بن عبد الله مراقب
التوقيع :
عدد الرسائل : 1537
الموقع : في قلب الامة تعاليق : الحكمة ضالة الشيخ ، بعد عمر طويل ماذا يتبقى سوى الاعداد للخروج حيث الباب مشرعا تاريخ التسجيل : 05/10/2009 وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 8
| | تأملات فى الإنسان والإله والتراث ( 11 ) - يوم القيامة بين الخيال والفنتازيا والأوهام المأمولة | |
[b]يوم القيامة هو اليوم الذى سيشهد النهاية المآساوية التراجيدية للوجود وفقا ً لما تسرده الميثولوجيات الدينية من توصيفات وخيالات أرادت لها أن تتواجد .. هو يوم ستنتهى فيه المسرحية بهدم المشهد الوجودى الأرضى على من فيه معلنا ً إنتهاء كل فصول الحياة بعد أن أصبح المسرح خراب وأطلال . كلما تأملنا أسطورة يوم القيامة سنجد عدم وجود دليل أو صياغة منطقية وعقلية تسمح لها أن تكون فكرة متماسكة بالرغم من حضورها القوى فى أذهان المؤمنين بها مصحوبة بميديا هائلة تروج لها .. بل سنجد أن اللامنطقية تحيطها والتناقض ينالها واللامعنى رصيدها والهشاشة نتاجها .
أسطورة يوم القيامة حتى تتواجد فهى لابد لها أن تتحصن فى الغيب , ولكى تنال مكانتها فهى ترفض الخوض فيها أو يُمارس حولها النقد والتحليل والسؤال لذا لم يتوانى الفكر الدينى أن يُحصنها بإعتبارها من مقومات الإيمان وعلى المؤمنين أن يؤمنوا بمشاهدها وسيناريوهاتها هكذا بدون جدال , فمن يرفض تصديق هذه الحمولة من الخيالات فقد خرج بذلك من الإيمان مهما ملأ الدنيا برا ً وتقوى .! الفكر الدينى مُتعسف وغير عادل أو منطقى فعندما يضع اليوم الآخر بكل فرضياته وخيالاته من مقومات الإيمان دون أن يقدم رؤية موثقة وموثوقة لعدم وجود أى دلائل تعطى هذا اليقين وتؤكد هذا الزعم الكبير , فهنا يحق لأى صاحب إدعاء وخرافة أن يطلب هو الآخر التصديق بخرافاته وأوهامه طالما أن الإيمان يُمرر هكذا .
دعونا نخوض فى أسطورة يوم القيامة ونتأمل مدى فنتازيتها وهشاشتها .. * لماذا يوم لهدم المسرح ولملمة الأوراق والإنصراف . نسأل بداية لماذا يوم القيامة ؟! ..وما معنى نهاية المشهد الوجودى ؟! .. وماالمانع أن يستمر الوجود والحياة فى ديمومة مستمرة ليحاسب البشر فور وفاتهم !! . فكرة إنتهاء المشهد الوجودى وإسدال الستار على فصول الحياة يجعلنا أمام مسرحية بالفعل هكذا كانت بداياتها وهكذا نهايتها .. لنسأل ما المانع من الإستمرار والديمومة كفعل وجودى ؟!.. وماذا يضير الإله إذا إستمر الوجود ؟! ..أم أننا أمام رغبة إلهية إنتهت عند هذا الحد , فقد سئم المشهد الإنسانى ويريد لملمة الأوراق والإنصراف .. هل نعتبر وجودنا بذلك نزوة إلهية .؟!
فرضية أن الله أزلى أبدى والوجود الإنسانى مُنتهي ومُحدد بما له من إبتداء وإنتهاء مهما طال مدة بقاءه على الأرض , فهذا يعنى أن وجودنا لا يساوى شيئاً أمام الوجود الإلهى الأزلى الأبدى لنكون بمثابة نقطة على خط مستقيم لانهائى .. سيصبح تاريخ الوجود الإنسانى كله بمثابة لحظة فى تقويم الإله بل قيمة تقترب من الصفر .! هل لنا أن نتصور أن القضية الإلهية مهمومة بذلك الصفر بدءا ً من بداية الخلق والإعداد والترتيب والإمداد بالكتب والرسل ثم الرصد لحين الإنتهاء وكل هذا فى داخل اللحظة .!
