطًا بنسق العلامات؛ أي محكومة باللغة.
وقد اتجهت الفلسفة اللسانية البنيوية إلى الإغراق في منحى سيميولوجي، فانتهت إلى إقامة "امبراطورية العلامة"، فأصبح الوجود المجتمعي بكل أنماطه وتنوع أشكاله محكومًا بنظام العلامات ونسقها البنائي، مما يرفع المنهج اللساني إلى مستوى الأنموذج المنهجي الواجب احتذاؤه في الحقول المعرفية الاجتماعية أيضًا. وقد انتقل الأنموذج من مستوى تشغيله على الظاهرة الإنسانية إلى اعتماده رؤية إلى العالم والوجود، إذ أصبحت السيميولوجيا علمًا يهيمن بقواعده ومفاهيمه وطرائقه المنهجية، حتى على كيفيات فهم الوجود؛ بناء على كونه هو أيضًا مجرد نسق من العلامات. فإذا كان الفيلسوف الإغريقي فيثاغورس نظر قديمًا إلى الوجود بوصفه عددًا ونغمًا، فإن السيميولوجيا الآن تنظر إليه بوصفه نسقًا من العلامات.
لكن ما هو بالضبط هذا الأثر المنهجي الذي استلهمه النقد الأدبي المعاصر من دوسوسير؟
في "دروس في علم اللسان العام" كان دوسوسير واعيًا بكونه بصدد التأسيس المنهجي لعلم جديد، فإذا نظرنا من مدخل إبستملولوجي إلى هذه الدروس، سنلاحظ أنها بالفعل تستجمع مختلف المحددات الضرورية للتأسيس، إذ نجد فيها وعيًا قصديًا يدرك دلالة المشروع ومتطلباته، مع الحرص على بناء ونحت جهازه المفاهيمي، وإعطائه الرؤية المنهجية الواجب انتهاجها مدخلاً لمقاربة الظاهرة اللغوية:
يميز دوسوسير على مستوى الجهاز المفاهيمي بين اللسان واللغة والكلام، وبين الدال والمدلول والدلالة...الخ. أما فيما يخص الرؤية المنهجية، فقد حرص على التمييز بين النظرة التعاقبية (الدياكرونية) التي تدرس اللغة من حيث الصيرورة التاريخية لتطورها الدلالي، وهي النظرة التي سادت بوضوح في القرن التاسع عشر، فيما يسمى بحقل الفيلولوجيا، وبين الرؤية التزامنية (السنكرونية) التي تتناول اللغة بوصفها نسقًا يدرس في لحظته دونما إحالة إلى خلفية زمنية ماضية. ولا يهمنا في هذه السطور الإيغال في عرض ومناقشة المشروع اللساني الذي أسسه دوسوسير؛ فهذا أمر متناول في أكثر من كتاب، إنما القصد هنا هو التساؤل عن تأثير هذه الرؤية المنهجية السوسيرية على درس الأدب ومقاربته.
