تمكّنت جماهير المنتفضين في تونس خلال مدة وجيزة وبخسائر محدودة نسبيا،
من إسقاط رئيس يعدّ من عتاة الرجعيين في العالم، وهو الذي اعتقد كثيرون أنه
لن يترك الحكم إلا بفعل الموت، وكان يعدّ نفسه لولاية جديدة وسط
مناشدات صاخبة، فأخيرا سقط الجنرال بن على الذي طالما خدع الشعب بجميل
الكلام بينما كانت يداه مخضّبتين بالدم، بما يذكّر بكلمات أفلاطون في
جمهوريته : "إنّ الظالمين على الرغم من أنهم قد يظلّون يخدعون الناس في
شبابهم فإنّ معظمهم يكشفون ويضبطون عند نهاية حياتهم وتنزل عليهم اللعنات
في شيخوختهم، من مواطنيهم ومن الغرباء معا"أفلاطون، الجمهورية، ترجمة فؤاد
زكرياء، القاهرة 1974، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص 575.
مثل هذا الحدث من ناحية التساؤل عن ماهيته مادة لفائض من التحليلات
الإخبارية التي غلب عليها الطابع الصحفي، بينما ظلّ الفلاسفة وعلماء
الاجتماع والتاريخ مثلا في حالة صمت، لا يعكّر صفوها غير بعض الإشارات
المقتضبة هنا أو هناك، ويبدو أنّ طائر منيرفا غير مستعدّ بعد للطيران،
وغنيّ عن البيان أنّ فلسفة الممارسة تقضي بتناول الحدث التاريخيّ من حيث
مجراه، وهو لا يزال غضّا، سعيا للقبض على نتائجه الضرورية، بما من شأنه أن
يقدّم للمضطهدين ملامح إجابة عن سؤال : ما العمل؟.
لقد رأى بعضهم في الحدث انتفاضة كرامة بتركيز النظر على مفهوم الكرامة في
دلالة هي أقرب إلى ما جاء في كتاب فرانسيس فوكوياما "نهاية التاريخ"، وما
حفل به من إحالات فلسفية على أفلاطون وهيجل بشكل خاص، من خلال توظيف مفهومي
الكرامة والاعتراف لدى هذين الفيلسوفين.
وفي ثنايا ذلك تمّ التشديد على ضرورة استبعاد المطالب
الاجتماعية باعتبارها مطالب شخصية وفئوية، تزرع العراقيل في وجه الثورة،
وباشرت الميديا البرجوازية عملية قصف مركّز للعقول، هدفه إيجاد حقل تجريب
قسريّ للأطروحة القائلة إنّ ثورات عصر العولمة هي ثورات كرامية على وجه
الحصر، بعد أن ولى زمن الثورات الطبقية.
وبذلك ُوئدت الشعارات ذات المضامين الاجتماعية، أو تمّ إخراجها في شكل
مشوّه فقدت معه فحواها، وهي تلك التي انتشرت بشكل لافت في الأيام الأولى
للانتفاضة، قبل تمكّن الآلة الدعائية لبعض الأحزاب والمنظمات النقابية
والحقوقية من حرفها عن مجراها، وتلوينها بمطالب سياسوية شكلية، في حرب
مواقع بينها وبين السلطة حول تقاسم الامتيازات السياسية، وبدا وكأنّ حلم
المنتفضين قد تعرّض مبكّرا للاغتيال على يد أولئك الذين لا تعني لهم
السياسة غير مجال لجني الأرباح، عن طريق المضاربة في بورصة المناصب بعذابات
المسحوقين ودمائهم.
إنّ التركيز على مفهوم الكرامة (ثورة الكرامة) يبدو كما لو أنّه جاء
ليتناغم مع الأسس التي ينبني عليها البيان الليبرالي في نسخته الراهنة،
فمحمد البوعزيزي أحسّ بـ"الحقرة"، الاحتقار، فانتحر حرقا أمام مقرّ
الولاية، وعائلته لا تطلب غير استرداد كرامة ابنها المهدورة.