هل لنا أن نسأل ماذا بعد ؟!! ..ماذا بعد إنهاء الوجود ؟!! ..ماذا بعد الخراب وتسكين البشر كالدجاج فى الجنه والجحيم ؟!..هل سيكون هناك معنى أم العدم والعبثية واللامعنى هو النتاج ؟!.. لقد توقفت عقارب الساعة ومعها اللامعنى واللاغاية , اللاشئ والعدم والعبثية , فلا يوجد فعل وقضية حياة .. لا توجد قضية وجودية للإله والإنسان , فالخط يمشى مستقيما ً بلا معنى .
لا يستطيع أحد أن يدعى بأن إنتهاء وجودنا يحمل إحتمالية تكرار المسرحية بممثلين آخرين فالأسطورة فى كل ملامحها لم تعطى أى بشارة عن ذلك , بل بالعكس إعتبرت مشهدها هو المشهد الختامى للوجود , ولو تسايرنا جدلا ً مع هذا الخيال الإضافى الإفتراضى فسنرجع للمربع الأول ونقول وماذا يمنع إذن أن يستمر الوجود الحياتى الإنسانى بلا إنتهاء .
* الحساب أولا بأول فلا تؤجل عمل اليوم للغد . يوم القيامة هو لحساب كل البشرية عبر كل الأزمان وتحديد مصير كل إنسان وأين سيكون مصيره .. لنقول هنا ما ضرورة هذا اليوم ؟! .. فإذا كان لحساب البشر فما الذى يجعل مليارات البشر ينتظرون الممتحن الأخير فى صالات إنتظار ولمدة آلاف السنين !! .. لماذا لا يتم حسابهم أولا ً بأول !.. لماذا لا يتحدد مصيرهم فى الجنه أو الجحيم فور وفاتهم ولا ينتظرون فى صالات الإستقبال حتى ينتهى الممتحن الأخير من كتابة إجابته .!
يمكن تفهم فكر الإنسان القديم فى إختياره ليوم القيامة كنهاية للوجود ولماذا حدد هذا اليوم فى نهاية الزمان للحساب بدلا أن يُحاسب المرء فور وفاته لينال حظه من الجنه أو الجحيم , فمبدع الأسطورة إهتم بقضية الجسد فهذا هو كل ما يعنيه من الوجود .. فالجسد هو الهوية والقميص الذى يرتديه والمحتوى الذى لا يعرف غيره .. الجسد هو مُستقبل اللذة والألم ولا معنى أو تعريف للحياة إلا من خلال الجسد فهو ببساطة حياة ولغة ووجود الإنسان . لن تستقيم أى فكرة أو أسطورة بدون أن يكون الجسد حاضراً وفاعلاً فى المشهد وكل المشاهد , ومن السهولة بمكان أن نتلمس من خلال الأساطير الدينية متع واضحة الملامح للذة الجسدية فى العالم الآخر كالطعام والشراب والجنس .. كما يمكن أن نتلمس الخطوط الأولى لفكرة أهمية الجسد فى الخلود من خلال إعتقاد المصريين القدماء والتى سبقت الأديان الإبراهيمية بأهمية الجسد فلم يتوانوا عن حفظه بتحنيطه حتى يبقى سليما لتحل فيه الروح يوم البعث .
