كما كان متوقعا تناقلت نساء
الحي خبر موت ذلك الرجل الثمانيني، إمام الحي ومؤذنه ذو اللحية البيضاء،
كنا جميعا نجله ونحترمه ونسميه كما جرت العادة الفقيه، يتذكره شباب الحي
كرجل عطوف يعتبر كل شخص في حيه قضيته واهتمامه، كان يقدِم إلينا في ليالي
الصيف ونحن نتسامر ونقهقه لا نعير انتباها للزمن. لربما حسدنا الفقيه على
متعة الشباب في قرارة نفسه، لكن خطواته الوقورة كانت تستبعد ذلك.
في إحدى تلك الليالي ألقى علينا موعظته المعتادة: افعلوا كذا ولا تفعلوا
كذا. ثم أنهى كلامه قائلا: اذهبوا للنوم لتستعدوا لصلاة الفجر يا أبنائي.
فرد عليه احد الشباب متهكما:
ما أدراك أيها الفقيه أن الفجر سيأتي، لقد سمعنا في الأخبار أنه لن يأتي
الليلة فنم قرير العين.
كنا نقهقه جميعا ليس للنكتة طبعا لكن لأن قائلها أحدنا، لقد كان مادة خصبة
لنكاتنا لكنه كان يعلم أننا نمازحه لا غير فقد حظي باحترامنا جميعا خاصة
عندما ينهي مواعظه بجملته المفضلة:
هداكم الله يا أبنائي.
فنرد جميعا: آمين.
اليوم نحضر جنازته بعد صلاة العصر، وهو الذي كان بيننا منذ ساعات معتادا
على رؤية الموت، واثقا من كلماته كأنه نبي، كم غسل بين يديه الكثير من رجال
الحي بل وأطفاله وشبابه، لشد ما كان يؤلمه موت أحد الشباب.
ما أزال اذكر دموعه الغزيرة على شاب مغدور في قوارب الموت وهو يطارد حلم
الجنة في الضفة الأخرى، كأن المصاب مصابه، كان يحز في نفسه ذلك كثيرا
ويجعله مناسبة لموعظة أخرى يلقيها علينا بين الفينة والأخرى في المسجد.
اليوم هو مكانهم مسجى، ونحن خلف موكبه الجنائزي المهيب، رجال يحملونه
خاشعين، والنساء في الأحياء التي يمر منها يمعنّ النظر من النوافذ، والمارة
يتركون ما يشغلهم ويتوقفون. شرطي المرور ينزع قبعته ويؤدي التحية العسكرية
إجلالا للمتوفى، لكن ما إن تلتفت وراءك حتى تجد العالم عاد إلى سابق عهده،
صراخ هناك وجري هنا في انتظار الوافد الجديد.
ونحن نصلي الجنازة على روح الفقيد لم أتذكر كيف تؤدى لكني صليت كما رأيتهم
يفعلون، ثم بخطوات سريعة وصلنا إلى القبر مثواه الأخير، فوضعه "المختصون"
في الحفرة مرددين الأدعية ومسبحين لفرط ما رأوه من سلاسة في الدفن، وكأن
المتوفى من أولياء الله الصالحين.
لم تكن لعيني الفتية سوى أن ترى حفرة كبيرة دخلها جسد نحيف، ولكني لم أكن
لأسمح لهذه الأفكار أن تغادر جمجمتي، فشيوخ الحي وأهل المدينة ممن أحبوا
الفقيد كانوا جميعا حاضرين، بل حتى قصص الأطفال التي أعطانا إياها أساتذتنا
عندما كنا صغارا كانت تصر على أن العظماء لا يموتون إلا ميتة عظيمة.
لذلك لم تفارق عيني جثمان الفقيه والتراب يغمره شيء فشيء.
وفي لمح البصر رأيت أحد أصابعه، كان شاحباً.
لقد جرحت هذه المشاهد مشاعري الجياشة، ولم أرد سوى مغادرة هذا المكان
البائس. ومادامت هذه الخاطرة لن تغادر جمجمتي أيضا، فقد قررت الانسلال بين
الحشود من هذا المكان الذي لم يكن يحمل سوى المشاهد الثابتة السكونية قدر
سكون قاطنيه، كل شيء فيه مباشر بلا إضافات، لا حب هناك ولا كراهية، لا
تفاؤل ولا تشاؤم، إنه أرض محايدة يترك فيها الإنسان معاركه المضنية ويشتبك
مع التراب، وهنا يخسر المعركة لا محالة فيضمحل تحت وطأة الطبيعة، لم أستطع
حتى أن أتخيل أن عرس الديدان هذا ينتظرني يوما وأنا الشاب الذي لم يمر على
قبلتي الأولى بضع أسابيع.
أتلمس طريقي بسرعة إلى خارج المقبرة، إلى عالمي حيث أنتمي، هناك الهواء
النقي وكذلك معاني الأشياء.
وقفت أمام باب المقبرة ورأيت الناس يتسارعون ومتاجر ومحلات للورد وشاب مع
حبيبته يكلمها بصوت منخفض فيما أرجح أنها أعذب الكلمات، قفزت إلى الحافلة
بسرعة وتنفست الصعداء.
وبكل سذاجة قلت لنفسي:
لن أرجع إلى هناك.