يقول الكاتب المصري أحمد أمين عن أبي حيان التوحيدي إنه "من أولئك العلماء الأدباء الذين أصيبوا في حياتهم بالبؤس والشقاء، وظل حياته يجاهد ويكافح في التأليف واحتراف الوراقة والنسخ وجوب الأقطار، يقصد الأمراء والوزراء لعلهم يكافئون علمه وأدبه، وقد تجاهله المؤلفون والرواة فلم يحفلوا بذكره ولا بكتبه، فقد عجب ياقوت من أنّ مؤرخي الرجال لم يترجموا له، مع أنه فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة".وأشار أمين، الذي قدم وشرح كتاب التوحيدي "الإمتاع والمؤانسة" مع أحمد الزين، وصدر الكتاب عن دار مكتبة الحياة في بيروت، إلى أنّ المؤلف "تعمد إزاء نكران الناس لقيمته العلمية وعدم احتفالهم به أن يحرق في آخر أيامه كتبه، وقال حينها: إني جمعت أكثرها للناس ولطلب المثالة منهم، ولعقد الرياسة بينهم، ولمدّ الجاه عندهم، فحرمت ذلك كله".
عجب ياقوت الحموي من أنّ مؤرخي الرجال لم يترجموا لأبي حيان التوحيدي، مع أنه فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة
ويقول أمين والزين "لم يبق من كتبه التي ألفها وتبلغ نحو العشرين إلا القليل، ولم يطبع منها إلا المقابسات والصداقة والصديق ورسالة في العلوم. ولعل أقوم كتبه وأنفعها وأمتعها كتابه (الإمتاع والمؤانسة)"، ويقع الكتاب في ثلاثة أجزاء.
ولتأليف أبي حيّان لهذا الكتاب قصة ممتعة ذلك أنّ أبا الوفاء المهندس كان صديقاً لأبي حيّان وللوزير أبي عبدالله العارض، فقرّب أبو الوفاء أبا حيّان من الوزير ووصله به، ومدحه عنده، حتى جعل الوزير أبا حيّان من سمَّاره؛ فسامره سبعاً وثلاثين ليلة كان يحادثه فيها، ويطرح الوزير عليه أسئلة في مسائل مختلفة، فيجيب عنها أبو حيان.. ثم طلب أبو الوفاء من أبي حيان أن يقصّ عليه كل ما دار بينه وبين الوزير من حديث، وذكره بنعمته عليه في وصله بالوزير، مع أنّ أبا حيان ليس أهلاً لمصاحبة الوزراء لقبح هيئته وسوء عادته وقلة مرانته وحقارة لبسته وهدده إن هو لم يفعل أن يغض عنه، ويستوحش منه، ويوقع به عقوبته وينزل الأذى به.. فأجاب أبو حيان طلب أبي الوفاء فكان كتاب "الإمتاع والمؤانسة" الذي دوَّن فيها مسامرات الليالي السبع والثلاثين وما دار فيها من حوارات فكرية وفلسفية ولغوية وجميع أصناف العلوم والمعرفة والحكمة.
أما الوزير أبو عبدالله العارض الذي سامره أبو حيان،فهو أبو عبدالله الحسين بن أحمد بن سعدات وزير صمصام الدولة البويهي. أما لقبه العارض، فجاء من كونه وهذا معنى العارض من يعرف العسكر ويحفظ أرزاقهم، ويوصلها إليهم ويعرضهم على الملك إذا احتيج إلى ذلك.
أما أبو الوفاء فقد ترجم له ابن النديم في الفهرست وابن خلكان في وفيات الأعيان؛ وقال فيه هذا الأخير: "إنه أحد الأئمة المشاهير في علم الهندسة، وله فيه استخراجات غريبة لم يسبق بها".
ولأبي حيان في الكتاب أسلوب أدبي راقٍ يحب الازدواج ويطيل في البيان، ويحتذي حذو الجاحظ في الإطناب والإطالة في تصوير الفكرة، وتوليد المعاني منها حتى لا يدع لقائل بعده قولاً.