عندما يفكر الإنسان فى الحياة واللذة فبواسطة هذا الجسد وذاك القميص الذى لم يرتدى غيره ولا يعرف غيره , لذا هو يريده مصاحبا ً معه فى الخلود , ولكن مُبدع الأسطورة يرى أن أقرانه يموتون وأجسادهم مازالت فى القبور فلا يستطيع إدعاء أنهم يتمتعون أو يتألمون فى ساحة الخلود من جنه أو جحيم , فمازالت رفاتهم ماثلة أمام عيونى وعيونهم ..إذن هم لم يحاكموا بعد وسنحاكم جميعا فى يوم إنتهاء الوجود حيث تُبعث أجسادنا من القبور بطريقة سحرية لنعيش الخلود فنتمتع ونتلذذ ونتألم بأجسادنا . الجسد هو المهم فى هذه المعضلة فلتؤجل كل الترتيبات لهذا اليوم المشهود الذى يتم فيه قيامة الموتى من القبور بشكل سحرى وليتغاضى المؤمن بهذه القصة الخرافية عن حقيقة أن عشرات المليارات من البشر ماتوا ولا يوجد لهم قبور فقد تحللوا وذابوا فى الطبيعة بدون أى شواهد ..بل منهم من وجد سبيله فى خزان وقود سيارتنا .!
سيتغاضى أصحاب الأسطورة أيضا ً بأن أجسادنا ليست ملكا ً لنا فنحن إستعرنا جزيئاتها من كيانات حية أخرى لنكون أنسجتنا البنائية وسيأتى اليوم الذى نموت لنرد الوديعة التى لدينا لتدخل فى التكوين البنائى لكيانات حية أخرى تؤسس نسيجها البنائى ولتستمر هذه الحالة لملايين الدورات الوجودية ..لنسأل بعدها ونقول كيف يتم تجميع كل الجزيئات المبعثرة والمتداخلة ولكنهم قد يبدارون بالقول أن الذى خلقها قادر على تجميعها بكل بساطة ودون أى إحساس منهم بهول هذا الإدعاء فالرغبة فى الخلود ستعمى كل العقول والأبصار !.. ولكن القصة لها شجون أخرى ولا تريد أن تمر هكذا فالجزيئات المكونة لأجسادنا كانت فى جسد إنسان سابق وسيناله إنسان لاحق فهى ليست ملكا ً خاصا ً لنا .
* حلول عنيفة بلا معنى . لو تتبعنا مشهد يوم القيامة وفق النصوص التوراتية والمسيحية والإسلامية سنرى أننا أمام مشهد للخراب الكامل وفعل تدميرى عنيف بلا معنى أو مبرر !!..فحسب الأسطورة فإن الإله يريد حساب البشر وهو فعل لا يستحق أن يتم هدم المسرح الوجودى بكل هذه الفوضى !.. فإذا كان الرب يريد القصاص فما الداعى لتدمير ممتلكاته ومقتنياته .! نجد فى التوراة { ولولوا لأن يوم الرب قريب قادم كخراب من القادر على كل شئ } (أشعياء 13 , 6 ) { هوذا يوم الرب قادم قاسيا بسخط فإن نجوم السموات وجبابرتها لا تبرز نورها تظلم الشمس عند طلوعها والقمر لايلمع بضوءه } ( أشعياء , 13 , 9 ) ( فهوذا يأتي اليوم المتقد كالتنور وكل المستكبرين وكل فاعلي الشر يكونون قشا ويحرقهم اليوم الآتي قال رب الجنود) (ملاخي 4-1) (ذلك اليوم يوم سخط يوم ضيق وشدة, يوم خراب ودمار, يوم ظلام وقتام, يوم سحاب وضباب) ( صنفيا1-15)
أما الانجيل فلا يختلف كثيرا ولكن يجعل المسيح فى المشهد الرئيسى : يقول السيد المسيح "29 «وَلِلْوَقْتِ بَعْدَ ضِيقِ تِلْكَ الأَيَّامِ تُظْلِمُ الشَّمْسُ، وَالْقَمَرُ لاَ يُعْطِي ضَوْءَهُ، وَالنُّجُومُ تَسْقُطُ مِنَ السَّمَاءِ، وَقُوَّاتُ السَّمَاوَاتِ تَتَزَعْزَعُ. 30 وَحِينَئِذٍ تَظْهَرُ عَلاَمَةُ ابْنِ الإِنْسَانِ فِي السَّمَاءِ. وَحِينَئِذٍ تَنُوحُ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ، وَيُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ آتِيًا عَلَى سَحَاب السَّمَاءِ بِقُوَّةٍ وَمَجْدٍ كَثِيرٍ. 31 فَيُرْسِلُ مَلاَئِكَتَهُ بِبُوق عَظِيمِ الصَّوْتِ، فَيَجْمَعُونَ مُخْتَارِيهِ مِنَ الأَرْبَعِ الرِّيَاحِ، مِنْ أَقْصَاءِ السَّمَاوَاتِ إِلَى أَقْصَائِهَا. 32 فَمِنْ شَجَرَةِ التِّينِ تَعَلَّمُوا الْمَثَلَ: مَتَى صَارَ غُصْنُهَا رَخْصًا وَأَخْرَجَتْ أَوْرَاقَهَا، تَعْلَمُونَ أَنَّ الصَّيْفَ قَرِيبٌ. 33 هكَذَا أَنْتُمْ أَيْضًا، مَتَى رَأَيْتُمْ هذَا كُلَّهُ فَاعْلَمُوا أَنَّهُ قَرِيبٌ عَلَى الأَبْوَابِ."
