لماذا أعلنت حركة 'كفاية' خـــروجها رسميا مما يسمى 'الحملة المصرية ضد التوريث'؟، قد يثير الموقف تساؤلات بلا نهاية، وخصوصا لدى الذين قد تغيب عنهم تفاصيل خرائط المعارضة المصرية، وفي أعناقنا دين أن نشرح القصة كلها للرأي العام.
وقد لايتسع المقام لرواية تفاصيل بلا حصر، فقط نتوقف عند الإشارات الكبرى، فقد تلقيت ـ بصفتي المنسق العام لحركة كفاية ـ دعوة من أيمن نور المرشح الرئاسي السابق أوائل تشرين الأول (اكتوبر) 2009، كان العنوان: دعوة لإنشاء ما يسمى 'الجبهة المعارضة للتوريث'، بدت الدعوة بعناوينها مثيرة للريب، فأيمن نور ـ لأسباب كثيرة ـ شخص ملتبس، وعلاقاته الأمريكية بالذات مثار شبهات وتكهنات، ثم أن الدعوة لجبهة جديدة بدت غريبة، فكفاية ـ في ذاتها ـ نواة ائتلاف وطني جامع ضد التمديد والتوريث معا، ثم أن كفاية بادرت بالدعوة لإنشاء 'ائتلاف المصريين من أجل التغيير'، وهو جبهة واسعة تضم سبع حركات سياسية راديكالية مع قادة الغضب الاجتماعي ومئات الشخصيات العامة، وسبق لأيمن نور نفسه أن وقع على بيانها التأسيسي الذي أعلن في 4 نيسان (أبريل) 2009 ، وفي حوار لاحق بيننا جرى بناء على طلب وإلحاح نور، أبلغته رفض كفاية لتسمية 'الجبهة'، وبدواع مفهومة، فنحن لانريد تفتيت الجهد الائتلافي الذي جرى، ونعطي الأولوية للبناء عليه، ثم صارحته بمخاوف من تفتيت قضية التغيير بعد تفتيت التنظيم، وحصر الموضوع كله في معارضة توريث جمال مبارك، وكأننا نتغاضى ضمنا عن التمديد لرئاسة مبارك الأب، بينما خطر التوريث في وضع العرض لمرض التمديد، وكان اقتراحنا أن يتغير المسمى إلى 'الحملة المصرية ضد التوريث'، وأن تتضمن وثيقتها الأساسية رفضا للتمديد والتوريث معا، وأن يكون نشاطها في صورة حملة نوعية متصلة ببرامج عمل 'ائتلاف المصريين من أجل التغيير'، ووافق نور بحماس ظاهر، وجرت الدعوة ـ من جانبه ـ لاجتماع الأطراف المستعدة للمشاركة في 14 تشرين الأول (اكتوبر) الفائت، وهنا وقعت الصدمة الأولى، فقد ذهبت الأطراف ـ وبينها ممثل لجماعة الإخوان ـ إلى اجتماع تشاوري في مقر حزب 'الغد'، وفوجئت بنور، وقد أعد مؤتمرا صحافيا بدون مشورة أحد، وحول القصة كلها إلى حفل التقاط صور بدا فيه في صورة زعيم المعارضة، وهي صورة متلفزة تزيف الحقائق على الأرض، وبدت كطعنة مبكرة واختصار مخل يشوه القصة كلها .
