تجربة التشرّد والاقتلاع من الوطن تحتم على المرء، التأمّل والتفكر في ظاهرة الوطن، والمكانة والأهمية التي يكتسبها في عقل ووجدان الفرد والجماعة. وضمن هذا التأمل وصل الفيلسوف الروماني سينيكا إلى خلاصة مفادها، “أن الإنسان بحاجة إلى وطن، ويحن، في نفس الوقت، ضمنياً إلى حياة التجوال. وهو يقول: سفينة بلا ميناء، لا تحصل على الرياح المواتية. بعد ذلك بحوالي ألفي عام، أثرى الفيلسوف الألماني من القرن العشرين، مارتن هايدغر النقاش بأطروحته، أن الإنسان بلا وطن يعاني من كينونة النسيان (Seinsvegessenheit) ، والتي تضعه في أزمة عميقة”. ص 9
قد يكون الوطن “غرفة تخص المرء وحده” يجابه فيها الفرد المعزول والمقتلع من أرضه/ هشاشة وجوده بكينونة تحدٍ تُصر على استجلاب الحياة إلى حيث تستوطن العزلة واليأس. ولكن الوطن ليس مجرد مكان محدد بعينه فقط، إنه فوق ذلك، شعور حادّ يطفو فوق جميع الأمكنة وينغرس عميقاً في الوجدان.
في كتابها المعنون، ما الوطن حقاً؟ تركت الكاتبة والصحفية الألمانية ريناته تسولر، لمجموعة من الأشخاص الذين عانوا من الاقتلاع والتهجير سابقاً، واستقروا في ألمانيا، العنان، ليعبروا عن أنفسهم وتجربتهم الذاتية من منظور حياتهم اليوم، ورؤيتهم الخاصة للوطن الأصلي ولوطنهم الجديد، بعد مرور كل هذه السنين. تعددت وتنوعت تجربة هؤلاء الأشخاص من شخص لآخر، بحسب العمر والجنس والثقافة والجغرافية، ولكنها أجمعت كلها تقريباً، على أنه لا يمكن التنصل من الوطن كشعور مهيمن وطاغي، حتى لو حاول الفرد حقاً أن ينفصل عن وطنه، ويقطع كل صلة به، بل وتقر هذه التجربة، أن العودة إلى المكان الذي ولدنا وكبرنا فيه، أمر لا مفر منه، حتى لو ووجهنا بحقيقة مرة، حقيقة أن الوطن المنشود في خيالنا قد تغير كثيراً، كما تغير الأشخاص الذين طالما حلمنا بلقائهم كل هذه السنين. ولن يكون مفاجئاً لنا، أن نلمس منهم شعورهم، بتغيرنا نحن أيضاً عما كنا عليه سابقاً.
هي تجارب اقتلاع متنوعة تتناغم جميعها في التعبير عن الجرح الروحي والنفسي والجسدي والفقد المؤلم، لمكان أثير، وشخوص قريبة من النفس. وهي تجربة جمعية فريدة أيضاً، قاهرة وخالقة لفرد جديد في الآن نفسه، فالوطن والغربة ينتميان لبعضهما ويتآزران معاً في سبيل هذه الولادة الجديدة… وعلى المرء أن يجوب الآفاق، حتى يتمكن من اكتشاف الوطن الذي فقده، وعليه أيضاً أن يصغي للغرباء، حتى يمكنه فهم نفسه ووطنه بشكل سليم. “بينما يشعر العديد من المهاجرين بالغربة طوال فترة إقامتهم في البلد الأجنبي، يبدو الأمر لغيرهم مناسبة للتوطن من جديد … التوطن هو سيرورة فعالة” ص 175.
تشارلز اللاجئ القادم من غانا، لا يشعر أن غانا وطنه بل ألمانيا. غانا الغنية بالثروات والمال لا يحصل شعبها سوى على الألم والتعب . أي وطن هذا، يتساءل تشارلز، يحمل لأبنائه حياة بهذه الصعوبة والمشقة والبؤس. ربما كان هذا حال كثيرين ممن يجدون في الوطن المضيف شيئاً من الراحة بعد عذابات سابقة في وطنهم الأصلي. وهو أيضاً حال خالد، الشاب السوري القادم من حلب والذي لا يريد العودة إلى هناك، بعد أن عايش حرباً طاحناً ذهبت بالكثير من أفراد عائلته جراء القصف الجوي. خالد يتمنى أن تكون ألمانيا وطنه الجديد ولذلك يسعى بكل جدية إلى تعلم اللغة الألمانية وإتقانها.
ولكن ناصر الشاب الأفغاني الذي أمضى جل حياته في إيران، التي جاءتها أسرته هرباً من الحرب في بداية الثمانينات، وافتقدت فيها إلى أبسط مقومات الحياة، وصل إلى ألمانيا لاجئاً، لا تهمه عنصرية البعض من الألمان، فهو يحب ألمانيا كثيراً، ما دام فيها قانون يحميه ويدافع عنه. وهو، أي ناصر، يريد العودة إلى أفغانستان التي غادرها طفلاً وانزرعت في مخيلته كبلد رائع عندما تسنح الظروف. وكذلك تانيا الفتاة البوسنية التي وصلت ألمانيا طفلة مع أهلها هرباً من فظائع الحرب البوسنية في تسعينات القرن الماضي، واكتشفت في المدرسة بين زملائها من الأطفال الألمان، أنها ليست ألمانية، وستبقى توسم بهذا الميسم مهما فعلت، اختارت لاحقاً أن تعود إلى البوسنة وتعيش هناك في وطنها الأصلي وبيئتها الطبيعية، مهما بدا الأمر منافياً للمنطق، أن تترك ألمانيا لتسكن في البوسنة.
