"ما
الذي يريده المتظاهرون أو الثائرون في البلاد العربية؟"، "لماذا يتظاهرون"
و"ما الذي يسعون لتحقيقه من خلال مظاهراتهم؟". غالباً ما يتمّ طرح هذا
النوع من الأسئلة دون أن تتمّ في رأيي مساءلته وتفكيكه، وتتمُّ الإجابة
عليه أحياناً دون أن يتِّم طرحه أصلاً. إنَّ الطرق المألوفة في طرح هذا
السؤال، أو في الإجابة عنه، تُخفي أكثر ممّا تظهر، وتزيد من غموض المسألة
واضطرابها على الصعيد النظري، أكثر من مساعدتها على فهم العوامل والأسباب
التي أدّت وتؤدّي إلى انفجار الثورات في الكثير من البلاد العربية. إنَّ
هذا النوع من الأسئلة يفترض أنّ الثورة يجب أن تكون فعلاً عقلانياً، بمعنى
أنَّها يجب أن تكون مؤسَّسةً بالضرورة على عقلٍ حسابيّ أو أداتي يحدد
الغايات التي يسعى لتحقيقها، والوسائل المناسبة التي تساعده على الوصول
إلى هذه الغايات التي يُفترض أنها يجب أن تكون ممكنة التحقيق من جهة،
وتصبُّ في صالح الشعب والصالح العام من جهة أخرى. وانطلاقاً من هذا
الافتراض يتمّ أحياناً انتقاد الثوار ومؤيّديهم بأنَّهم أشخاصٌ متهوّرون
لايعون غالباً أنَّ نتائج ثوراتهم ستكون مختلفةً، على الأرجح، عن الغايات
التي يسعون إليها، بل ربما كانت مناقضة لها تماماً. وهكذا فإنَّ انتقاد
لاعقلانية الثورة يتجلّى في انتقاد سلبية وسوء معظم نتائجها الحالية أو
المستقبلية، المرَّجحة أو الأكيدة. كما يطال هذا الانتقاد بعض الوسائل
التي يستخدمها الثائرون أو المتظاهرون للتعبير عن مطالبهم وتشمل هذه
الوسائل إحراق الصور، وتحطيم التماثيل أو الأصنام، ورفع سقف المطالب إلى
الحدود القصوى، ومهاجمة أو إحراق أو تخريب بعض المؤسسات الحكومية أو
الخاصة التي يرى المتظاهرون أنها تمثِّل رمزاً للطغيان والفساد وما شابه.
لا أنفي المعقولية النسبية لهذا النوع من الانتقاد، لكنَّني أرى أنّ
المتبنّين لهذا الرأي ينطلقون عموماً من افتراضات غير واقعية وغير مناسبة
رغم منطقيتها. وإلقاء الضوء على هذه الافتراضات غير المعلنة (عقلانية
الفعل الثوري، وضرورة امتلاكه لغايات واضحة ممكنة التحقيق ولوسائل مناسبة
تفضي إلى تحقيق هذه الغايات، وتمنع الوصول إلى نتائج مخالفة ومناقضة لهذه
الغايات الخ) هو خطوة أولى ضرورية لتبيان مكمن الخطأ في طرح، أو في طريقة
طرح هذا النوع من الأسئلة، وفي الإجابات الشائعة المؤسَّسة على طريقة هذا
الطرح.
من وجهة نظري، لا يمكن فهم الثورة انطلاقاً ممّا تريده، وإنَّما
انطلاقاً ممّا لا تريده. فهي فعل سلبيّ، بالمعنى المنطقي، أكثر من كونها
فعلاً يتوجّه لتحقيق هذه الغاية المحددة أو تلك. الثورة سلب، بمعنى أنها
رفضٌ لواقع قائم أكثر من كونها تخطيطاً وسعياً لواقع مراد تم التنظير له
بشكل مسبق. والسلب، كما قال هيغل ومن بعده اسبينوزا وماركيوز وغيرهم، هو
وجود أصيل، لا يجب رده لمجرّد نفي للإيجاب. وفي حالة الثورة عموماً،
والثورات في بلادنا العربية خصوصاً، السلب هو أساس الإيجاب وليس العكس.