وقد هام بأسلوبه الدكتور إحسان عباس فقال: من غريب المصادفات أنني لم أكد أنتهي ذات يوم، من قراءة كتاب الحيوان للجاحظ، حتى وقع في يدي كتاب الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان، فإذا بي أمام جاحظ آخر يبهرني بروعة أسلوبه، وطرافة اتجاهه وتنوع موضوعاته، فتركت الجاحظ جانباً وتعلقت بأبي حيان.
وفيما يأتي ما سرده التوحيدي في ليلته الأولى:
وصلت أيها الشيخ - أطال الله حياتك - أول ليلة إلى مجلس الوزير - أعزّ الله نصره، وشدّ بالعصمة والتوفيق أزره - فأمرني بالجلوس، وبسط لي وجهه الذي ما اعتراه، منذ خلق العبوس؛ ولطف كلامه الذي ما تبدل منذ كان، لا في الهزل ولا في الجد، ولا في الغضب ولا في الرضا.
ثم قال بلسانه الذليق، ولفظه الأنيق: قد سألت عنك مراتٍ شيخنا أبا الوفاء، فذكر أنك مراعٍ لأمر البيمارستان من جهته، وأنا أربأ بك عن ذلك، ولعلي أعرضك لشيء أنبه من هذا وأجدى، ولذلك، فقد تاقت نفسي إلى حضورك للمحادثة والتأنيس، ولأتعرف منك أشياء كثيرةً مختلفة تردد في نفسي على مر الزمان، لا أحصيها لك في هذا الوقت، لكني أنثرها في المجلس بعد المجلس على قدر ما يسنح ويعرض، فأجبني عن ذلك كله باسترسال وسكون بال؛ بملء فيك، وجم خاطرك، وحاضر علمك؛ ودع عنك تفنن البغداديين مع عفو لفظك، وزائد رأيك، وربح ذهنك؛ ولا تجبن جبن الضعفاء، ولا تتأطر تأطر الأغبياء؛ واجزم إذا قلت، وبالغ إذا وصفت؛ واصدق إذا أسندت، وافصل إذا حكمت، إلا إذا عرض لك ما يوجب توقفاً أو تهادياً؛ وما أحسن ما قال الأول:
لا تقدح الظنة في حكمـه شيمته عـدلٌ وإنـصـاف
يمضي إذا لم تلقه شـبـهةٌ وفي اعتراض الشك وقاف
وقد قال الأول:
أبالي البلاء وإني امرؤٌ إذا ما تبينت لم أرتب
وكن على بصيرة أني سأستدل مما أسمعه منك في جوابك عما أسألك عنه على صدقك وخلافه، وعلى تحريفك وقرافه.
فقلت قبل: كل شيء أريد أن أجاب إليه يكون ناصري على ما يراد مني، فإني إن منعته نكلت، وإن نكلت قلّ إفصاحي عما أطالب به وخفت الكساد، وقد طمعت بالنفاق وانقلبت بالخيبة، وقد عقدت خنصري على المسألة. فقال - حرس الله روحه -: قل - عافاك الله - ما بدا لك، فأنت مجاب إليه ما دمت ضامناً لبلوغ إرادتنا منك، وإصابة غرضنا بك.
قلت: يؤذن لي في كاف المخاطبة، وتاء المواجهة، حتى أتخلص من مزاحمة الكناية ومضايقة التعريض، وأركب جدد القول من غير تقية ولا تحاش ولا محاوبة ولا انحياش.