“وفيما هو جالس على جبل الزيتون تقدم التلاميذ على انفراد قائلين قل لنا … ما هي علامة مجيئك وانقضاء الدهر) متى 24-3 “فمتى نظرتم رجسة الخراب التي قال عنها دانيال قائمة في المكان المقدس ليفهم القارئ” متى 24 15 “لانه تقوم امة على امة ومملكة على مملكة وتكون مجاعات واوبئة وزلازل في اماكن ولكن هذه كلها مبتدأ الاوجاع…. ويبغضون بعضهم بعضا) متى 24-7
القرآن إنساق إلى نفس المشهد الدرامى العنيف ونقل نفس الصور وأضاف المزيد . جاء في سورة التكوير ((إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ)) الكهف (( يوم نسير الجبال وتري الارض بارزه وحشرنهم فلم نغادر منهم أحدا)). طه (( ويسئلونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا )). طه (( فيذرها قاعا صفصفا)). طه (( لا تري فيها عوجا ولا أمتا )). الفرقان (( ويوم تشقق السماء با لغمم ونزل الملائكه تنزيلا )). الطور (( والبحر المسجور)). الطور (( يوم تمور السماء مورا )). الطور (( وتسير الجبال سيرا )). النجم (( والنجم اذا هوى )). الزلزله (( اذا زلزلت الارض زلزالها)). القيامة 32و33 صورة تتناحر فيها الامم المختلفة “في يوم القيامة يكفر بعضكم بعضا ويلعن بعضكم بعضا( يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت” “ولكن كذب وتولى ثم ذهب الى اهله يتمطى”) {اذا السماء انفطرت واذا الكواكب انتثرت واذا البحار فجرت واذا القبور بعثرت} الانفطار 1-4 {القارعة ما القارعة … يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش} القارعة 1-5 “يوم نطوي السماء كطي السجل” الانبياء 104 وفى حديث لمسلم في صحيحه عن الْمِقْدَاد بْن الأَسْوَدِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: ) تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ، قَالَ سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ: فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا يَعْنِي بِالْمِيلِ، أَمَسَافَةَ الأَرْضِ أَمِ الْمِيلَ الَّذِي تُكْتَحَلُ بِهِ الْعَيْنُ. قَالَ: فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا، قَالَ: وَأَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ
تندهش هنا من هذه الحلول العنيفة الغير مُبررة والتى لن تجد أى منطق يسعفها , فلو سلمنا جدلا ً أن يوم القيامة هى نهاية المسرحية الإنسانية التى أداها البشر حسب السيناريوهات المُعدة سلفا ً ليتم حسابهم على ما صنعوه وفقا ً لمعرفة إلهية مُسبقة ومُدونة لأفعالهم التى سيفعلوها قبل وجودهم ! ..لتكون حياة الإنسان عبارة عن مسرحية هزلية بكل معنى الكلمة , فأنت ستفعل هذا الفعل ولن تخرج عن الدور المنوط بك فلا مكان للإرتجال فأنت ممثل فقط ستردد الحوار والسيناريو وتتحرك كما يمليه المخرج عليك دون الخروج عن النص وإلا هددت المعرفة والعلم الإلهى .!! إذا كان صاحب المسرح قد مَل من الممثلين فعليه تسريحهم ولا معنى إطلاقا ً أن يهدم المسرح بكل ما فيه ...فما معنى أن نجد صاحب مصنع يحاسب عماله المُجدين والمُتراخين ولكنه يحطم المصنع بمبانيه ومعداته قبلها فلا يترك بالمصنع حجر على حجر .! الأسطورة هى نتاج غرور إنسانى وصل لحالة " أنا ومن بعدى الطوفان " فلا حياة ولا وجود من بعدى أو هو إدراك ساذج نرجسى بأن الوجود جاء من أجل الإنسان .