فالثائرون لا ينطلقون من أيديولوجية سياسية واقتصادية واضحة المعالم، ولا
من تصور نظري متماسك عن النظام السياسي البديل الذي يرجون تحقيقه أو
تحقُّقه كبديلٍ عن النظام القائم. فمنطلقهم يكمن في رفض الظلم والاستبداد
والتسلط والفساد الخ. وهذا الرفض، بأبعاده المختلفة، هو ما يشكّل ماهية
الفعل الثوري، ويميزه عن مطالب أو أفعال من يسعون للإصلاح من الداخل،
ويؤمنون بإمكانيته وجدواه. وهكذا فإنَّ فهم الثورة لا يمكن أن يتمّ من
خلال محاولة معرفة أو فهم ما يريده أصحابها، وإنَّما من خلال معرفة وفهم
ما الذي لا يريدونه.
السؤال الأساس هو إذاً "ما الذي لايريده الشعب الثائر؟". من وجهة نظري،
أفضل طريقة لمحاولة الإجابة على هذا السؤال تكمن في استحضار وقراءة وتأويل
الشعارات التي رفعها المتظاهرون. ويمكن القول مبدئياً أنَّ معظم هذه
الشعارات هي إمَّا بصيغة السلب والنفي الصريح، أو تؤسِّس لهذا السلب في
صيغ إثباتية. ولنأخذ الشعارات التي ينادي بها المتظاهرون في سورية كمثال
ونموذج.
الشعار الأشهر في هذا الصعيد هو شعار "الحرية". لكن مالذي تعنيه
"الحرية" هنا؟ هل يوجد لدى المتظاهرين تنظير واضح للحرية المرادة،
وللمؤسسات التي يمكن أن ترعاها وتصونها، وللنظام السياسي الذي يحققها؟ لا
أعتقد ذلك. ومن حيث المبدأ، لا أجد أنَّه يمكن أن نعتبر ذلك مأخذاً على
الثورة أو على المظاهرات. فكما تمَّ التأكيد سابقاً، إنَّ أساس الثورة من
وجهة نظري يتمثل في الرفض لـ… والرغبة عن… أكثر من تمثُّله في المطالبة
بـ… أو الرغبة في… . والحرية المطالب بها هنا تعني التحرُّر، أي التخلص من
سيطرة الأجهزة الأمنية المتوحشة، ومن قمعها وقمع غيرها للمواطنين عن طريق
الاعتقال والتعذيب والقتل وما شابه. وإذا تمَّ فهم مطلب الحرية على هذا
الأساس، يمكن القول أنَّ الشعب يريد وضعاً أو نظاماً هو بالتحديد نفيٌ أو
سلبٌ للوضع أو النظام الحالي. نظامٌ لا يكون فيه الأمان غائباً حيثما يوجد
عناصر الأمن، نظام لايكون فيه كمّ الأفواه وقمعها هو السائد والمسيطر.
نظام لا يتمّ اختزال العمل السياسي فيه بحزب واحد مع ملحقاته الثانوية،
ولا يختزل هذا الحزب بشخص القائد الزعيم الأوحد.
إنَّ كلمة الحرية تمَّ استخدامها كشعار منفصل "حرية، حرية، حرية…"،
وتمّ استخدامها أيضاً، بشكل رمزي ومعبِّر كجزء من شعار "الله، سورية، حرية
وبس". ويجب الانتباه هنا إلى أنَّه إذا استثنينا كلمة "الحرية"، فهذا
الشعار كان سائداً في المسيرات المؤيدة للنظام، والصيغة الأخرى للشعار في
سورية هي "الله، سورية، بشار وبس". واستبدال المتظاهرين لكلمة "بشّار"
بكلمة "حرية" أمرٌ له دلالات ومعانٍ كثيرة سعى بعض المقربين من السلطة إلى
طمسها والتهوين من شأنها بالقول "كل الشعب السوري مع الحرية، وهذا الشعار
لا يعبّر عن رفض أو معارضة لما هو قائم"! ولقد أصبحت كلمة الحرية الشعار
المميِّز للمظاهرات في سورية، بحيث يكفي أن تهتف بها أي مجموعة من الناس
في الشارع لنعرف أنَّهم معارضون للوضع القائم وللقائمين عليه. وكما أن
كلمة "بشار" هي الكلمة الأساسية أو المفتاحية للمسيرات المؤيدة للنظام،
والتي تغيب عنها تماماً كلمة "الحرية"، فإنَّ هذه الكلمة أصبحت أقوى
شعارات المظاهرات(1)، وأكثرها شيوعاً.
