إذا كانت الأنظمة الاستبدادية
ساهمت بحكم طبيعتها المتخلفة واللا تاريخية في إنضاج الثورات الشعبية ورفع
سقف مطالب الشعوب في إسقاطها فإننا نلاحظ أيضا بأن الانتفاضات العربية في
تونس ومصر وسوريا واليمن …دخلت خلال صراعها لإسقاط الأنظمة في نوع من
التجربة الديمقراطية بمعنى نوع من التربية الديمقراطية في التفكير والخبرة
والممارسة والعلاقات والمواقف وهذا ما حدث في شوارع تونس وميدان التحرير في
مصر وفي اليمن وسوريا( وهذا ما ينبغي تعميقه في سوريا واليمن ميدانيا من
خلال التنظيمات الذاتية المحلية والتنسيقيات لإفشال مخطط الاستبداد الذي
يراهن حاليا على إستراتيجية التدمير الذاتي للانتفاضة الشعبية بالانقسام
والحرب الأهلية لكن من الصعب الوقوع في فخ الاستبداد لان الإشكال السياسي
الاجتماعي الثقافي السائد جعل الشعوب تجتر بنمط تكراري قهري واقعها
الاجتماعي التاريخي والعمل على إعادة إنتاجه وهي تقاوم دون وعي منها
التغيير والتحديث أي كانت تكافح ضد مصلحتها لأنها كانت لا ترى أفقا أخر
للوجود والحياة والعلاقات .
هذا الإشكال قد زال اليوم - إلا في البحرين ولبنان والجزائر والمغرب
وايران …التي انطلق فيها الاحتجاج الشعبي من خلال القوى السياسية السائدة
كمعارضة يسارية أو إسلامية مما عطل دينامية الحراك الشعبي لكسر حلقة
الإشكال السياسي الذي اشرنا إليه فحكم على التحول النوعي بنوع من النكوص
والمد والجزر الذي لن ينعتق منه إلا بالرفض للمشهد السياسي الاجتماعي كنظام
ومعارضة ومعانقة الأفق الجديد - تكلم الربيع العربي رافضا الخنوع والقهر
والاستبداد لان أفقا جديدا من الوجود الاجتماعي الحي اخذ في التشكل
والتبلور أساسه الرغبة في استعادة الإنسان لقيمته واعتباره في وجه التنكيل
والسحل والقتل والتدمير للقيم العامة من قبل المستبد الذي كان يمارس كل ذلك
بتخف وتستر والآن انكشف على حقيقته في استباحة الحرمات والدماء من النساء
والأطفال والشيوخ فسقط قناع المؤسسات المزيفة وكشرت العائلية الحاكمة عن
آخر ما استجد في مخازنها من ترسانة المقاربة الأمنية لحماية تسلطها ونفوذها
ومصالحها الضيقة فاتضح للجميع أنه لا وجود لشيء اسمه الدولة وبالتالي
لايمكن المراهنة على الحوار والاصلاح بل هناك سلطة عائلية ولائية لا علاقة
لها بالشعب وطوائفه أو مذاهبه وهذا الأفق الجديد الذي حرر الصيرورة
التاريخية من النمط التكراري السائد يدل على الرفض الشعبي لكل أشكال
العلاقات والمعارف والمواقف والسياسات السائدة برفعه لشعارات الدولة
المدنية الديمقراطية والتخلص النهائي من العصبيات التي تؤسس السلطة
العائلية ولا تؤسس الوطن الذي يسع جميع المواطنين بتنوعهم وتعددهم
واختلافهم كثراء ثقافي مجتمعي حيث المواطنة الحقيقية لذا لاينبغي اليأس
من طول المعركة في اليمن وسوريا …بل ينبغي مضاعفة الجهود والثقة في الأفق
الجديد الذي لاح والذي يتناقض كليا مع الحرب الأهلية التي يمارسها النظام
ضد شعبه الأعزل وهذا الأفق الجديد يحتاج إلى تربية لها طول النفس وميدانية
خاصة على مستوى الفعل السياسي النضالي البعيد كثيرا عن أشكال المعارضة التي
كانت سائدة والعمل على بلورة مداخل سياسية تنظيمية من خلال التنسيقيات تسع
الجميع مما يسمع ببناء عقلية مؤسساتية ديمقراطية مرنة ومنفتحة ترحب بالنقد
البناء والحوار العقلاني الهادئ البعيد عن الانفعال والتسرع والتصلب
الذهني انسجاما مع الأفق الجديد الذي رأته الشعوب العربية بثقة عالية وهي
لذلك صامدة من أجل العيش وفق نموذج جديد للحياة و الوجود والعلاقات
والتفاعلات …مع التفاوت والاختلاف في إنضاج البديل كمفهوم سياسي اجتماعي
وثقافي يتناقض كليا مع كل ماهو سائد رسميا ومعارضة .
