1- تقديم
يراهن القاص الجزائري حسين فيلالي في مجموعته ما يشبه الوحم على كتابة قصصية منفتحة على واقعها ومنشغلة بمفارقاته وتوتراته برؤية تعميمية تتجاوز الزمان والمكان،مع الانطلاق من الأسس السردية التراثية، وخصوصا الحكاية الشعبية، على مستوى البناء وتأسيس وتأثيث عالمه القصصي. وكذلك من خلال لغة تمتح من معين تراثي. وذلك في سياقات لغوية ومواقع قصصية تشتد فيها قمة السخرية والمفارقة.
أول ما لفتنا في هذه المجموعة، هو وجود توحد تيمي وبنائي، قلما نجده في مجموعة قصصية.
فعلى مستوى المضامين، نجد أن قصص المجموعة، بدون استثناء، منشغلة بإشكالية أساسية واحدة وهي إشكالية السلطة في علاقتها بالحرية. وهو ما جعل قصص المجموعة بمثابة تنويعات قصصية حول إشكالية السلطة، ومرايا لبعضها البعض، وهي بالنسبة لنا كذلك مرايا ننظر منها إلى طبيعة السلطة وطريقة اشتغالها وآثارها على الناس.
ويوازي هذا التوحد التيمي توحد بنائي بخضوع القصص لنفس البنية القصصية، باستلهام روح الحكاية الشعبية، وتمثلها قصصيا ومحاورتها والتفاعل معها، وكذلك الاشتغال على الحلم وإمكاناته، والسعي إلى إظهار المفارقة المبطنة بنوع من السخرية السوداء، كشكل من أشكال من المقاومة لاستبداد السلطة وتعفنها.
2- مفارقات السلطة وحماقاتها
ما يميز مجموعة ما يشبه الوحم على مستوى مضامينها هو توحدها حول مشكلة واحدة هي مشكلة الحرية في علاقتها بالسلطة والتسلط. محاولة إبراز تناقضات السلطة التقليدية وحماقاتها ودواليبها كيف تدار وتدبر وتنتقل في مجتمعاتنا العربية، وإبراز سلبياتها. وقد توقفنا عند عدة نقط ارتأينا انها مشخصة للسلطة ومبرزة لتناقضاتها وهي:
- الصراع حول السلطة بين من يديرونها وكذا الكشف عن كواليسها. مثلا في قصة "رأس في المزاد السري". من خلال الصراع حول رأس السجين واختفائه المفاجئ بعد أن طلبه الملك. يقول:
"لم يستطع الملك تحمل سماع النبأ فأغمي عليه.
يقال:
- إن الوزير احتفظ بالرأس لنفسه.
ويقال:
- إن زوجة الملك أوصت به لابنها.")ص.11-12.(
- الانشغال بالأمور التافهة وإهمال ما هو أهم؛ كما هي الحال في قصة "التمثال". عندما ارتأى المقربون من الملكة بناء تمثال لها. يقول في تعبير مبطن بالسخرية السوداء:"لقد تعلم الشعب زيادة عن اللزوم، وصار يلوك كلاما ليس من كلامنا، ويحلم بأحلام ليست من أحلامنا واكتسبت صحته مناعة لم يعد معها في حاجة إلى رعاية صحية، ورأيي أن نستغني عن بناء المدارس والمستشفيات، ونحول أموال المشاريع لبناء تمثال الملكة." )ص.14.(
- مواقفها السلبية: يقول في قصة "الوسم على الخرطوم". عن موقف حاكم البلدة التي هاجمها الغرباء حين توجه إليه الناس حاملين خوفهم:"دعوهم فإنهم لن يمسوكم بسوء." )ص.18.(
- تجدرها واستمراريتها: بالتأكيد على أن طبيعة السلطة واحدة ثابتة لا تقطع الصلة مع جذور التسلط والتجبر، يتعلق الأمر بشكل واحد للسلطة يتجدد فقط القائمون عليه. من خلال جعل القصة تدور في زمن السيرة الهلالية في قصة "زمن الزناتي". التي تؤكد أن التسلط واحد وأشكال تدبيره والتمسك به واحدة.