من الشعارات الأخرى الأخرى المعبِّرة عن الرفض هو شعار "سلمية سلمية".
وهذا شعار شائع جداً في المظاهرات، وهو يرمي للتأكيد على رفض أي شكل من
أشكال العنف المتوقع أن يتمَّ اتِّهام المتظاهرين به أو ممارسته عليهم،
ورفض أي محاولة ممكنة او متوقعة لبعض المتظاهرين لممارسته كفعل أو كرد فعل
على الغنف الممارَس أو الذي سيُمارَس ضدهم على الأرجح.
والرفض واضحٌ في الشعار الأشهر عربياً "الشعب يريد اسقاط النظام". وهذا
الشعار الرئيس يبيِّن أنَّ الشعب لديه تصوّر واضح أو محدّد عما لا يريده
(لا يريد هذا النظام وما يشابهه). وهكذا فحتى الشعار المصاغ بعبارة "الشعب
يريد…"، فإنه يعبرِّ عما لا يريده الشعب أكثر من تعبيره عما يريده أو يسعى
إليه كبديل عن الوضع القائم. والأمر واضح في معظم وربما كل الشعارات
الأخرى كشعار "الموت ولا المذلة"، "الشعب السوري ما بينذل"، "ما في خوف،
مافي خوف"، الخ.
الثورة بين مشاعر الغضب ومشاعر الخوف: قد يبدو أنَّ تأكيدي على أنَّ ماهية الثورة وشعاراتها يمكن، بل ويجب،
فهمها انطلاقاً من كونها رفضاً للواقع القائم، أكثر من كونها تنظيراً أو
سعياً منظماً نحو بديلٍ جاهزٍ أو ناجز،ٍ أمر ليس له قيمة كبيرة. ويتعزز
هذا الرأي إذا انتبهنا إلى أن كل مفهوم(2) أو حكم اثباتي يتضمَّن مجموعةً
من أحكام السلب والايجاب، والعكس صحيح. فلماذا هذا التأكيد والالحاح على
هذه النقطة؟ ولماذا تجري محاولة تأكيد ضرورة قراءة وفهم الثورة وشعاراتها
على هذا الأساس؟ غرضي الأساسي من ذلك هو تعميق الفهم لطبيعة الثورة
عموماً، ولتلك التي تجري في سورية وفي بقية البلاد العربية خصوصاً. ورغم
محاذير الحديث عن "طبيعة" و"ماهية" عموما،ً وعن "طبيعة وماهية الثورات"
خصوصاً، إلا أنني أجد أنَّه من الضروري والمفيد استخدام هذه المصطلحات
والقول إن طبيعة الثورة قائمة على مشاعر الغضب والرفض أكثر من كونها قائمة
على التخطيط العقلاني والسعي المنظم لبديل واضح ومعروف مسبقاً. وضرورة هذا
القول تأتي من ضرورة فهم الثورة والقائمين بها وعدم محاولة تحميلهم فوق
طاقتهم، أو محاولة انتقادهم بالقول أنهم أشخاص غير واعين لما يريدونه
(الحرية الديموقراطية الخ). فالثورة فعل لاعقلاني، لأنه قائم على أساس
مشاعر الغضب والرفض. وهذا لا يعني أنَّ الثورة مضادة للعقلانية أو لا يمكن
التخطيط لها، وتأطير غايات ايجابية لها، كالتخطيط لنظام بديل وما شابه،
لكنَّ ذلك يعني أنّ الحطب الأساس لنار الثورة هو الغضب والرفض، وكل ماعدا
ذلك هو ملحقٌ به ومؤسَّسٌ عليه.الثورة لاعقلانية، لكنها تمتلك دائماً
معقولية. ويمكن فهم هذه المعقولية إذا انطلقنا من الواقع السياسي
والاقتصادي الذي تقوم الثورة بسببه، ورفضاً له.
