حينما يُكسَر القيد
بشرى ايجورك -
bouchra_ijork@yahoo.fr
قدمت مصر الكثير إلى السينما
العربية، أتحفتنا وأغرقتنا بسيل من الأعمال الكوميدية والدرامية وبفنانين
كثر صاروا جزءا من تاريخنا لكثرة ما شاركونا موائد الغداء والعشاء، لكن
فيلم مبارك فاق كل الانتظارات، وما يقع الآن في مصر تجاوز قصص الأفلام
الأمريكية الأكثر حبكة وصلابة وقوة..
من كان يتصور أن هناك قائدا يفضل أن يموت الكل ليحيا هو..
أن يصمت الكل ليتكلم هو، أن يفنى الكل ويخلد هو..
ألهذه الدرجة يصعب فراق كرسي الرئاسة؟ أم إنه التشبث الأعمى بالسلطة والقوة والجاه والجبروت..
لقد فوجئ مبارك بأن لشعبه صوتا يمكن أن يرتفع وحناجر يمكن أن تصرخ. ولأنه
تعود على ألا أحد يجرؤ على مقاطعته أو معارضته وعلى أنه «فرعون» زمانه لا
يزوره الخطأ مطلقا، فإنه لم يتقبل أنه بلغ نهاية الطريق وأن شعبه كسر قيود
الخوف والضعف والاستسلام.
سعيدة، لأن الله جعلني أعيش لأرى ثورة شعوب ظلت تتحمل أبشع صور الاستغلال
والإهانة، كنت سأرحل عن هذه الدنيا بكثير من الأسى لو أنني لم أعش استفاقة
شعوب من إغماء طويل كلفها كرامتها وعزتها والعيش الكريم.
ما لم يفهمه مبارك وفهمه بن علي متأخرا، أن الخوف لا بد أن يتبدد يوما وأن
الشعب إذا انتفض لا شيء يهدئه سوى التغيير.. إنها صرخات ضد الاستبداد لا
يمكن أن يسكتها إلا النصر أو الاستشهاد، وليس خطابات بكلام مزخرف وكلام
يُجتر منذ سنين طويلة كئيبة ومريبة.
خطابات شبيهة بوجوه هؤلاء الرؤساء التي لم تتغير عما كانت عليه منذ عقود، من فرط التلميع والجراحة والصباغة كعائدين من القبر.
لقد وضع هؤلاء حسابا لكل شيء، إلا لثورة «البوعزيزي» المفاجئة، لذلك لم
يتحملوا أن يصرخ يوما ما شعبهم في وجههم بعد سنين من المشاعر الكاذبة والحب
المزيف.
لقد فضل مبارك أن يدوس شعبه كي يبقى هو، فضل أن يشعل النيران في البلد كي
يحمي بيته هو.. أيُّ هستيريا أصابت السيد الرئيس وجعلته يحرق بلده دون
رحمة.
إنهم كائنات مشوهة مريضة بالسلطة والاستبداد، تعودت تزوير الانتخابات وشراء
العباد والأصوات، تعودت تعذيب الناس دون رأفة وتجويعهم وسحقهم وخنقهم
ووأدهم وهم أحياء..
دماء مواطنين مسالمين روت أراضي لم تشبع من دم ومن دمع ومن أسى..
لشعوب لم تطلب أكثر من الرغيف والبيت والدفء، مستوصف قريب ومدرسة للصغار وصنبور ماء بالبيت..
مطالب صغيرة وبسيطة لمواطنين يعيشون غرباء في بلدهم، لا تربطهم به سوى
بطاقات رسمية لا تنفع في شيء.. جوعى، عراة، حفاة، جهلاء، مرضى..
موتى وهم أحياء..
ما فهمه بن علي متأخرا، هو وأشباهه، لم يفهمه مبارك بسبب صدمة غير متوقعة..
ربما يظن أنه حتى الموت لن يزوره مطلقا وأنه خالد مدى الدهر، لذلك فضل
القتل والدمار على الانسحاب والرحيل.
كأنه، من فرط مشاهدة الأفلام المصرية، ظن حقا أنه بطل خارق يمكن أن يحمل
بندقيته ويقتل آلاف العباد دفعة واحدة، يمكنه أن يحرق القاهرة وينظر إليها
من برجه العالي ضاحكا مبتهجا..
أي مرضى هؤلاء الذين حكموا شعوبا لعقود وجعلوهم يتحملون أمراضهم النفسية..
لا يمكن لشخص سوي أن يرسل دبابات لسحق مليونين من البشر ينادون بصوت واحد: إرحل..
حينما يوحد الشعب نداءه ويكسر القيد، لا شيء يمكن أن يسكته.. كبركان ظل خامدا لسنين وذات يوم غضب وتوتر واشتعل..
لقد ظللنا نتابع مسرحية من فصل واحد لسنين، نفس البطل ونفس الأداء ونفس
الأسطوانة.. لكن الجمهور تعب من هذا العرض السخيف وطالب بالبديل..
فلينسحب الممثل، وليترك لشعبه فرصة كتابة فصول جديدة لمسرحية مشوقة، عذبة بنهاية سعيدة.