- تعنيف الناس رمزيا وجسديا في قصة "البئر رقم مائة". التي يعامل فيها الكلب أفضل من الإنسان. في صورة ممعنة في السخرية والمفارقة، تظهر جدلية الخضوع والإخضاع، لما يتبول كلب تقوده صاحبته على قطع الكرطون فتتحرك من تحتها أجساد بشرية، فتفزع الكلب، يذهب إلى صاحبته يعوي، يشتد غضبها، يهرع إليها شرطي المرور، تخبره بما جرى، يخرج هراوته، وينهال على الأجساد المتدثرة بالكرتون ضربا وركلا. )ص.26.(
- خنق حرية المواطنين والقضاء على المعارضين في حياتهم في قصة "البحث عما يشبه الصورة" وقصة "الصورة" وحتى بعد موتهم، والإصرار على السلطة والتمادي في تعنيف الناس. في قصة "تكميم أفواه الأموات" أصبح يزور الحاكم في النوم شبح أحد معارضيه الذي نكل بهم وقتله. يأتيه لينتقم منه على الرغم من الحرس. فأصدر مرسوما رئاسيا ممعنا في السخرية، يتم بموجبه " إجبار الأهالي على تقييد موتاهم وتكميم أفواههم قبيل دفنهم، ووضع طبقة سميكة من الإسمنت على قبورهم." )ص.31.(
- العبث بأجساد الناس: بسجنهم وتعذيبهم بتهم باطلة. كما في قصة "الصورة" حين يتم اتهام رسام بتشويه صورة الرئيس، وبعد التحقيق يتم تشويه جسد الرسام بجذب عينيه وقطع يديه وجذع أنفه.
- أحلامها أوامر: كما في قصة "البحث عما يشبه الصورة". ما يقوم به الحاكم المتسلط من قرارات يختلط فيه الممكن بغير الممكن، فينتج عن ذلك سلوكات غريبة تصير شبيهة بعالم الحلم. وهذا ما يفسر الحضور القوي للحلم كإطار لكثير من قصص المجموعة.
- جبنها لما تقع في مواقف حرجة: قصة "اثنان في واحد". التي تظهر تناقصاتها ومفارقاتها المتمثلة في التسلط على الضعفاء والخوف من الأقوياء. حين يعتدي رجل سلطة على مواطن أعمى لما يداهمه بسيارته وبصق عليه وأخذ يمسح بأسماله الممزقة الدم العالق بسيارته. ولما يكون هذا المتسلط في حافلة يصعد إليها مجنون ملثم تختفي كل مظاهر تسلطه ويبلغ الجبن به إلى التحول إلى امرأة كي يبقى على قيد الحياة.
وتبرز، أيضا، قصص المجموعة أن هذا التسلط والتمسك به ناتج عن إرادة الخضوع الموجودة لدى الناس، فهناك تواطؤ لاواعي يجعل أشكال هذه السلطة تستمر وتتناسل وتتأبد. فتشخص لنا القصص، كذلك، أشكال الطاعة والخنوع التي تميز الناس ومن هم في حكم "المواطنين" الصالحين المنقادين الطيعين الخاضعين.