أنا لاأنكر أنَّ العديد من الثورات (كالثورة البلشفية مثلاً) تم
التخطيط لها ولبعض أو معظم غاياتها ونتائجها مسبقاً، لكن حتى هذه الثورات
كانت، من وجهة نظري، مؤسَّسة بالدرجة الأولى على مشاعر الغضب والرفض للوضع
القائم، أكثر من كونها نتيجةً للتطلع لبديلٍ مستقبلي جاهزٍ أو ناجزٍ
نظرياً. وإنّ غياب التخطيط العقلاني، في حالة الثورات العربية، قبل أو
أثناء انطلاق شرارة هذه الثورات، لا ينفي امكانية بل وضرورة أن تسعى
لاحقاً كل ثورة، عن طريق مؤيديها والقائمين بها، للتنظير لما تريده فعلاً
وبالتحديد من نظام سياسي واقتصادي بديل. لكن يجب التأكيد هنا على ضرورة أن
ينطلق التنظير لما يريده الثوار انطلاقاً من فهم ما لا يريدونه أو مما
يرفضونه. وإنَّ ضرورة فهم الثورات العربية خصوصاً انطلاقاً مما لا يريده
الثوار أو المتظاهرين، وليس مما يريدونه، مرتبطة أيضاً بواقع افتقار هذه
الثورات عموماً لأيديولوجية سياسية أو اقتصادية واضحة، وعدم وجود قادة
منظِّرين وموجهين لها.(3)
وهكذا فإنَّ الإجابة على سؤال "لماذا يتظاهر أو يثور الناس في هذا
البلد العربي أو ذاك؟" يجب أن تنطلق من الوضع القائم، ومسبقاته، وما أدى
إليه من مشاعر غضب ورفض، أكثر من سعيها للانطلاق من تطلعات الثوار،
ونظرتهم المستقبلية، وتنظيراتهم لبديل عن الواقع أو النظام القائم، ضمن
خطة واضحة المعالم. فالثورة تُفهم أساساً بفهم ماقبلها وليس مابعدها، بفهم
الواقع الذي انطلقت منه وليس بمعرفة تفصيلات الواقع الذي تسعى إلى تحقيقه.
وهذا الكلام ينطبق خصوصاً على الثورات التي حدثت وتحدث في العالم العربي.
فهي ثورات انطلقت من أحداث فردية (حادثة البوعزيزي في تونس، حادثة خالد
سعيد في مصر، حادثة اتِّصال هاتفي بين طبيبتين ومن ثم اعتقال وتعذيب بعض
الأطفال والمراهقين في سورية، إلخ). وما كان لهذه الشرارة أن تؤدي لما أدت
وتؤدي إليه لولا حالة الاحتقان والغضب الشديدين لدى معظم أفراد شعوب هذه
الدول.
وإنَّ سمة اللاعقلانية أجدها في آراء وأفعال معظم، وربما كل، الناس
المهتمين بأمر الثورة أو الذين تمسهم هذه الثورة بشكل كبير، مباشر أو غير
مباشر. وهذا ينطبق على المؤيدين للثورة والقائمين بها، بقدر ما ينطبق على
من يرفضونها أو لا يؤيدونها تحت هذه الذريعة أو تلك. وإذا وضعنا جانباً
الناس الذين لامصلحة لهم في قيام أو نجاح الثورة، لكونهم مستفيدين، بحق أو
بدونه خصوصاً، من النظام المستبد القائم، فإنَّنا نجد أنَّ مواقف الناس من
الثورة ضد المستبد تنطلق من شعورين مختلفين ومتمايزين.
