** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
الرئيسيةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوع
 

 لن يأتي الصباح هذه الليلة

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
هشام مزيان
المشرف العام
المشرف العام
هشام مزيان


التوقيع : لن يأتي الصباح هذه الليلة Democracy

عدد الرسائل : 1762

الموقع : في قلب كل الاحبة
تعاليق : للعقل منهج واحد هو التعايش
تاريخ التسجيل : 09/02/2009
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 25

لن يأتي الصباح هذه الليلة Empty
05082014
مُساهمةلن يأتي الصباح هذه الليلة

لن يأتي الصباح هذه الليلة
 
لن يأتي الصباح هذه الليلة 011
 عبد الستار البيضاني
 
 
 
 
هذا كلام فيه الكثير من الرعب..حينها تصورت ان كل الذين أحبهم ستفصخهم الحرب بهذه الطريقة التي تخيلها ،وأعترف لك انه منذ تلك اللحظة اصبح عوده واحد من هواجسي لأمتلاكه هذه المخيلة العجيبة التي عدها بعض الجنود سذاجة...
 
أستجمعت صبر كل العصورالمرة ، وأستعارت خرس كل الأفواه ،لكي تروض شرايينها الراكضة خارج جسدها بحثاً عن لحظة ساكنة تفل بها خيوط الحيرة التي تلفها مثل شبكة صياد غبي ،عسى ان تعثر على انوثتها وأمومتها وانسانيتها التي راحت تلوح لها عبر ذاكرة نابضة تتسلل ببطء من بين توقفات حديثه ؛ النهار الشتوي الساطع كان يشبه فرصة غير منتظرة في اجازته القصيرة الوحيدة بعد التحاقه بالجبهة..كان يضم الطفل الرضيع الى صدره ويتنقل به بين بيوت أقربائه..كان يضحك لذلك الكرم المفروض على العوائل!..فقد انقطع التيار الكهربائي منذ أكثر من أسبوع ،وكان على هذه العوائل ان تفرغ خزين المجمدات والثلاجات من اللحوم والأسماك وخضروات الصيف المخزنة لأيام الشتاء قبل ان تتفسخ..وفعلا كان بعضها قد تفسخ وكُوم مع القمامة مثل فضلات الولائم الكبيرة..عندها نظر الى هذه الأكوام وقال بتشاؤم كبير:"يبدو انها الشبعة الأخيرة التي قدمتها لنا الحرب قبل ان تمد أسياخ الجوع في بطوننا !.." .
 
وفي مساء اليوم نفسه دس رأسه في صدرها ،وراحت أصابعه تعزف على جسدها ليطلق فمها تأوهات وكلمات تشظى باللذة ،فعلق قائلا :"أنا ايضا أريد ان أشبع (شبعتي) الأخيرة!" . أحست بحرارة دموعه تسيح على صدرها ،مسحت شعر رأسه وسألته: "هل خفت من الموت؟." أجابها بتلقائية: "كلا..أخاف عليكما..".
 
عليها اذن ان تبحث عمن يفض هذا الألتحام الذي يولده الذكر بالأنثى في مثل هذا الظرف العاصف الذي لايدري فيه الأنسان الى اين يوجه مشاعره!..فكل شيء يبدو في غير آوانه الآن حتى الحاجات الأنسانية الأساسية تبدو أحيانا ضرباً من البطر!..
 
لم تبد عليه أي حركة من حركات الرجولة ،ولم يبدِ أي أستعداد محتمل للقيام بواجبات الزوج..عليها أذن ان تستعين بأهله او بأهلها..لكن من اين لها بهم الآن؟..فليل الحرب هيمن على كل شيء، الشوارع أغلقتها كتل الظلام والوحشة، أسلاك الهاتف لفها صقيع كأنه نزل بها منذ قرون..كان عليهم ان يتفقدونها..يتفقدون وحدتها ووحشتها - ربما عذرتهم.. انهم منشغلون بالبحث عنه بالكراجات المكتظة بالجرحى والناجين من محارق الموت والهاربين بتعب الحرب ،وفي نقاط السيطرات ومناطق القطعات المفلشة ..تعرف ان قلوبهم مثل مراجل توشك على الإنفجار ، قلقون يتجهون الى حيث رائحة الأمل مهما كانت ضعيفة..يتحركون بدم يغلي وهي جالسة هنا بأعصاب محترقة، هو وحده الآن من يستطيع ان يعيد لحركة أعصابها أتساقها..آه لو نهض الآن ليقبل طفله أمامها ، يضمه اليه ،يعيد به وصل آمالها المتقطعة؟. الطفل لم يبكِ منذ ساعتين!..ماذا دهاه؟..لوبكى  الآن لربما حسم الكثير من الأوهام التي خلفتها الحرب في ذهنيهما..ستعرف حقيقة مشاعر أبوته.
 