وعلى مدى أيام كانت ترد على الإذاعات ومحطات التلفزيون مكالمات منتقاة
بعناية من ولاية بوزيد تقول لا نريد شيئا غير الكرامة، لا نريد مطالب خاصة،
لسنا جياعا، نريد الكرامة لا غير، وقد تردّد الصدى في القصبة وأطرافها.
وقد حدث هذا بعد أن استغرقت تلك الميديا نفسها في التركيز على مواطنين
يطلبون شغلا وما شابهه، وكأنّ بوزيد على رمزيتها تريد تعليم الآخرين درس
الكرامة هذا، وتجعلهم يشعرون بالخجل بعد استغراقهم في مطالب مادية مباشرة.
وفضلا عن هذا تمّ ربط الانتفاضة بمفهوم رئيس آخر، هو مفهوم الديمقراطية
في دلالته الليبرالية على وجه الحصر حيث تتماهى الديمقراطية مع الليبرالية،
وليس المجال هنا للتوسّع في شرح الطابع الإيديولوجي المخادع الذي تصطبغ به
هذه الديمقراطية اليوم من حيث هي أداة تستخدمها الدعاية الرأسمالية عبر
العالم كما يبيّنه ألان باديو.
لقد صوّروا الأمر على أنّه يتوقّف على إطلاق حرية التعبير والتنظم
والتظاهر وما شابه ذلك، وتم إبراز تدافع عشرات الأحزاب التي رأى معظمها
النور لتوّه، أمام أبواب وزارة الداخلية التونسية وهي تطلب تأشيرة
الاعتراف.
كما جرى تضخيم الطابع العفويّ للانتفاضة، وتغييب وجود قوى منظّمة من
مشارب شتّى سيّرت التحرّكات وأطّرتها، ممّا مكّن من تحوّل حادثة الاحتراق
الجزئية إلى انتفاضة عامّة، لقد كانت المواجهات منظّمة نسبيا، متّخذة
أشكالا مثل الهجمات الليلية عوضا عن المسيرات النهارية التي كان البوليس
ينجح غالبا في تفريقها، وتعطيل حركة سيارات البوليس بغلق الطرق، بما في ذلك
حرق عربات القطارات على التقاطعات الرئيسة، وربط أعمدة الكهرباء القائمة
على طرفي الطريق بأسلاك حديدية لتعطيل حركة الدراجات النارية الثقيلة
المستعملة من قبل البوليس، والسيطرة في بعض الحالات على معداته.
لقد كانت انتفاضة استعملت فيها الجماهير أساليب مختلفة من العنف وهي تواجه
عدوّها ممّا مكّنها من السيطرة على الشارع والحيّ، وبالتالي انتزاع زمام
المبادرة من جهاز البوليس الذي استعمل فرقا مدربة على القنص، اعتلت سطوح
المنازل ووجهت رصاصها إلى صدور المنتفضين.
وكانت الشعارات السياسية والاجتماعية موحية بهذا البعد التنظيمي، ويدلّ
ذلك كلّه على حنكة في خوض المعركة، التي سرعان ما اتسع مداها وأصبح مطلب
إسقاط النظام على جدول أعمالها.
وإذا كانت الانتفاضة لم تفرز قيادة مركزية فإنّ ذلك لا يعني أنه لم يكن
لها على مستوى الجهات قادتها، ولكنّ هؤلاء تجاهلهم الإعلام الذي نفخ في
صورة غيرهم بسرعة فائقة ونجح بقدر كبير في اصطناع بدائل لهم من بين قادة
سياسيين ونقابيين وحقوقيين فاسدين، كما أنّ هؤلاء بسبب عوامل شتّى لم
ينجحوا في فرض أنفسهم في اللحظة المناسبة، ولو تواصلت الانتفاضة بزخم أقوى
لأفرزت قادتها التاريخيين، وربما لهذا السبب كان تنفيذ السيناريو الأمريكي
من وراء الستار، لاختصار زمن الانتفاضة قبل استفحالها فتكون لها كاريزماها
الخاصة في التنظيم والسياسة، بما يؤدي إلى خروجها التام عن السيطرة.