المؤيدون للثورة قولاً أو عملاً أو بالأمرين معاً، تحركهم مشاعر الغضب
والرفض، بالمقابل نجد أنه يمكن فهم أو تفسير مواقف المتحفظين على قيام
الثورة أو الرافضين لها من خلال ربط هذه المواقف، النظرية أو العملية،
بمشاعر الخوف: الخوف من المجهول، الخوف من البديل السيّء أو الأسوأ، الخوف
من الحرب الأهلية الدينية أو الطائفية أو المناطقية أو العرقية إلخ، الخوف
من الدمار أوالعنف أو الموت، الخوف على الذات أو على الآخرين أو منهم،
الخ). وقد سبق لي في مقال سابق، منشور في الأوان، أن ناقشت فكرة البديل
ومخاوف الناس في هذا الشأن. ورأيي باختصار هو أنَّ البديل ليس ناجزاً أو
جاهزاً كما يظن أو يعتقد الكثيرون. وإنَّ السعي لإسقاط النظام أو إحداث
تغيير جذري فيه يمكن أو يجب أن يترافق دائماً مع محاولة بلورة نظرية
وعملية لبديل مناسب. ومايهم إضافته في هذا الشأن هو أنَّ معظم وربما كل
الذين ينتقدون الثورة، لأنها فعل لاعقلاني قائم على مشاعر الغضب أكثر من
كونه فعل عقلاني منظَّم ومنظِّم، يجب أن ينتبهوا، من جهة أولى، إلى أنَّ
لاعقلانية الثورة لا تنفي معقوليتها وضرورتها، ومن جهة ثانية، إلى أنَّ
موقفهم من الثورة لايقل لاعقلانية عن موقف الثوار ومؤيدينهم، وذلك لأنَّ
أفكارهم هي أقرب لعقلنة مخاوفهم بالمعنى الفرويدي. مؤيدو الثورة ينطلقون
من مشاعر الغضب، ومعارضوها ينطلقون من مشاعر الخوف. ولهذا ربما كان من
الصعب غالباً، وربما دائماً تقريباً، أن تفضي المناقشات بين الطرفين إلى
أي تفاهم أو اتفاق. فالموقف من الثورة هو موقف نفسي بالدرجة الأولى، ويصعب
كثيراً أن يتزحزح أي شخص عن موقفه من الثورة، لأنَّ هذا الموقف صادر عن
مشاعر الخوف أو الغضب، أكثر من كونه رؤية موضوعية صادرة عن عقل تأملي
محايد نظرياً أو عملياً.
الثورة بين الحوار والمناظرة: إنَّ لاعقلانية الفعل الثوري والمواقف المؤيدة والرافضة له تجعل من
الصعب، وربما من المستحيل غالبا،ً إقامة أي نوع من أنواع الحوار بين
الأطراف المعنية التي تناقش هذه المسألة. ولهذا تتحول هذه المناقشات
غالباً إلى مايشبه المماحكات والمهاترات. وطالما ان أفكار كل شخص معني
مباشرة بهذه الثورة مغمَّسة بالقيم، وتثير الشجن والحزن والألم، فإنَّه من
الصعب ألا يتحول الاختلاف إلى خلاف. إنّ أفضل أشكال النقاش برأيي هي
الحوار والمناظرة(4). وأقصد بالحوار أو التحاور هنا تبادل الحديث بين
شخصين أو أكثر، حول مسألة يعتبرها المتحاورون مهمة وجدية، بهدف أن يفهم كل
محاور أو متحاور الآخر ورأيه عن المسألة المطروحة، بما يعزز فهم كل منهما
للمسألة المطروحة ولنفسه في نفس الوقت. في المقابل نجد ان تبادل الحديث في
المناظرة لا يهدف إلى فهم الآخر أو رأيه. ففي المناظرة ينطلق كل شخص من
أنّ لديه فهماً مصيباً يحاول أن يقنع به من يتناظر معه، مع محاولة اثبات
عدم صحة او عدم دقة أو عدم موضوعية أو عدم مصداقية وجهة نظر الآخر.