يبدو أن مبدع الاسطورة كان لخياله مايبرره ...فأما أن يكون قد عز عليه أن يكون هناك وجود بدون وجوده وهى حالة نفسية فى النهاية واردة فى السلوك البشرى ..أو أنه لا يتصور الأمور بدون بدايات ونهايات وهو فكر إنسانى بسيط , فالذهن لا يتحمل فكرة النهايات المفتوحة .. أو هى رؤية نفسية كارهة للوجود الأرضي الذى حرمها من الحياة والبقاء فلنحطمها قبل أن نذهب .. أو يمكن أن نعزى فكرة الدمار الشامل كوسيلة إتخذها الكهنه وحاملى المباخر للترهيب وخلق فوبيا أهوال يوم القيامة فيتم ضمان إنسحاق وإنبطاح المؤمنين أمام المشروع الدينى وخصوصاً أن فكرة يوم القيامة كانت حاضرة فى ذهن الأنسان القديم وإعتقاده أنها ستتم قريبا فى جيله وهو ما سنوضحه لاحقا .
* العنف سيد الموقف دائما ً . ملاحظة أخرى فى المشهد العنيف بأسطورة القيامة أنه لم يكتفى بالفعل الإلهى كمنفذ وفاعل لهدم المسرح ولكن أطفى مواقف نفسية وثقافية بثها المُبدع ليُعبر بها عن حدود آفاقه الثقافية والنفسية .. فلا تعرف ما معنى أن تقوم أمة على أمة ومملكة على مملكة .!! ومامعنى أن تتناحر الأمم المختلفة ويكفر ويلعن بعضها البعض فى هذا اليوم المرعب الجلل سوى أننا أمام رؤية وعيون إنسان ذلك العصر الذى لم يتحرر من منهجه العنيف تجاه الآخر فأسقطه على المشهد الأخير للحياة . الطريف أننا نجد رؤية إسلامية جعلت الصراع الإسلامى اليهودى مشهد مهم وبشارة ليوم الساعة فكأن الصراع لابد أن يكون أبديا ً, ! وكأن يوم القيامة بأهواله لا يسمح بالهدنه والإنصراف عن هذا الصراع التاريخى .!
روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم، يا عبدالله، هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله ! إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود" - رواه البخاري. أن نتحسس هكذا عداوة تريد الإمتداد حتى تطال اليوم الوجودى الأخير يعطى لنا رؤية عن سلوكية ومنهجية إنسان أصيل فى عداوته وكراهيته حيث هكذا كانت درجة تطوره الحضارى , ولكن المؤسف هو تصدير وتوريث هذا الحقد والكراهية للأجيال اللاحقة كأنه شئ قدرى .
لن تخرج النصوص الدينية التى تناولت أسطورة القيامة عن كونها فكر وإبداع إنسانى واضح الملامح والخطوط تمت صياغته بسذاجة ووفق معارف شديدة التواضع والخلل ..فعندما تمنحنا النصوص مشهد سقوط النجوم حينها سنتوقف أمام هذه الصورة الصافعة لعقولنا ,فكيف لملايين النجوم والتى يعادل الواحد منها حجم شمسنا أن تسقط على الأرض ..كيف للنجم الواحد الذى يعادل أكثر من مليون مرة حجم الأرض أن يسقط على كوكبنا فما بالك بملايين النجوم .!!!.. هذا شبيه بتساقط جبال على سطح كرة صغيرة .!..يمكن أن نفسر هذه الصورة إن إنساننا القديم تصور النجوم كما يراها بحجمها كنقط صغيرة فى السماء لتسقط هذه المصابيح على الأرض كالشهب.