وفي اجتماعات تشاورية لاحقة، بدا التوتر محمولا على أعناق الكلمات، وأصرت 'كفاية' على نقل الاجتماع من مقر 'حزب الغد' الذي يتزعمه نور، وهو ماتحقق، وتم إلغاء تعبير 'ما يحكمش' الذي اتخذه نور شعارا للحملة من طرف واحد، وبدواعي نقص لياقته اللفظية، فالتعبير دارج في أفلام السينما المصرية على شفاه الراقصات، وفي مواقف 'المتمنعات وهن الراغبات' (!)، ولا تصح مقارنته بشعار 'كفاية' التلقائي البليغ الناطق، واضطر نور للتراجع، وسحب الشعار الركيك، ثم تواترت دواعي الريبة في أصل القصة، فقد ثبت أن سعد الدين إبراهيم وجماعات لأقباط المهجر في أمريكا تلعب من وراء ستار، وكانت على صلة بمبادرة أيمن نور، وهنا أصرت 'كفاية' على قصر المشاركة في الحملة على المصريين في الداخل، وشددت على ربط العداء لنظام مبارك تمديدا وتوريثا بالعداء للمشروع الأمريكي الصهيوني وأدواته وإدارته الأمريكية، كانت دواعي الريبة تتكاثف، وكان الحرص زائدا على تضمين مبادئ كفاية في نص وثيقة 'رسالة الحملة'، ونجحنا في الحصول على إجماع الأطراف المشاركة مع تململ ظاهر لأيمن نور، وقبل أن يجف حبر الوثيقة تكشف المخبوء الأخطر، فقد جرى الإعلان عن سفر أيمن نور لأمريكا، وعن اللقاءات التي أعدت له هناك، وانفجر الصدام صاخبا في اجتماع عقد بمقر حزب الجبهة الديمقراطية الذي يترأسه د . أسامة الغزالي حرب، وهو حزب ليبرالي أشد ضعفا من حزب أيمن نور، ولم تكن الحكاية في السفر المزمع كطقوس وإجراءات، ولا في قرار النائب العام بمنع نور من السفر، فنحن ضد منع أي مواطن من السفر خارج أحكام القضاء، وحرية التنقل من الحريات المدنية الأساسية، لكن الأهم كان في وثائق الدعوات التي حصلنا عليها، والتي كانت موضوعا لمواجهة ساخنة أخيرة، وقررت كفاية بعدها ترك الحملة نهائيا، ولاعتراضات جوهرية على مبدأ الاتصال أو الحوار مع الإدارة الأمريكية وسفارة 'العم سام' بالقاهرة .
في الوثائق ـ الموجودة لدينا ـ دعوات لنور من أربع جهات، أولها 'ائتلاف المنظمات المصرية في أمريكا'، وهي جماعة لأمريكيين ذوي أصل مصري، والقوة الدافعة فيها لسعد الدين إبراهيم وكميل حليم من أقباط المهجر، وصلة إبراهيم بالإدارة الأمريكية مشهورة، فهو البوابة الكبرى لتوزيع تمويل بالملايين على جهات مصرية مقربة من أمريكا، ناهيك عن ارتباط جماعات من أقباط المهجر باللوبي الصهيوني في أمريكا، وجاءت الدعوتان الثانية والثالثة من مركز أبحاث 'كارنيجي' ومجلس العلاقات الخارجية، والجهتان من مراكز التفكير الوثيقة الصلات بالمؤسسة الأمريكية السياسية والأمنية، وفي الدعوة الرابعة يتكشف الارتباط المباشر بالإدارة الأمريكية، وبغير شك ولا التباس ولا تأويل، فقد وجهت الدعوة من الوقف القومي للديمقراطية n.i.d، وهذه هيئة تتبع الكونغرس الأمريكي، وتتلقى موازنتها السنوية الضخمة من موارد الخزانة الأمريكية مباشرة، وتعد واحدة من أخطر الأقنعة والواجهات التي تعمل المخابرات المركزية الأمريكية من خلالها، وفي خطاب الدعوة ـ تحت يدنا ـ تأكيد لحضور أعضاء كونغرس وممثلين عن الإدارة الأمريكية في اللقاء الذي كان معدا لنور، ثم أن خطاب الدعوة لايخفى ذقنه، ويشير إلى دعوة أيمن نور للحديث عن أولويات أمريكية خالصة للإصلاح الديمقراطي في العالم العربي، ولا يدعك الخطاب تخمن أو تفسر في شروح الإصلاح الذي يقصده، فهو يتحدث عن 'إصلاح' بانت بشائره وتوالت، وبالذات مع ما يسميه الخطاب 'هزيمة الإسلاميين في لبنان' والانتخابات العراقية الناجحة، أي أن الإصلاح الديمقراطي ـ في نظر الإدارة الأمريكية ـ هو هزيمة حزب الله انتخابيا ونجاح المالكي ودمى أمريكا في العراق، وحين قمنا بعرض الوثائق التي لم يجادل نور في صحتها، بدا نور وكأنه وقع في الحفرة، وقال أن 'إنكليزيته ضعيفة'، وإنه لو كان يعرف ما كان قبل الدعوة، وهنا توجهنا إلى د. حسن نافعة مدير الاجتماع، وقلنا له أن 'العذر بالجهل' وارد جدا، وطلبنا إليه أن يصدر ـ بصفته منسق الحملة ـ بيانا ينهي اللغط، ويؤكد على حظر اتصال أي طرف في الحملة بالإدارة الأمريكية في أي مستوى من مستوياتها، ومن البيت الأبيض إلى الكونغرس إلى منظمات التمويل إلى السفارة الأمريكية بالقاهرة، وبدا 'نافعة ' في حرج مربك، وكأننا نطلب منه أن يشرب السم، وقذف في وجوهنا بالمفاجأة الأسوأ، قال أنه هو نفسه لبى دعوات سابقة بالذهاب إلى السفارة الأمريكية بالقاهرة، وقد يلبي دعوات لاحقة، بينما انبرى أسامة الغزالي حرب الذي كان يجلس إلى جوار نافعة، وقال ـ مفاخرا ـ أنه عائد لتوه من السفارة الأمريكية، وهنا كدنا ننفجر من الضحك غيظا (!)، فقد وصلت الكوميديا السوداء إلى منتهاها، وبدا كأن المشهد العبثي قد يغرى بتقديم اقتراحات من ماركة نقل اجتماع حملة التوريث بدوره إلى السفارة الأمريكية.