هل يمكننا أن نتحاور، حين يتعلق الأمر بأفكارٍ أصبحت أقرب للإيديولوجية
المغلقة، بسبب منشأها النفسي وارتباطها المباشر بمصير البشر وقيمهم
الأخلاقية الأكثر صميمية؟ هل يمكن ان نحاور من نرى أنه يسهم، بقصدٍ أو
بدونه، في الترويج للعنف والدعوة للخراب باسم الثورة؟ هل يمكن ان نتحاور
مع من يرَّوج، بقصدٍ أو بدونه، لأيديولوجية الأنظمة الاستبدادية، ويساعد
على استمرارها واستمرار النتائج الكارثية لوجودها، بطريقة أو بأخرى؟ هل
يمكن أن يتحاور الغاضب مع الخائف؟ لديّ شك كبير في إمكانية ذلك، وأرى أنَّ
أفضل شكل يمكن أن يأخذه النقاش بين هذين الطرفين هو المناظرة. وفي ميدان
السياسة عموماً يندر، وربما ينعدم، الحوار بين أصحاب الآراء السياسية
المختلفة، ويبدو ذلك واضحاً مثلاً في خطاب قادة وأعضاء الأحزاب والدول
والمنظمات السياسية. لكن للمناظرة قيود وآداب يصعب على أغلبنا التقيد بها،
حين يكون نقاشه أشبه بنضال ضد من يعتبره عدواً، وفي سبيل ما يعتبره حقاً
وعدلاً. المناظرة تحتاج لبرودة العقل بقدر حاجتها لتدفق المشاعر. لكن من
أين تأتي هذه البرودة، ونار الثورة والطغيان تشتعل في قلوبنا وعقولنا، بل
وتحرقها أحياناً؟
لكي يكون النقاش، بكافة أشكاله، مفيداً يجب أن تتوفر له وللمتناقشين
شروط كثيرة أجدها غائبة بشكل شبه كامل في معظم نقاشات الأطراف السابق
ذكرها حول الثورات العربية. والمفارقة هنا أنَّ معظم هؤلاء المتناقشين،
وربما كلهم، يشعرون أو يعتقدون أنهم يسهمون، أو يسعون للإسهام، بفكرهم
ايجاباً في الواقع السياسي العربي وتمثيله نظرياً. وفي هذا الشعور أو
الاعتقاد مفارقة، لأنني أرى أننا نحتاج أولاً لتحسن ظروف هذا الواقع
السياسي العربي، حتى تتوفر الظروف المهيئة لإمكانية وجود حوارات ومناظرات
حول الأوضاع السياسية وغير السياسية لبلادنا العربية.
في تونس ومصر بدأت هذه الظروف بالتشكل والتبلور بشكلٍ أولي، بينما نجد
أنَّه في بقية البلاد العربية عموماً، وفي سورية وليبيا واليمن خصوصاً، ما
زالت معظم هذه الظروف، على الأقل، غير متوفرة أبداً. ومصير وشكل النقاشات
السياسية في هذه البلدان مازال مرهوناً بشكل كبير بمدى نجاح او فشل الثوار
في تغيير الأنظمة الاستبدادية في بلدانهم أو احداث تغيير جذري فيها. وإلى
أن يحصل ذلك، ستظل معظم كتاباتنا أو نقاشاتنا السياسية أشبه بصراع بين
غاضبين وخائفين. هي كتابات عقلنة لمشاعر الغضب أو الخوف أو لكليهما. وهذه
الكتابات ليس من ورائها فائدة كبيرة برأيي سوى "فش الخُلُق"، كما نقول في
سورية. لكن الحسم سيكون على الأرض. فهل ينتصر الخوف ومن يبثه، أم ينتصر
الغضب ومن يتصرف عملياً ويفكر نظرياً انطلاقاً منه؟
الهوامش:1- هناك تمييز سوري ضمني بين كلمتي المظاهرة والمسيرة. وقد عرفت سورية
لفترة طويلة ظاهرة المسيرات المنظمة من قبل جهات تسيطر عليها السلطة
وتقتصر شعاراتها على التمجيد بالسلطة وماتريده من جهة، وعلى التنديد بما
أو بمن تراه السلطة عدواً أو سلبياً بمعنى ما، من جهة أخرى. أما المظاهرة
فهي غائبة أو مغيَّبة بشكل كامل من مصطلحات المهتمين بالأمر السياسي في
سورية ومن نشاطاتهم، لأنها تتضمن نشاطاً معارضاً للسلطة وأفعالها. لاأعرف
إن كان هذا التمييز بين المظاهرة والمسيرة موجود في البلاد العربية الأخرى.