ما معنى طى السماء كالكتاب ..هل السماء مسطحة ليمكن طيها أم هى فضاء كونى ..هى فى منظور إنساننا القديمة طبقة أو قبة أو سقف يحيط بالأرض كما فى الصالات الرياضية المغطاة فتصور أنها كخيمة يمكن طيها . عندما يُذكر أن الشمس ستقترب من الأرض على بعد ميل من الأرض لتصيب الإنسان بالحر والعرق الشديد فهى صورة بسيطة من إنساننا القديم الذى سطر أسطورته وفق معارفه الساذجة فهو تصور أن الحر الشديد هو نصيب البشر عند إقتراب الشمس من الأرض على بعد ميل واحد ولا يعلم حبيبنا أننا لن نتصبب عرقا ً حينها ولكن سنتحول لحالة غازية متأججة .!!
* شطط للأسطورة . كون أسطورة يوم القيامة فكر وإبداع بشرى فلم يقدر مبدعيها والمساهمين فى إنتاجها أن يحصروها فى حيز حدث غيبى مستقبلى على من يستقبلها أن يعتقد بها هكذا لتأخذهم الجلالة والشطط ويتنبأوا بقرب حدوثها .!.. فبالرغم من نفى أى معرفة لأحد بيوم القيامة فهو فى حيز السر الإلهى لا يشاركه أحد فى معرفة هذا اليوم , إلا أن هذا لم يمنع بتنبأ الأنبياء بأن يوم القيامة سينال الجيل المعاصر وهذا يثبت أننا أمام نصوص ورؤية بشرية تتحمل أن تتناقض مع نفسها وفق ظرف موضوعى حتم عليها ذلك .
دعونا نقرأ بعض النصوص الدينية فى اليهودية والمسيحية والأسلام . فى التوراة { ولولوا لأن يوم الرب قريب قادم كخراب من القادر على كل شئ } (أشعياء 13 , 6 ) { هوذا يوم الرب قادم قاسيا بسخط فإن نجوم السموات وجبابرتها لا تبرز نورها تظلم الشمس عند طلوعها والقمر لايلمع بضوءه } ( أشعياء , 13 , 9 )
فى المسيحية . يقول يسوع متنبأ عن نهاية العالم :سيَجيءُ اَبنُ الإنسانِ في مَجدِ أبـيهِ معَ ملائِكَتِهِ، فيُجازي كُلَّ واحدٍ حسَبَ أعمالِه. الحقَّ أقولُ لكُم: في الحاضِرينَ هُنا مَنْ لا يَذوقونَ الموتَ حتّى يُشاهِدوا مَجيءَ اَبنِ الإنسانِ في مَلكوتِهِ)). (متى 16: 27-28) وتَظهَرُ في ذلِكَ الحينِ علامةُ اَبنِ الإنسانِ في السَّماءِ، فتَنتَحِبُ جميعُ قبائِلِ الأرضِ، ويَرى النّاسُ اَبنَ الإنسانِ آتـيًا على سَحابِ السَّماءِ في كُلِّ عِزّةٍ وجلالٍ. فيُرسِلُ ملائِكَتَهُ بِبوقٍ عَظيمِ الصَّوتِ إلى جِهاتِ الرّياحِ الأربعِ ليجمَعوا مُختاريهِ مِنْ أقصى السَّماواتِ إلى أقصاها... الحقَّ أقولُ لكُم: لن ينقضِيَ هذا الجِيلُ حتّى يتِمَّ هذا كُلٌّهُ. (متى 24: 30 -34) وقالَ لهُم: ((الحقَّ أقولُ لكُم: في الحاضِرينَ هُنا مَنْ لا يَذوقونَ الموتَ، حتّى يُشاهِدوا مَجِـيءَ مَلكوتِ اللهِ في مَجدٍ عَظيمٍ)). (مرقس 9 : 1)
وماذا عن الأسلام . ينذر محمد الكافرين فى زمنه عذابا قريبا ً" إنا أنذرناكم عذابا قريبا ً يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا " النبأ4 فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم " محمد 18 ونحصل على أحاديث أيضاً تعطى معنى واضح عن قرب يوم القيامة فى زمن النبى .. ففى صحيح البخارى – الادب : حدثنا عمرو بن عاصم حدثنا همام عن قتادة عن أنس أن رجلا من أهل البادية أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله متى الساعة