لأبي حيان أسلوب أدبي راقٍ يحب الازدواج ويطيل في البيان، ويحتذي حذو الجاحظ في الإطناب والإطالة في تصوير الفكرة وتوليد المعاني
قال: لك ذلك، وأنت المأذون فيه، وكذلك غيرك، وما في كاف المخاطبة وتاء المواجهة؟ إن الله تعالى - على علو شأنه، وبسطه ملكه، وقدرته على جميع خلقه - يواجه بالتاء والكاف، ولو كان في الكناية بالهاء رفعةٌ وجلالةٌ وقدر ورتبة وتقديس وتمجيد لكان الله أحق بذلك ومقدماً فيه، وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله - عليهم السلام - وأصحابه - رضي الله عنهم - والتابعون لهم بإحسان - رحمة الله عليهم - وهكذا الخلفاء، فقد كان يقال للخليفة: يا أمير المؤمنين أعزك الله، ويا عمر أصلحك الله؛ وما عاب هذا أحد، وما أنف منه حسيب ولا نسيب، ولا أباه كبيرٌ ولا شريف؛ وإني لأعجب من قومٍ يرغبون عن هذا وشبهه، ويحسبون أنّ في ذلك ضعةً أو نقيصةً أو حطاً أو زرايةً، وأظن أنّ ذلك لعجزهم وفسولتهم، وانخزالهم وقلتهم وضؤولتهم، وما يجدونه من الغضاضة في أنفسهم، وأنّ هذا التكلف والتجبر يمحوان عنهم ذلك النقص، وذلك النقص ينتفي بهذا الضلف؛ هيهات، لا تكون الرياسة حتى تصفو من شوائب الخيلاء ومن مقابح الزهو والكبرياء.
فقلت: أيها الوزير، قد خالطت العلماء، وخدمت الكبراء وتصفحت أحوال الناس في أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم، فما سمعت هذا المعنى من أحد على هذه السياقة الحسنة والحجة الشافية والبلاغ المبين؛ وقد قال بعض السلف الصالح: "ما تعاظم أحد على من دونه إلا بقدر ما تصاغر لمن فوقه". والتصاغر دواء النفس، وسجية أهل البصيرة في الدنيا والدين؛ ولذلك قال ابن السماك للرشيد - وقد عجب من رقته وحسن إصاخته لموعظته وبليغ قبوله لقوله وسرعة دمعته على وجنته -: "يا أمير المؤمنين، لتواضعك في شرفك أشرف من شرفك، وإني أظن أن دمعتك هذه قد أطفأت أوديةً من النار وجعلتها برداً وسلاماً".
قال: هذا باب مفترقٌ فيه، ورجعنا إلى الحديث فإنه شهي، سيما إذا كان من خطرات العقل قد خدم بالصواب في نغمةٍ ناغمة، وحروف متقاومة؛ ولفظٍ عذب، ومأخذٍ سهل؛ ومعرفة بالوصل والقطع، ووفاء بالنثر والسجع؛ وتباعدٍ من التكلف الجافي، وتقاربٍ في التلطف الخافي، قاتل الله ذا الرمة، حيث يقول:
لها بشرٌ مثل الحرير ومنـطـقٌ رخيم الحواشي لا هراءٌ ولا نزر
وكنت أنشد أيام الصبا هذا بالذال، وكان ذلك من سوء تلقين المعلم؛ وبالعراق رد عليّ وقيل: هو بالزاي؛ وقد أجاد القطامي أيضاً وتغزل في قوله:
فهن ينبذن من قول يصـبـن بـه مواقع الماء من ذي الغلة الصادي
قلت: ولهذا قال خالد بن صفوان حين قيل له: أتمل الحديث؟ قال: إنما يمل العتيق، والحديث معشوق الحس بمعونة العقل، ولهذا يولع به الصبيان والنساء، فقال: وأي معونة لهؤلاء من العقل ولا عقل لهم؟ قلت: ههنا عقلٌ بالقوة وعقلٌ بالفعل، ولهم أحدهما وهو العقل بالقوة، وههنا عقلٌ متوسط بين القوة والفعل مزمع، فإذا برز فهو بالفعل، ثم إذا استمر العقل بلغ الأفق؛ ولفرط الحاجة إلى الحديث ما وضع فيه الباطل، وخلط بالمحال ووصل بما يعجب ويضحك ولا يؤول إلى تحصيل وتحقيق، مثل هزار أفسان وكل ما دخل في جنسه من ضروب الخرافات؛ والحسن شديد اللهج بالحادث والمحدث والحديث، لأنه قريب العهد بالكون، وله نصيب من الطرافة.