وهذا التشكل الذهني و العقلي والسياسي والاجتماعي البديل لايمكن ان
يكتمل باعلان سقوط الأنظمة لأنه سيرورة تحتاج الفعل والمتابعة النقدية
المسؤولة لان التغيير الذي يؤسسه واقع بديل يتطلب الجهد وطول النفس في
مستوى التضحيات التي قدمت والشهداء وفي مستوى الحرية والكرامة والديمقراطية
…كقيم تبنى وتنجز في الفكر والحياة المجتمعية فهي لا تنزل من السماء ولا
تنتجها المؤسسات العسكرية – مصر مثلا – أو الأمنية – كما يطرح القايد
السبسي بتونس مثلا – وليست جاهزة او ناجزة( المبادرات العربية او اقتراحات
المعارضة ) بل الشعوب هي التي تنتجها بتنسيقياتها ولجانها المدنية
والسياسية والثقافية وبوسائل واليات وأشكال نضالية مختلفة . أما ما
يسمى بالقوى السياسية والمدنية الديمقراطية واليسارية الجذرية بما فيهم
الشيوعيون فهذه القوى تتحمل قسطا من المسؤولية في تكريس وتأبيد الوضع
القائم لان جميع أشكال الرفض التي أعلنوا عنها عبر تاريخ مصر وسوريا
والعراق ولبنان وتونس الحديث والمعاصر في أدبياتهم النظرية والتنظيمية
والايديولوجية لم تتجاوز التعبير عن موقف التغيير دون الذهاب الى ممارسة
التغيير كأسلوب حياة ونمط تفكير الشيء الذي جعلهم بمعزل عن حقيقة الفكر
الديمقراطي والثوري كصيرورة تاريخية يؤسسها السؤال النقدي والمراجعات
النقدية للتجربة والممارسة النظرية والسياسية وفق شجاعة النقد والنقد
الذاتي الذي يؤهل هذه القوى للانفتاح والإثراء والتطوير والاستقلال على
مستوى التفكير والممارسة الشيء الذي لم يتحقق ولم يميزها عن تحولات النظام
السياسي بين الانغلاق العسكري والانفتاح الكمبرادوري فظلت عاجزة الى ان
تلقت صدمات وهزات التحولات في أوربا الشرقية وروسيا عندها غنت البروسترويكا
بنوع من السعال الديكي لأنها كانت بعيدة عن كل فئات الشعب ذات المصلحة في
التغيير وعاجزة عن التعبير عن مصالح وطموحات الجماهير الشعبية مما يعد
تواطؤا مع النظام في إفقار الصراع المجتمعي من الصراع السياسي وجعله ميدانا
لسيطرة وهيمنة الممارسة السياسية للنظام في نوع من التحالف المتفاوت
الجاذبية والموقع في النهب والفساد والتدمير للاقتصاد الوطني بتهريب ثرواته
وتضخيم مديونيته مما فتح الباب لسياسة البحث عن الاستثمارات الأجنبية
المباشرة كسياسة دنيئة لعرض البلد للبيع بما فيه ومن عليه وفي هذا السياق
الذي سارت فيه كل الأنظمة العربية كانت تؤشر بان الانتفاضات الجديدة التي
أنتجها انهيار- ما يسميه النظام العزوف السياسي للشعب - المشهد السياسي
الشكلي الرسمي والمعارضة التقليدية التي اشرنا إليها باسم القوى