وفضلا عن هذا تتبارى الميديا البرجوازية في توصيفها المخادع للانتفاضة،
فهي تحدّد طبيعتها باعتبارها ثورة ياسمين تارة وثورة فايسبوك تارة
أخرى، تعاضدها في ذلك خطب كبار الساسة عبر العالم، ومنهم علي سبيل المثال
المستشارة الألمانية انجيلا ميركيل التي أثنت في افتتاح الصالون الدولي
لتكنولوجيا المعلومات والاتصال بمدينة هانوفر على وسائل الاتصال الحديثة،
لدورها في الانتفاضتين التونسية والمصرية. ولعله من المفيد التذكير بأنّه
قبل حوالي عقدين كان الفلاسفة البرجوازيون يتحدّثون بنفس العبارات تقريبا
عن ثورة الفيديو التي حققت النصر النهائي لليبرالية على الاشتراكية.
(فوكوياما نهاية التاريخ والإنسان الأخير، ص 123).
إن الانتفاضة الفايسبوكية لم تقع لسبب بسيط وهو أنّ جموع المضطهدين في
المدن والأرياف التي انطلقت منها الانتفاضة غرباء عن الفايسبوك في
غالبيتهم، وأولهم البوعزيزي نفسه، وقد كان أمرا لافتا في الأيام الأولى
للانتفاضة عندما نُشرت على صفحات الفايسبوك صورة لشابّ وراء كمبيوتر وهو
يجلس في مكتب أنيق، وقيل إنّها لمحمد البوعزيزي ولا أحد غيره، بل زُعم أنّ
له حسابا خاصّا في الفايس بوك ونُسبت له وصية دوّنها قبل إقدامه على حرق
نفسه، بينما كان البوعزيزي الحقيقي لا الافتراضي في وضع اجتماعي آخر بائس
تماما .
صحيح أنّ الفايسبوك قد لعب دورا في نشر أخبار الانتفاضة، ولكنّ الزعم أنّه كان وراء التنظيم والتعبئة يرقى إلى مستوى الافتراء.
لقد عايشت أحداث الانتفاضة وهي لا تزال في أسبوعها الأول في مسقط رأسي
مدينة المكناسي، وكنت أشاهد ليلا ابن خالتي المعدم الذي يعيش من إيراد عربة
بدائية يجرها حمار، وهو يرفع الشعارات الثورية ليلا، ويشتبك مع البوليس
رفقة أمثاله من المعدمين، مستحضرا ذكرى أخيه الذي قتل غيلة في مركز البوليس
قبل سنوات قليلة، وعاينت حال خالتي المريضة بالربو، التي مازالت تطهو
طعامها على الحطب، حتى أن قنبلة مسيلة للدموع من صنع أمريكي أصابت قدرها
مما سبب لها اختناقا وكانت أمّي المسنّة وابن أخي الذي لم يبلغ من العمر
عامه الأوّل في الوضع ذاته، رفقة بقية أفراد العائلة الذين تهاطلت عليهم
وهم في بيوتهم قنابل الغاز وشتائم أعوان البوليس، كنت أشاهد المعدمين من
أبناء مدينتي الصغيرة الذين لا يعرف معظمهم عن الفايسبوك أيّ شيء وقد
استنبطوا بفعل التجربة وسائل مبتدعة في مقاومة قوات البوليس، ومطالب الأرض
والشغل والحرية على شفاههم.