تقدم لنا القصص مجموعة من أشكال الخضوع والاستسلام. أي القابلية والاستعداد للخضوع للسلطة والتسلط، والمقصود تلك السلطة العفوية التي تمارسها الجماعة، ووجهة نظرها حول الواقع وحول السلطة ذاتها، فتجعل السلطة أمرا مقبولا، من خلال فعل الاستجابة للسلطة والخضوع لها، بتلبية كل أوامر الحاكم، وتحقيق كل أحلامه وحماقاته. يقول في قصة "البئر رقم مائة" في مقطع معبر عن الخضوع المطلق:"وإذا غدوت وسطهم لم أعد استطيع مقاومة هذه الرغبة اللعينة، لقد صار التاج يتمايل فوق راسي، الناس ينحنون إجلالا لي ويهتفون كعادتهم كلما تسلط عليهم ملك جديد: لقد اخترناك وارتضيناك ملكا." )ص.25.( ويقول في نص آخر ممعن في السخرية، يبرز مدى التمسك بالحكام، إلى درجة التأليه والتخليد:"وما لم تذكره الحكاية أن قريب الملك لما عاد وأشاع أن دابة الأرض قد أكلت عصا الملك وأن جثته وجدت مستوية على الأرض ينخرها الدود، لم يصدقه أحد من المدينة واعتبروا ذلك حيلة من حيل شرطة الملك وجلاديه، فصاحوا في رهبة وخوف: عاش سيدنا، سيدنا لم يمت، لم يمت." )ص.46.(
والسلطة المتحدث عنها تقليدية ولو اختلف الزمان والمكان والتسميات "الملك"، "الرئيس"، "القائد"، "السلطان"... لا تغير من جوهرها. يتعلق الأمر بسلطة غير شرعية لا تعير رؤية القائمين عليها أي أهمية للتشريعات والقوانين التي من المفروض أنها تنظم عملها، وإنما تفرض توجهاتها باستخدام آليات السلطة العنفية في وجه المعارضين وعامة الناس وترفض وجود سلطات أخرى، وتخضع لسلطات خارجية لما تقتضي مصالحها ذلك واهمها وأعلاها البقاء في السلطة.
3- التفاعل مع الحكاية الشعبية والسخرية
تحضر الحكاية الشعبية كخلفية للكتابة القصصية في هذه المجموعة، في إطار رؤية تناصية مبطنة، وهي خلق حوار معها لكن ليس من أجل إعادة كتابتها وإنما توظيفها لكتابة قصص قصيرة، منفتحة على واقعها الموسوم باشتداد التسلط والعنف.
وتتفاعل المجموعة مع الحكاية الشعبية في تجليين أساسيين من تجلياتها، وهما الحكاية المرحة، والحكاية العجيبة.
فعلى مستوى الحكاية عموما نجد ملمحا أساسيا توظفه المجموعة(في أغلب قصصها) وهو التنكير، ونقصد به تنكير الشخصيات، وتجريدها من الأسماء، وتنكير كذلك المكان والزمان، وإن ظهرت بعض الإشارات الزمانية أوالحيثيات المكانية، فهي مغرقة في التعميم. فأحداث القصص يمكن أن تقع في أي زمان ومكان يسود فيه التسلط والتجبر وتغيب فيه الحرية.
أما على مستوى الحكاية بشكل خاص فإننا نلاحظ تفاعلا قويا مع الحكاية المرحة، إذ تخلق القصص نوعا من المرح لقارئها، انطلاقا من المفارقات المرصودة والأوضاع الساخرة التي تضع فيها رجال السلطة وأتباعهم. وهي بهذه السمة تقترب من النكتة التي تتأسس على السخرية وهو ملمح حاضر بقوة في كل قصص المجموعة. إذ تظهر السخرية كشكل من أشكال المقاومة، مقاومة هذا الوضع المتردي للسلطة بفضحه في قالب يلتقط مجموعة من الأوضاع الساخرة.
تروم القصص وضع السلطة والمتسلطين في مواقف حرجة كشكل من أشكال المقاومة. وهي من أهم أسس النكتة. إذ تراهن المجموعة على فضح عوالم السلطة وطرق عملها ومفارقاتها، فتلتقط كل قصة مفارقة وتبني على أساسها عالمها القصصي. ونلمس هذه السخرية انطلاقا من اختيار عناوين تحمل المفارقة. )رأس في المزاد السردي، حكاية تكميم أفواه الموات، ما لم تذكره الحكاية، اثنان في واحد.(. تجعل القارئ يطرح أكثر من سؤال، فيجد نفسه مدفوعا إلى قراءة القصص.