إن العلاقة وثيقة بين طبيعة الرؤية إلى اللغة والكيفية المنهجية لتناول النص الأدبي بالنقد. ومن المعلوم أن دوسوسير خلف بعد موته أوراقًا عديدة كشفت أنه قضى أواخر حياته في ممارسة نقدية على النصوص الشعرية اللاتينية، لكن تأثير دوسوسير لم يأتِ من ممارسة نقدية، بل من تقعيده النظري لعلم اللسانيات. فالفكرة المحورية في المشروع اللساني لدوسوسير كان هو نسقية اللغة، واستبعاد الإحالة على التاريخ. وهذا الموقف من الظاهرة اللغوية سيكون له انعكاس كبير على الكيفيات المنهجية التي تم انتهاجها في النقد الأدبي في القرن العشرين، فبدل البحث عن أسباب انبثاقه يجب دراسة هذا النتاج بوصفه "أثرًا" و"نسقًا" دراسة داخلية تبحث في مكوناته وعلاقاتها الوظيفية الناظمة بينها. إنه تحول مفاهيمي جذري انتقل من تناول "السبب" و"الباعث" إلى تناول "البناء" و "الوظيفة"، وهو تحول فيه كثير من خصائص الانقلاب الجذري؛ فالنقد النفساني أو الاجتماعي كان يستهدف فهم دلالة ومعنى النص الأدبي من خلال البحث عن علاقة هذا النص بخارجه، فيتم الإيغال في درس هذا المحدد الخارجي، سواء كان سيكولوجية المؤلف وأزماته وعقده وتجاربه، أو الشروط المجتمعية المكتنفة لظهور النص. فدلالة النتاج الأدبي، في عرف غالبية المناهج الأدبية، توجد خارجه لا داخله، لكن التحول المنهجي المهم الذي أنجزه دوسوسير في النظر إلى اللغة هو أن دلالة المعطى اللغوي هي نتاج علاقات نسقية وظيفية داخلية، فهو يستبعد التاريخ ويقلل من قيمته، ويقلل من قيمة الإحالة على خارج النسق والبنية. وهذا ما سيجعل الدرس النقدي الأدبي المتأثر بدوسوسير يدفع نحو ضرورة معاملة المعطى الأدبي كفضاء مغلق يمتلك استقلاله الذاتي عما هو خارجه، وبذلك يتم استبعاد كل إحالة سيكولوجية أو سوسيولوجية على خارج النص؛ لأن عالم الدلالة حسب فلسفة دوسوسير عالم يتسم بالاستقلالية والانتظام الداخلي والاكتفاء بالذات، هذا على الرغم من كون دوسوسير نبه إلى ما سماه بـ"اللغويات الخارجية" المهتمة بعلاقة اللغة بالمؤثرات السياسية والسيكولوجية والتاريخية.
وقد كان أثر دوسوسير في مجال علم الأدب بينًا في حقل النظرية النقدية؛ ففي نقد الرواية نجد حضور مفاهيم سوسير واضحًا عند تودروف وجينيت، مثلما نجد سوسير مرجعية متداولة في النقد السيميولوجي الذي أنجزه رولان بارت، هذا على الرغم من كون هذا الأخير يرى عكس ما يراه دوسوسير من أن السيميولوجيا جزء من اللسانيات لا العكس. كما نجد تأثير سوسير بينًا في القراءة السيميولوجية للشعر عند جوليا كريستيفا، أو دراسة كرستيان ميتز للغة السينما.
إن هذا الوعي المنهجي الجديد الذي بلوره دوسوسير يدل، في تقديري، على تحول عام في عمق الفكر الأوروبي، فهو ليس مجرد طرح لنظرية لغوية، بل امتثال لابستمي عام نجده يتمظهر في أكثر من حقل، وهو تغييب الذات المفكرة وتسييد للنظام والنسق بدلاً منها. هذا التغييب الذي سيزيد دوسوسير توكيده على نحو لم يكن ليخفف منه استحضاره لفعل الكلام؛ لأن هذا الاستحضار لم يكن إلا تهميشًا وتقزيمًا، وهذا ما سيدركه تشومسكي الذي سيدعو لاحقًا إلى الاهتمام بالإنجاز اللغوي لسد هذه الثغرة في الدراسات اللسانية.
ومما يؤكد كون الموقف السوسيري دلالة على تحول عام هو أنه يأتي في توقيت تاريخي يكشف عن الانتقال المابعدحداثي الذي خلخل مركزية الكوجيتو في أكثر من حقل معرفي، سواء في الفلسفة ( هيدغر) أو السيكولوجيا( فرويد) أو الاجتماع ( دوركايم)...الخ. أما في مجال النقد الأدبي، فقد تم إنجاز التحول من الاهتمام بالمؤلف إلى الاهتمام بالنص ذاته، بفعل نظريات وممارسات نقدية عديدة استلهمت الأنموذج اللساني، نذكر منها بشكل خاص الاتجاه الشكلاني ومدرسة كوبنهاغن وحلقة براغ.