كان يوم 24 ديسمبر 2010 يوما مشهودا في تاريخ الانتفاضة التونسية فخلاله
سقط أوّل شهداء الانتفاضة (محمد العماري) بالرصاص الحيّ بينما جرح العديد
من رفاقه، كانت الوقائع دراماتيكية وقد مثّلت منعطفا حاسما، غير بعيد عن
مكان الجريمة تمّت في مدينتي محاصرة مقرّ البوليس وتنظيم اجتماع عامّ
أمامه، وأجبرت الجماهير المنتفضة البوليس على ركوب عرباته والتأهّب للرحيل،
قبل تراجعها عن ذلك عندما وصلتها التعزيزات، كانت الجماهير المعدمة تقاوم
على طريقتها وكان بعض الشبان يهزجون بأشعار وأغان ثورية وهم ينصبون
كمائنهم لقوات البوليس، فهل كان هؤلاء كائنات فايسبوكية حطت الرحال فجأة في
عالم الواقع؟
وبالإضافة إلى تسميتها ثورة فايسبوكية قالوا إنها ثورة شبابية، فالمهمّ
بالنسبة إليهم وأد صراع الطبقات والاستعاضة عنه بصراع الأجيال، من كينونة
الطبقة إلى كينونة الجيل، والمقصد من كلّ هذا العبث الإيديولوجي توجيه
السهم صوب الهدف، والسهم هو الايدولوجيا والهدف هو مسخ الثورة حتى لا
يتعرّف المضطهدون على أنفسهم في مرآتها، فقد أطلقوا شرارتها وقدّموا في
نهرها دمهم، ولكنها فرّت من بين أيديهم وأصبحت كائنا غريبا عنهم، إنها لعبة
الغالب والمغلوب في صورتها التقليدية، وإذا شئت تخريب حصن فما عليك إلا
الولوج على أطراف أصابعك إلى داخله، والتظاهر بحمايته، وعندما يصدقك
الأغبياء اصنع بهم وبحصنهم ما تشاء.
وقد ذهب الأمر بالبعض الآخر إلى توصيفها بأنها ثورة عديمة الهوية، في دفاع
مزعوم عن فرادتها، ولو سلّمنا بـأنّ الثورة لا هوية لها وأنّ أبطالها
كائنات هلامية افتراضية أفلتت من عالمها المتخيّل ودلفت إلى عالم الواقع،
في غفلة من رقابة الدولة، فإنّ ذلك معناه التسليم أيضا بأنّ القادم لا هوية
له، كيف سيكون مجتمع المستقبل؟ أية مطالب ينبغي رفعها إذا كان المستقبل
بمثل هذا الغموض؟ ما برامج الثورة؟ ما مهامها العاجلة والآجلة؟ لا أحد يعلم
عن ذلك شيئا، فلعصر العولمة ألغازه التي لا يمكن فكّها، أن إلباس الثورة
رداء الريبية فلسفيا يعني اغتيالها واقعيا.
اللافت أنّ أغلب ما روّج لحدّ الآن حول الانتفاضة التونسية يرقى إلى مستوى اللصوصية
فسرقة الثورات مهنة قديمة لها محترفوها، الذين يسرقون ضمن ما يسرقونه
عناوين الثورات وهوياتها وتاريخها، حتى أنّ التاريخ الحقيقي للانتفاضة قد
طُمر تحت ركام من الكذب، فمكان يوم 17 ديسمبر حل يوم 14 جانفي الذي غدا
عنوانا مسوّقا للدعاية السياسية وحساباتها الضيقة.
في كلّ الانتفاضات والثورات يتمّ التأريخ بالبداية بينما حدث هنا العكس
فكان التأريخ بالنهاية، ربما في مواصلة واعية أو غير واعية لإقصاء
جهة (سيدي بوزيد) خضعت للتهميش على مدار عقود فتمّ سلبها رمزية الحدث .