ولهذا قال بعض السلف: "حادثوا هذه النفوس فإنها سريعة الدثور"، كأنه أراد اصقلوها واجلو الصدأ عنها، وأعيدوها قابلةً لودائع الخير، فإنها إذا دثرت - أي صدئت، أي تغطت؛ ومنه الدثار فوق الشعار - لم ينتفع بها؛ والتعجب كله منوطٌ بالحادث؛ وأما التعظيم والإجلال فهما لكل ما قدم: إما بالزمان، وإما بالدهر؛ ومثال ما يقدم بالزمان الذهب والياقوت وما شابههما من الجواهر التي بعد العهد بمبادئها، وسيمتد العهد جداً إلى نهاياتها؛ وأما ما قدم بالدهر، فكالعقل والنفس والطبيعة؛ فأما الفلك وأجرامه المزدهرة في المعانقة العجيبة، ومناطقه الخفية، فقد أخذت من الدهر صورةً إلهية، وأحدثت فيما سلف منها صورةً زمانية.
فقال: بقي أن يتصل به نعت العتيق والخلق، فكان من الجواب أنّ العتيق يقال على وجهين: فأحدهما يشار به إلى الكرم والحسن والعظمة، وهذا موجودٌ في قول العرب: البيت العتيق؛ والآخر يشار به إلى قدم من الزمان مجهول. فأما قولهم: عبد عتيق، فهو داخل في المعنى الأول، لأنه أكرم بالعتق، وارتفع عن العبودية، فهو كريم. وكذلك وجه عتيق لأنه أعتقته الطبيعة من الدمامة والقبح. وكذلك فرس عتيق.
وأما قولهم: هذا شيء خلق، فهو مضمن معنيين: أحدهما يشار به إلى أنّ مادته بالية؛ والآخر أنّ نهاية زمانه قريبة. وكان ابن عباد قال لكاتبه مرة - أعني ابن حسولة - في شيء جرى... نعم، العالم عتيق ولكن ليس بقديم أي لو كان قديماً لكان لا أول له، ولما كان عتيقاً كان له أعول، ومن أجل هذا الاعتقاد وصفوا الله تعالى بأنه قديم، واستحسنوا هذا الإطلاق. وقد سألت العلماء البصراء عن هذا الإطلاق، فقالوا: ما وجدنا هذا في كتاب الله - عز وجل - ولا كلام نبيه - صلى الله عليه وسلم - ولا في حديث الصحابة والتابعين. وسألت أبا سعيد السيرافي الإمام: هل تعرف العرب أن معنى القديم ما لا أول له؟ فقال: هذا ما صح عندنا عنهم ولا سبق إلى وهمنا هذا منهم، إلا أنهم يقولون: هذا شيء قديم وبنيان قديم ويسرحون وهمهم في زمانٍ مجهول المبدأ.
فقل: قد مر في كلامك شيء يجب البحث عنه، ما الفرق بين الحادث والمحدث والحديث؛ فكان من الجواب أنّ الحادث ما يلحظ نفسه والمحدث ما يلحظ مع تعلقٍ بالذي كان عنه محدثاً. والحديث كالمتوسط بينهما مع تعلقٍ بالزمان ومن كان منه.
وههنا شيء آخر، وهو الحدثان والحدثان؛ فأما الأول فكأنه لما هو مضارعٌ للحادث، وأما الحدثان فكأنه اسم للزمان فقط، لأنه يقال: كان كذا وكذا في حدثان ما ولي الأمير، أي في أول زمانه، وعلى هذا يدور أمر الحدث والأحداث والحادثات والحوادث. وفلان حدث ملوكٍ كله من ديوان واحد وواد واحد وسبك واحد. قال: ما الفرق بين حدث وحدث؟ قلت: لا فرق بينهما إلا من جهة أن حدث تابع لقدم، لأنه يقال: أخذه ما قدم وما حدث؛ فإذا قيل لإنسان: حدث يا هذا. فكأنه قيل له: صل شيئاً بالزمان يكون به في الحال، لا تقدم له من قبل.