إحدى النساء اللواتي حاورتهن الكاتبة تحدثت، بكثير من الحنين، عن سنوات طفولتها الأولى التي أمضتها في ألمانيا الشرقية قبل الوحدة وسقوط بالجدار. وبالنسبة لها لم تكن هذه المشاعر لتعني أنها ترغب باستمرار ألمانيا الشرقية وبقائها ولكنها مثلت رغماً عنها جزءاً اثيراً من حياتها، لم يكن جميلاً تماماً ولكنه أيضاً، لم يكن مطلق البشاعة ولا يمكن التنصل منه. وفي مدينة دريسدن عاصمة إقليم ساكسن، يوجد متحف خاص بألمانيا الشرقية، يشعر زواره بألفة الحياة اليومية فيها قبل الوحدة وسقوط الجدار، والتي لم تكن من أبجدياتها في تلك الفترة، كراهية الأجانب والنفور منهم.
ترى الكاتبة في نهوض اليمين المتطرف، واشتداد عود الأفكار القومية والنزعات التعصبية البارزة للعيان في أوربا من جديد، نوعاً من الرد على العولمة التي عمدت إلى رفع الحواجز الثقافية والقومية والاقتصادية، وفتحت الحدود على اتساعها في أوربا، فشعر الكثير من الأوربيين بنوع من التهديد الوجودي، وهو شعور مبالغ فيه إلى حد كبير. والتركيز الهائل الذي شهدته أوربا بعد عام 2015، أي بعد صدور الكتاب، في وسائل الإعلام على قضية اللاجئين، ساهم في تفاقم المخاوف الشعبية منهم، وتهويلها، الأمر الذي عنى بالضرورة صعود اليمين المتطرف وانتشار شعبيته انتشاراً سريعاً فاق كل التوقعات، ومن هذه الناحية بالذات، يصبح الحديث ممكناً ومنطقياً، عن رعاية موجهة للحركات اليمينية، من قبل الحكومات الأوربية، بقصد إعادة إحيائها في المجتمعات الأوربية لأغراض سياسية. وتحولت سياسة الترحيب في بلد مثل المانيا إلى سياسة ترحيل، وصار السياسيون من مختلف الأحزاب، يتسابقون في بعض الأحيان، في إبراز تشددهم حيال اللاجئين، الذين صاروا قضية ولعبة سياسية لا تتسم بالنزاهة.
في التاريخ الأوربي سابقة ليست ببعيدة زمنياً، حين أعلت سياسة هتلر القومية الاشتراكية من شأن الوطن، كـ “أرض ودم”، وساق بموجب هذه السياسة، الملايين من الألمان وغيرهم إلى موتهم المحقق. وقتها كان الوطن في عيون كبار المثقفين الألمان يقع خارجاً، خارج ألمانيا. بعد الحرب العالمية الثانية، عاد إلى ألمانيا، من المناطق التي تقاسمتها بعد الحرب، دول أخرى مثل بولونيا وتشيكوسلوفاكيا وغيرها، 12 مليون ألماني. وبعضهم كما تقول الكاتبة يقف اليوم موقفا معادياً من اللاجئين الجدد في ألمانيا الأمر الذي يمثل مفارقة نوعاً ما. حدثتني صديقة ألمانية عمرها 75 سنة عادت بعد الحرب من مدينة ألمانية سابقاً، صارت تابعة لبولونيا اليوم، عن المعاملة السيئة التي عوملت بها من قبل أقرانها في المدرسة، إذ كانوا يعيرونها أنها “لاجئة” ويطلبون منها العودة من حيث أتت.
هل يمكن لخبرة الاقتلاع والتشرد المؤلمة أن يتم تناقلها عبر الأجيال بهدف مواجهة أسبابها والحد منها؟ وهل من الممكن أن تصبح المشاعر تجاه المُهجرين الجدد أكثر تسامحاً؟ أثبتت الأزمنة الحالية أن الحرب في ازدهار وانتعاش مستمر بهدف بيع المزيد من السلاح والحصول على مزيد من الأرباح، الأمر الذي يعني المزيد من الضحايا الأحياء منهم والأموات، ولا مصلحة حقيقية لمن يدير مثل هكذا جحيم أن يقف على الأسباب ويحاربها، بل تراه يعمد إلى مفاقمتها وزيادة حدتها. حقاً “لا أحد يحب اللاجئين” كما كتب الشاعر تشارلز سيميك، وهم يُعاملون عموماً في الوجدان الشعبي، بوعي أو من دون وعي، وكأنهم مرض أو وباء يجدر الابتعاد عنه وتجنبه، أو مصير يمكن أن تصيب عدواه سكان البلد الأصليين.