والواضح أنّ التعامل مع الانتفاضة على هذا النحو يشير إلى أنّ هؤلاء الايديولوجيين
ينطلقون ممّا في أذهانهم لتفصيل الواقع على قياسه، بما يذكّر بسرير بروكست
الشهير في الأسطورة اليونانية، فإذا كان بروكست يقطع أوصال ضحاياه لكي
تتلاءم مع مقاس سريره فإنّ هؤلاء يريدون من الانتفاضة الاندراج ضمن
قراءاتهم الإيديولوجية لما يشهده العالم من تحولات، يعتبرونها دليلا آخر
على أنّ الليبرالية قدر الإنسانية في الاقتصاد والسياسة، وكأنما يرددون مع
فوكوياما الكلمات التالية : "لقد رافقت الثورة الليبرالية في الفكر
الاقتصادي دائما ـ تارة قبل و تارة بعد ـ التطور نحو الحرية السياسية في
العالم أجمع" فوكوياما، نهاية التاريخ والإنسان الأخير، ص 25. فهم يتعاملون
مع الحدث من موقع القولبة الإيديولوجية، لكي يكون حجّة تشهد على صحة
وسلامة تحليلاتهم النظرية وينظرون إليه بالتالي باعتباره مادة دسمة، يمكن
أن تتغذّى منها أطروحاتهم التــــــــــــي، وياللمفارقة، ما انفكّت تروّج
لموت الايدولوجيا.
والمهم هنا كغاية إيديولوجية اندراج المشهد ضمن سياق المصلحة الكونية
للمركز الامبريالي، ولا ضرر من التعسف على الوقائع وإنطاقها بما يقتضيه
ذلك، وأن تأتي وزيرة الخارجية الأمريكية وقد بلغت العاصفة آخر فصولها إلى
تونس لكي تضع لمستها الأخيرة، وتتمّ المهمّة في ممارسة طقوسية أشبه بتعميد
وليد لم يبلغ من العمر عامه الأوّل وسط تلاوة مباركة لآيات البيان
الليبرالي في نسخته العولمية.
يضاف إلى هذا، الإسهاب في الحديث المخاتل عن "الثورة المباركة" والتباري
في تشكيل مجالس حمايتها والتظاهر بتحقيق أهدافها. إنّ تسمية ما حصل
باعتباره ثورة أو انتفاضة ليس مشكلا نظريا فقط بل هو مشكل عملي أيضا، ففي
حال أن هناك ثورة فذلك يعني عمليا أن الشعب قد انتصر وما بقي أمامه بعد
هروب الرئيس "المخلوع" ووضع حد لنظامه "البائد" غير العودة إلى العمل
والإنتاج، وبرواج هذه الأطروحة بين صفوف الشعب يجري بثّ الوهم حتى تستمرّ
الأوضاع على حالها .
لقد كانت قوّة الشعب هي المحددة رئيسيا لمسار تطوّر الأحداث في الأيام
الأولى للانتفاضة بشكل خاص، وقد فرضت على الرجعية التراجع بارتباك، ومع
تطوّر الأحداث استجمعت الرجعية أنفاسها ولجأت إلى الوسائل المعهودة للدفاع
عن نفوذها بدمج المكر والخداع وسلطة المال والقمع والإرهاب والإغراء، وبدت
في كلّ معركة فُرضت عليها متمسكة بما تراه جوهريا لمصالحها، من ذلك التشبث
بتلابيب الوزارة والسفارة والولاية، وعدم تغيير هذا الموظف الكبير أو ذاك
إلا على مضض، وهي على وعي بأهمية الوقت في التخفيف من حدة المطالب
الاجتماعية والسياسية، لذلك فإنها تقدم التنازل تلو الآخر، وعينها على بقاء
مصالحها سالمة بالمعنى الاستراتيجي للكلمة، كما أن هناك قوى أخرى ليست
ممثلة بالضرورة في السلطة قد دخلت على الخط ولبست جبة الانتفاضة على عجل
بعد أن وقفت في طريقها في البداية. وما يوحد بين هؤلاء وأولئك هو رسم
لوحتهم الخاصة للحدث وتلوينه بألوانهم.