ثم رجعت فقلت. ولفوائد الحديث ما صنف أبو زيد رسالة لطيفة الحجم في المنظر، شريفة الفوائد في المخبر، تجمع أصناف ما يقتبس من العلم والحكمة والتجربة في الأخبار والأحاديث، وقد أحصاها واستقصاها وأفاد بها، وهي حاضرة. فقال احملها واكتبها، ولا تمل إلى البخل بها على عادة أصحابنا الغثاث. قلت: السمع والطاعة.
يروي التوحيدي أنّ عبد الملك بن مروان قال لبعض جلسائه: قد قضيت الوطر من كل شيء إلا من محادثة الإخوان في الليالي الزهر
ثم رويت أن عبد الملك بن مروان قال لبعض جلسائه: قد قضيت الوطر من كل شيء إلا من محادثة الإخوان في الليالي الزهر، على التلال العفر.
وأحسن من هذا ما قال عمر بن عبد العزيز: والله إني لأشتري المحادثة من عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود بألف دينار من بيت مال المسلمين. فقيل: يا أمير المؤمنين، أتقول هذا مع تحرّيك وشدة تحفظك وتنزهك؟ فقال: أين يذهب بكم؟ والله إني لأعود برأيه ونصحه وهدايته على بيت مال المسلمين بألوف وألوف دنانير، إنّ في المحادثة تلقيحاً للعقول، وترويحاً للقلب، وتسريحاً للهم، وتنقيحاً للأدب.
قال: صدق هذا الإمام في هذا الوصف، إن فيه هذا كله.
قلت: وسمعت أبا سعيد السيرافي يقول: سمعت ابن السراج يقول: دخلنا على ابن الرومي في مرضه الذي قضى فيه، فأنشدنا قوله:
ولقد سئمت مآربـي فكأن أطيبها خبـيث
إلا الحـديث فـإنـه مثل اسمه أبداً حديث
وقال سليمان بن عبد الملك: قد ركبنا الفاره، وتبطنا الحسناء، ولبسنا اللين، وأكلنا الطيب حتى أجمناه، وما أنا اليوم إلى شيء أحوج مني إلى جليس يضع عني مؤونة التحفظ ويحدثني بما لا يمجه السمع، ويطرب إليه القلب. وهذا أيضاً حقٌ وصواب، لأنّ النفس تمل، كما أنّ البدن يكل؛ وكما أنّ البدن إذا كل طلب الراحة، كذلك النفس إذا ملت طلبت الروح وكما لا بد للبدن أن يستمد ويستفيد بالجمام الذاهب بالحركة الجالبة للنصب والضجر، كذلك لا بد للنفس من أن تطلب الروح عند تكاثف الملل الداعي إلى الحرج، فإنّ البدن كثيف النفس، ولهذا يرى بالعين، كما أنّ النفس لطيفة البدن، ولهذا لا توجد إلا بالعقل؛ والنفس صفاء البدن، والبدن كدر النفس. فقال: أحسنت في هذه الروايات على هذه التوشيحات وأعجبني ترحمك على شيخك أبي سعيد، فما كل أحد يسمح بهذا في مثل هذا المقام، وما كل أحد يأبه لهذا الفعل؛ هات ملحه الوداع حتى نفترق عنها، ثم نأخذ ليلة أخرى في شجون الحديث.
قلت: حدثنا ابن سيف الكاتب الراوية، قال: رأيت جحظة قد دعا بنّاءً ليبني له حائطاً فحضر، فلما أمسى اقتضى البناء الأجرة، فتماكسا وذلك أن الرجل طلب عشرين درهماً؛ فقال جحظة: إنما عملت يا هذا نصف يوم وتطلب عشرين درهماً؟ قال: أنت لا تدري، إني قد بنيت لك حائطاً يبقى مائة سنة؛ فبينما هما كذلك وجب الحائط وسقط؛ فقال جحظة: هذا عملك الحسن؟ قال: فأردت أن يبقى ألف سنة؟ قال: لا، ولكن كان يبقى إلى أن تستوفي أجرتك. فضحك -