ومن بين آليات السخرية في المجموعة القلب في قصة "اثنان في واحد"، التي تبدأ بمفارقة ملخصة لجزء منها:"دهس شيخ أعمى سيارة السيد المحترم س، أوقع بها أضرارا مادية، كسرت رجل العجوز، وتنازل السيد المحترم عن حقوقه في التعويض." )ص.53.( مفارقة بين وضعين التسلط والخضوع له، بين الرجولة والأنوثة، من رجل متسلط، إلى جبان يمسخ إلى امراة. يقول:"الاثنان يتصارعان في الواحد، يختفي الرجل الموشك على الانقراض، وتتجلى صورة المرأة المتخفية داخل هذا الجسد الذي كان يدعى ذات يوم بالرجل." )ص.55.( مفارقة تتحقق على مستوى الزمان بين الماضي والحاضر، ماضي التسلط وحاضر الجبن.
وأيضا تقترب من الحكاية العجيبة، ليس بحضور كائنات فوق طبيعية، وإنما من خلال حضور عنصر المسخ الذي يعتري بعض الشخصيات في تجاوب تام مع قصدية المرح والسخرية، إذ يصير المسخ خادما للرؤية الناظمة للمجموعة وهي السخرية من السلطة كشكل من أشكال مقاومتها. يقول:"رأيت ثديا كالشكوة يتدلى من صدري إلى أسفل بطني، ورأيت شعرا كثيفا ينسدل على كثفي، وصدري يغطي مواقع الأوسمة والنياشين، شعرت برغبة لا تقاوم في التحول إلى امرأة عاهرة." )ص.54.( كذلك بما يتوافق والسند الحلمي المؤطر لقصص المجموعة. والشيء نفسه نلمسه في قصة "ما يشبه الوحم." مسخ ناتج في الغالب عن لعنة من جراء ما اقترفته الشخصية من أفعال مشينة.
ومن أشكال التفاعل مع الحكاية الشعبية نجد المعارضة، في قصة "الجنازة"، إذ يصدرها بحكاية شعبية مرحة )خارج القص) تقوم على الحيلة والمكر والانتقام وغيرها من الأسس، ويعارضها بقصة مماثلة (داخل القص.)، كل ذلك يتم في إطار الحلم.
كما تحضر الحكاية كإطار لأحداث القصة، حين تصير أحداثها، من فرط غرابتها، بمثابة حكاية أسطورية يتناقلها الرواة. ونجد ذلك في قصة "التمثال" التي يختمها قائلا:"يحكي مداح القرية المتجول، في يوم من أيام عيد الجسد المقدس أطفئت الأنوار ولم تشعل على غير عادتها، انتظر الجميع، طال الانتظار، وفي الصباح كانت المفاجأة، لم يكن هناك بشر، وإنما كانت هناك أشباح تشبه القردة والخنازير يقفز بعضها فوق بعض."(ص.15.)
نسجل كذلك حضورا قويا للحلم وإمكاناته بما يتناسب ورغبات السلطة والحكام المتجبرين والمتسلطين التي تجعل كل شيء ممكنا، فيتوحد الحلم بالواقع. وكما هو معلوم أن ما يميز الحلم هو أنه مجال يعود فيه الحالم إلى أقدم أوضاعه، بعث جديد لطفولته، للاندفاعات النفسية والغريزية التي كانت تسيطر على هذه الطّفولة، وما يقوم عليه من غياب للمنطق وسيادة للهوى. ولقد أصاب نيتشه حين قال بأنه:"بقيّة من الإنسانيّة الأولى." والحلم في قصص المجموعة مكون بنائي أساسي يسمح للقاص بتصور أوضاع مختلفة لرجال السلطة مفعمة بالتناقض إلى درجة الغرابة. والحلم كذلك هو ما تبقى للقاص أمام مثل هذا العالم الخانق للحرية.
هكذا تقدم لنا مجموعة ما يشبه الوحم صورة مؤسطرة عن السلطة التقليدية، معرية عيوبها وحماقاتها، في قالب ساخر، كشكل من المقاومة فاضح لها ومبرز لتناقضاتها. عبر بناء سردي يتفاعل نصيا مع الحكاية الشعبية في نوعيها: المرحة، فيقربها من النكتة على مستوى السخرية. والعجيب بحضور عنصر المسخ المؤسس على الحلم كشكل من أشكال اللعنة التي تلحق الشخصيات المتسلطة أو المتخاذلة.
------------------------------------------
الخميس نوفمبر 04, 2010 10:12 am من طرف بن عبد الله