يمكن القول إنّ الانتفاضة التونسية قد حققت انتصارا جزئيا ولكنه انتصار
كبير، وهذا ما يميّزها عن الانتفاضات الكبرى السابقة في الثمانينات من
القرن الماضي، فقد نجحت في تحقيق هدف مهمّ هو إسقاط الرئيس رغم كونها بقيت
عاجزة حتى الآن عن إسقاط النظام، ومن مكاسبها إدراك الجماهير جزئيا أنه لا
بناء للجديد دون تحطيم القديم، ولا مجال للسلطة البديلة دون تفكيك السلطة
القديمة، وقد شهدت بعض المؤسسات حركة احتجاجية في هذا الاتجاه، ونجح
المحتجون في فرض موظفين منتخبين وطرد الموظفين المنصبين من قبل جهاز
الدولة، وأصبح لكلمة "ارحل" -التي يجري تتفيهها الآن- مفعولها السحري الذي
يختزل إرادة المقهورين التواقين لفرض سلطتهم، كما تم تشكيل هيئات تنظيمية
لتكون بديلا للسلطة الرجعية، والمهم هنا أن الانتفاضة اقترنت بمحاولات
تنظيم جدية للدفاع والإدارة الشعبية.
إنّ الجماهير الواسعة تفتح الآن عينها على نحو لا سابق له على الشأن
السياسي بفعل الانتفاضة، كما أن القوى السياسية تستفيق من نومها وتنفض عن
برامجها تراب السنين، والصراع الطبقي بأشكاله المختلفة يحتدّ، ولن يلبث أن
يضع على الطاولة مشكلة التحرر من هيمنة الامبرياليين الذين يصورون أنفسهم
اليوم كحماة لكرامة التونسيين.
غير أنّ الانتفاضة الحالية لها حدودها البينة فهي بمثابة عتبة من عتبات التاريخ
وهذا يطرح على المضطهدين، الذين دخلوا بقوّة إلى ساحة الفعل السياسي، قول
كلمتهم، عبر مواصلة انتفاضتهم في اتجاه تنظيم صفوهم وإفراز قياداتهم وتوضّح
أهدافهم ومهماتهم.
ومن المهم إدراك ما عليه حال الانتفاضة الآن، فالقيادة مفقودة والبديل
غائم عدى شعارات سياسية عامة وأشكال تنظيمية هلامية، تجمع غالبا تحتها
اليمين وبعض أطياف اليسار في غرفة انتظار واحدة، مما يعني أن التخوم
والحدود بين الشعب وأعدائه غير واضحة المعالم، وعلى أيّ حال فإنّ الانتفاضة
أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما أن تتطور لكي تصبح ثورة عارمة تحقق فعلا
مهماتها التاريخية، أو تتحول إلى تراجع كبير ينفتح المجال فيه أمام القوى
الأشد ارتكاسا لكي تعبث بمكاسبها.
وهذا يتوقف على تغيير أساليب النضال وتبين حدود أسلوب مثل الاعتصام الذي
يُعتقد على نحو خاطئ أنه صيغة نضالية مثلى لإسقاط النظام، وربما يجدر
التذكير هنا أنّ السلطة "الجديدة" قديمة وأجهزة الدولة القمعية لا تزال على
حالها. لقد اهتزّ البنيان الطبقي السائد تحت وقع زلزال الانتفاضة ولكنه
استرجع توازنه مؤقتا، وتعمل السلطة الآن على معالجة الهزّات الارتدادية .
وفي المقابل عندما تقدّم الانتفاضة بديلها وقيادتها وتنجح الجماهير في
إدراك صحيح لوضعها، وتحقق على أساس ذلك مهماتها وتضع على الرفّ الوجوه
القديمة باقتصادها وسياستها و ثقافتها وتبني جديدها، حينها يكفّ الحدث عن
أن يكون انتفاضة ويصبح ثورة دون نسيان أنّ المهام الكبرى لا تنجز في غالب
الحالات إلا وهي تواجه المخاطر، وللحرية دروبها الوعرة ومخاضاتها العسيرة،
فالشعوب عادة ما تسير نحوها وسيف ديموقليس مُصلتٌ على رأسها.