الديمقراطية والراديكالية من خلال مقاطعة كل فئات الشعب لكل هذه القوى
. فالانتفاضات هي نتيجة الضرورة الموضوعية أو ما يسميه ابن خلدون العمران
الذي يتحرك في اتجاه انهيار النظام في وقت يعجز مستواه الذاتي عن الصمود
كإصلاح . وهشاشة هذا العامل الذاتي الملجوم بضرورة العمران هو الذي أربك
الممارسة السياسية للأنظمة المستبدة القائمة أصلا على نفي التاريخ مما
جعلها تخطئ قراءة الأحداث والصيرورة التاريخية فاندفعت بشكل همجي لتعمق
وتجذر مطالب الشعب في سقوطها ومحاكمتها وكما يقال حفرت قبرها بنفسها .
أما بالنسبة للقوى الإسلامية اعتقد أن التشبث بأهداف ومطالب الثورات
العربية في رفض السائد كاستبداد قهري في السياسة والفكر والحياة المجتمعية
الثقافية على أرضية الحرية والكرامة وفق عقد سياسي اجتماعي ديمقراطي يمكن
لهذا المسار أن يستوعب الاثنيات والأصوليات والطائفية بمعناها السياسي كجزء
من تركة الاستبداد المتفسخ والمنحل .والضرورة الموضوعية نفسها تطلق العنان
للإرادة الذاتية للشعب المقهور مما يمنحه امتيازا اجتماعيا وسياسيا للكفر
ليس فقط بقطع الشطرنج بل بالرقعة وقواعدها الرسمية والمعارضة وبالكثير من
الموروث في السلوك والتفكير والمواقف والعلاقات .
انهار النظام العربي بسهولة لان أساسه كان هشا رغم ما يبديه نظام الأسد
من همجية في قتل الشعب فانه لن يصمد طويلا ويظهر انه بدا يفكر في طريقة ما
للرحيل وان كان التناقض العائلي داخل الأسرة الحاكمة قد يقلب الحسابات
ويؤدي إلى تصفيا ت متبادلة خصوصا وان الدائرة ضاقت عليه ويشعر بالاختناق
مما جعله يعلنها حربا في حق شعبه الأعزل. المرحلة القادمة هي الصعبة في
تاريخ الشعوب العربية لان قطر ومن معها من الدول القروسطية والقوى الغربية
والأمريكية ستربك آفاق الثورات العربية إلا إذا استطاعت الشعوب العربية -
مع العلم أن هذه الانتفاضات لها بعد جماعي وحدوي ويتم التعامل معها داخليا
ودوليا ككيان واحد لذلك تسمى بالثورات العربية أو الانتفاضات العربية أو
الربيع العربي وهذا احد مصادر قوتها لذلك ينبغي من الآن بلورة
إستراتيجية جديدة للتفاعل والتضامن خدمة للمصير المشترك لشعوب المنطقة
بعيدا عن القطرية الضيقة وبعيدا أيضا عن الطرح القومي البائد- بشكل أو بأخر
أن تؤثر على الوضع الداخلي خليجيا بإنضاج عوامل الثورات مما يخلق توازنات
إستراتيجية جديدة في وجه المصالح الغربية في الهيمنة والسيطرة على ثروات
وخيرات ومقدرات شعوب المنطقة وفي التحكم في مصيرها وصناعته.
الأحد أكتوبر 30, 2011 11:23 am من طرف هذا الكتاب