2- مفهوم الحديد مثلاً يتضمن عدة أحكام وهي أنه معدن وأنه يتمدد
بالحرارة وأنه ليس كذا أو كذا إلخ. ويمكن القول أنَّ المفاهيم ضرورية
كأدوات للفكر كونها تميِّز وتفصل. فمفهوم الانسان يمكن فهمه انطلاقاً من
الحديث عن اختلاف البشر عن غيرهم من الكائنات "الانسان ليس كيت أو كيت"
أكثر من الانطلاق من الحديث عن صفات مشتركة بينهم. وهكذا نجد علاقة جدلية
بين المفهوم والجملة الخبرية أو القضية المنطقية بحيث أن كل منهما يحيل
للآخر، وعلاقة جدلية أخرى بين السلب والايجاب المنطقيين والوجوديين بحيث
يحيل كل منهما إلى الآخر دون أن يمكن اختزاله فيه.
3- إنَّ افتقار الثورات العربية لأيديولوجية سياسية أو اقتصادية واضحة
(اسلامية أو يسارية أو مضادة للامبريالية الخ) كان، من وجهة نظر البعض
مأخذاً على هذه الثورات الغير معادية في شعاراتها للامبريالية والصهيونية
والولايات المتحدة الخ. ويذهب البعض إلى أنَّ ماجرى ويجري في بعض البلاد
العربية لايرقى إلى مستوى الثورة لأنه لم أو لن يُحدث تغييراً حقيقياً في
النظام الاقتصادي للدول العربية التي كانت وستبقى مجرد تابع للمركز
الرأسمالي الغربي عموماً. وفي الواقع إن معياري لتصنيف حركات الاحتجاج
الجماهيري، وتمييز الثورة من بين هذه الحركات، هو ذو طابع سياسي صرف
تقريباً. وأعني بالثورة هنا كل محاولة جماهيرية لتغيير طبيعة النظام
السياسي. وفي الثورات العربية يتم السعي لاستبدال الأنظمة الديكتاتوري
الاستدادية السائدة بأنظمة ديموقراطية تصون الحريات وتسمح بالتعددية
وتتأسس عليهما. ومن الطبيعي أن يكون لمثل هكذا تحول سياسي نتائجه المباشرة
على النظام الاقتصادي للبلد المعني، لكن هذه النتائج الاقتصادية تبقى على
الأرجح جزئية وضئيلة نسبياً. فهذه النتائج يمكن أن تكون محدودة إذا
ماقارناها مثلاً بنتائج تحول بلدٍ ما من اقتصاد الدولة الاشتراكي إلى
اقتصاد السوق الليبرالي. فهذا التحول يمكن أن يكون تحولاً جذرياً على
الصعيدين السياسي والاقتصادي في نفس الوقت. من ناحية أخرى إن عدم وجود
قيادديين محددين للثورة، ومؤثرين بشكل حاسم في تحديد مساراتها وأفكارها،
أمرٌ يثير الانتباه وبحاجة للتفكير في ايجابياته وسلبياته. ولدي انطباع
بأنَّ فشل انتفاضة المصريين عام 1977 مثلاً يعود بدرجة كبيرة إلى افتقاد
تحركهم آنذاك لقيادة موجَّهة ومنظّمة.
4- عند استخدامي هذين المصلحين، أنا أحيل ضمنياً لأحد المعاني
المستخدمة في اللغتين الفرنسية والانكليزية لكلمتي "débat" بالفرنسي و
"debate" بالانكليزي كمقابل لكلمة مناظرة، ولكلمة "dialogue"، باللغتين
الفرنسية والانكليزية، كمقابل لكلمة حوار أو محاورة. وهذه أفضل ترجمة
استطعت القيام بها حالياً، وربما أحاول مستقبلاً تقديم دراسة مفصلة عن
هذين المفهومين.