قائمة قال ويلك وما أعددت لها قال ما أعددت لها إلا أني أحب الله ورسوله قال إنك مع من أحببت فقلنا ونحن كذلك قال نعم ففرحنا يومئذ فرحا شديدا فمر غلام للمغيرة وكان من أقراني فقال إن أخر هذا فلن يدركه الهرم حتى تقوم الساعة . وفى صحيح البخارى – الرقاق – سكرات الموت حدثني صدقة أخبرنا عبدة عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت كان رجال من الأعراب جفاة يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسألونه متى الساعة فكان ينظر إلى أصغرهم فيقول إن يعش هذا لا يدركه الهرم حتى تقوم عليكم ساعتكم قال هشام يعني موتهم . وفى صحيح مسلم – الفتن وأشرطة الساعة – قرب الساعة حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا حدثنا أبو أسامة عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت كان الأعراب إذا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه عن الساعة متى الساعة فنظر إلى أحدث إنسان منهم فقال إن يعش هذا لم يدركه الهرم قامت عليكم ساعتكم .
أذن ماذا نسمى هذه التصريحات على لسان المسيح ومحمد ..هل نقول أنهم أخطأوا أم تهوروا ...أم ماذا ؟ . إدعاء الأنبياء بقرب يوم القيامة هى عملية ترهيب بكل معنى الكلمة تبحث عن خلق مناخ من الرعب والفزع فى جموع البشر بغية إنسحاقهم وإنبطاحهم تحت نعال المشروع الدينى الأجتماعى ..أن يمنح للمشروع الدينى أرضية للحضور من خلال الخوف الذى يتسلل فى الضلوع . لا يخلو الأمر من إستحضار منهجية مبدأ باسكال , فنحن لن نخسر شيئا ً إذا صدقنا هذا النبي وتجاوبنا مع إطروحاته فلعل كلامه يكون صحيحاً ونواجه أهوال يوم القيامة , فحينئذ نكون جاهزين لمواجهة ويلات هذا اليوم .. ولكننا سنخسر كثيرا ً إذا ضربنا بكلامه عرض الحائط وكان هناك مثل هذا اليوم .! أتلمس كل العذر لأجدادنا الذين إنسحقوا وراء هذه الخرافة ..فمازال أحفادهم ينسحقون وراء هذا الكلام القديم ويجددوا مبدأ باسكال على الدوام ... الفكر الدينى هو إحتياجات نفسية تم إستثمارها من قبل أنبياء تحسسوا نفسيات تحت وطأة أملها وخوفها وجهلها وعلى إستعداد للتماهى فى مثل هكذا قصص .
* الله بعد القيامة ..هناك خلل ما . المسرحية إنتهت وتم هدم المسرح والكواليس وتم تسكين الفراخ فى عششها فذهبت مجموعة إلى النعيم وذهبت أخرى إلى الجحيم وإنقضى الأمر .. فأين الله كوجود وفعل فلم يعد هناك خلق ولا ترتيب ولا رصد ..إنقضى عهد التدوين والمراقبة .. لم يعد هناك أى داع للتدخل فى الطبيعة وترتيب الأحداث فالمسرح قد دُمر ولم يعد به شئ . وسط هذا الخراب والفراغ إنتهى كل شئ , ولكن هذا الحدث لن يترك المنظومة الإلهية دون أن يثير حولها عاصفة من التساؤلات والجدل .. فنحن هنا أمام صفات إلهية تتعطل عن الفعل والتفعيل بالرغم أنها صفات مطلقة غير محدودة . فهل العدل والرحمة والمغفرة وغيرها من الصفات المرتبطة بالوجود الإنسانى ستكون فاعلة أم خاملة فلم يعد هناك وجود إنسانى تتفاعل معه صفات الرحمة والمغفرة والعدل فقد قُضى الأمر ولم يعد هناك فعل يجعل الصفة المطلقة تتفاعل .