هذه قصة خروجنا، ولها ملحق تفسير يتعلق بدواعي رفض كفاية لأي اتصال أو حوار مع الإدارة الأمريكية، ورفض العمل ـ جملة وتفصيلا ـ مع أطراف 'جماعة أمريكا' في مصر، فنحن نعتبر أن وجود أمريكا في مصر نوع من الاحتلال السياسي، ونعتبر أن السفارة الأمريكية ـ في غاردن سيتي ـ هي دار المندوب السامي الجديد، وأن نظام مبارك ـ بنسختي التمديد والتوريث ـ هو الوكيل المحلي للسياسة الأمريكية، وأن علاقة السفارة الأمريكية بقصر رئاسة مبارك أعادتنا إلى ما قبل ثورة 1952، وتماما كما كانت علاقة قصر الملك بدار المندوب السامي البريطاني، وهو ما يحدث فروقا واسعة في النظر إلى قضية التغيير في مصر، فكفاية تتبنى أجندة وطنية ديمقراطية اجتماعية بإمتياز، وتسعى لتحرير مصر من الهيمنة الأمريكية الإسرائيلية، تماما كما تسعى لخلع الديكتاتور، وتحرير المصريين من استبداد النظام الناهب الخادم للأمريكيين والإسرائيليين، وفي وثائق كفاية وائتلاف التغيير، يتجلى رباط 'العروة الوثقي' بين استعادة استقلالنا الوطني وكنس نظام الديكتاتور، فقد وضعت مصر في القيد بتداعيات معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، والتي أدت مضاعفــــاتها إلى نزع سلاح غالب سيناء، ثم جاءت المعونة الأمريكية الضامنة لتــــنزع ســيادة قرار السياسة والاقتصاد في القاهرة، و مع تحول النظام من حكم الحزب الواحد إلى صيغة حكم العائلة الواحدة، توثقت صلات الرحم بين العائلة الحاكمة ودار السفارة الأمريكية، وصار على مبارك الأب أن يجدد أوراق الاعتماد الرئاسي ـ كل حين ـ من البيت الأبيض، وأن يدفع 'الجزية' لحساب إسرائيل طلبا لرضا 'الباب العالي' في واشنطن، تماما كما يفعل جمال مبارك كوريث محتمل، ويذهب في زيارات سرية وعلنية لتوثيق أوراق اعتماده بأختام الإدارة الأمريكية، ويكفى ـ بعد حقائق الهيمنة على السياسة والاقتصاد ـ أن نتأمل خرائط توزيع القوات الأمريكية في مصر، فالقوات المتعددة الجنسيات في شرق سيناء غالبها من الأمريكيين، والأمريكيون يديرون محطة الإنذار المبكر، أضف إلى ذلك ـ وهذا هو الأخطر ـ ما ورد في تقرير أخير للجنرال الاسرائيلي آفي ديختر، فقد كشف عن تواجد ما أسماه نقاطا لقوات المارينز في القاهرة نفسها، وأنها مستعدة للتحرك وقت الخطر، وبانتظار وصول الامدادات اللاحقة، والمحصلة: أن أمريكا ـ حتى بالمعنى العسكري المباشر ـ قوة دعم لديكتاتورية النظام المصري، فوق كونها قوة الاسناد الأولى لاسرائيل كأعظم خطر على الوجود المصري.
الأربعاء ديسمبر 02, 2009 3:24 pm من طرف حياة