مبدع الأسطورة لم يشفق بحال إلهه ولم يعيره أى أهتمام لأنه ببساطة إبتكر الأسطورة لذاته وتحت رغبته الملحة فى البقاء والخلود نسج أسطورته فيكون الإله مجرد وسيلة لتحقيق أمانيه وأحلامه وأوهامه ولا يعنيه أن يصيب الفكرة الخلل والإضطراب .
نشوء أسطورة يوم القيامة والعالم الآخر جاءت من عوامل عدة تضافرت فأنتجتها يأتى فى مقدمتها أنها جاءت من رحم الحلم الإنسانى بالخلود والبقاء فبإنفصال الإنسان عن الطبيعة بالوعى وإدراكه للحظة الماضية وورود لحظة مستقبلية تحمل بين طياتها الموت بما يمثله من فناء وعدم وتبدد ليتولد الألم الإنسانى الأكبر المتمثل فى حجم الخوف والرعب من تلك اللحظة التى سيصبح فيها ساكناً بائساً غير قادرعلى الحركة والحياة بل فريسة التحلل والتقسخ ووجبة شهية لدود الأرض لينشأ رفض شديد للموت داخل العمق الإنسانى لم ينفى حقيقة الموت , فلا سبيل لتجاوز هذا الألم سوى خلق وهم بحياة أخرى يكون الخلود هو سمته الرئيسية , من هنا جاءت الأسطورة لتلقى القبول الشديد فهى تعطى أمل وحلم جميل وتتجاوز وحشة الموت .
يأتى الفكر الدينى كمروج رئيسى لأسطورة البعث ويوم الحساب فلا يتوانى أن يجعل هذا الإعتقاد هو من مقومات وأساسيات الإيمان , فمن أنكرها فهو خارج الإيمان ويستحق الدينونة الكبرى , فالفكر الدينى بترويجه ليوم القيامة والبعث هو يُعضد ويُرسخ من منظومته فلا دين بدون منهجية العصا والجزرة التى تسمح بالهيمنة والتأثير على التابعين , فبدون التلويح بالعصا ستفقد المنظومة الدينية الإعتبار وتصبح بمثابة فكر تأملى فلسفى يقدم رؤيته عن الحياة والوجود .
لا يوجد فكر دون مصالح وغايات إنسانية تمنحه الوجود والبقاء - لذا تم تطويع فكرة البعث والثواب والعقاب لخدمة مصالح النخب والطبقات السائدة فهكذا أى فكر حتى لو إرتدى رداءا ً مقدسا ً .. فالنخب والسادة مرروا توجهاتهم ومصالحهم من خلال التشريعات التى تخدم مصالحهم فهناك إله ينزعج من اللصوص والزناة الذين يعتدون على أملاكنا ونسائنا وسيقتص منهم فى يوم القيامة ليشويهم فى جحيمه الأبدى , ولم تمنع الأمور بتقديم تعزية أو جرعة تخديرية للإنسان البائس بأنه سيسترد حقوقه ويقتص من ظالميه فى يوم الحساب فيستطيع أن يتحمل الحياة وسط قهره وتمر أيامه بسلام وينعم الظالمين والطغاة . يوم القيامة هى وهم الإنسان بتحقيق الحياة مرة ثانية وعبور الموت ليصب غضبه على الوجود الأرضى الذى حرمه الإستمرارية فى الحياة فهاهو سينال الحياة خالدا ً فى عالم لاورائى .. فلينهار هذا الوجود الأرضى الملعون ولتسقط النجوم وتخفت الشمس ويظلم القمر .
مازال يوم القيامة يحمل المزيد من التأملات والخواطر فهى قصة الإنسان مع الحياة والوجود والموت ..أأمل فى مقال قادم المزيد من الإبحار فى العمق الإنسانى الذى أنتج الأسطورة[/b] | |
|