قرقعت العكازة تحته،أعقبها تآوه بطيء وعميق ،هو تآوه الجريح المكلوم، شعرت بالتقصير لأنها لم تجلب له الفراش لحد الآن..كان قد ألقى بقدميه على حافة حصيرة النايلون وترك رأسه مرتخيا على حافة الكرسي...كومت فراش النوم والأغطية قربه معتذرة له عن التأخير.مدت يدها الى يده لتساعده على النهوض ،الا أنه لم يمد يده ،فقد أمسك بمسند الكرسي وأتكأ باليد الأخرى على عكازته ونهض ليتيح لها فرش الفراش ،وقبل ان يتمدد عليه سألته :
 
- لماذا لاتستبدل ملابسك لتنام مرتاحا ؟.
 
- فعلا اريد من ليالي السلم ان تثأر لي من سهر ليالي الحرب ،لكني أخشى ان أنام ولا أستيقظ بعد ذلك..
 
اراد ان يخلع قمصلته ،تلمس جيوب الصدر ،خشخشت الأوراق فيها،فزَّعلى صوت الخشخشة وكأنه انتبه الى شيء نسيه منذ زمن طويل..قال مبتسماً:
 
- أنها رسائل كتبتها لك ولحيدر خشية ان أموت ولاتعرفان شيئا عني..ربما تصلكما مع جثتي..
 
أنفرجت أسراريها الآن أقترب من أسئلتها المحيرة وتحركت مشاعرها،ألحت عليه ان يقرأها الآن، لم يقاوم ألحاحها ،أخرج حزمة أوراق مدعوكة ،فضها وراح يقرأ أحداها على ضوء الزجاجة:( ايها الطفل الخاطف في حياتي مثل شهاب..لقد أنتظرتك طويلا، وعندما أورقت في أيامي وقبل ان يكتمل تفتحك ،أختطفتني الحرب من ظلال طفولتك وحرمتني من التنعم بالأبوة الجميلة التي عبدت الطريق امام خطواتي المشتهية للحياة بكل ما فيها من عنفوان، حتى أني شعرت بامتلاك الدنيا معك..وهذا اليوم ياطائر الوئام في أيامي التعبى شعرت أو تيقنت من أنني سأُحرم والى الأبد من بريق عينيك وضحكاتك العجينية..فمنذ الساعة الثالثة من فجر اليوم  حيث كنت حرساً بدأت غارات الطائرات المسعورة علينا - الآن جاءت الطائرات وبدأت تقصف - قنابلها مثل أصابع طفل عابثة ، تطال كل شيء أمامها ،فقد التهمت النيران المنشآت النفطية شرقنا وغربنا ،كثرت أعمدة دخانها وبدأت تسورنها من كل الجهات..طائرات الجكوار الفرنسية تقوم الآن بعملية تمشيط دقيقة لقطعاتنا..غارات متتالية أشاهدها بالعين المجردة تحلق فوقنا بحرية وكأنها في نزهة ولم تجد حتى من يهوم تجهاها - ما أشد وطأة مذلة خضوع القتيل للقاتل-..تنشر الموت بانتظام وبخطوط مستقيمة،تبدأ من نقاط الجبهة الأمامية وتنتهي خلفنا..الحافة الأمامية من لوائنا أُصيبت ونقلوا الجرحى الينا ،ومعهم جرحى وقتلى من عمال الأطفاء الذين جاءوا من الزبير لإطفاء أحدى المنشآت النفطية الكائنة الى يمين وحدتنا..هذا التمشيط المنتظم يجعلني على يقين من أن دوري آت لامحالة..انها الحرب القذرة ياولدي التي لاتستحق منا قطرة دم واحدة أوتيتم طفل واحد..لقد نظرت الى أحد القتلى وتذكرتك ،تذكرت أمك وماالذي سيحل بكم من بعدي لو كنت أنا هذا القتيل؟..شعوري بفراقنا الأبدي يشتد يوما بعد يوم وفي صدري كلام كثير اريد ان ابوح لك به..لكني لاأقطع الأمل بان أبقى لأعطيك الدفء وأحرضك على قراءة مذكرات هذه الأيام العصيبة التي أتمنى ان لاتطال حياتك وتخربها مثلما خربت حياتي...          الخميس 24 \1 \ 1991 ).
 
طلبت ان تأخذ بقية الأوراق منه لتقرأها بنفسها فاعتذر منها برقة:
 
- انني أشك بقدرتك على قراءة هذه الأوراق..فعندما سقطت في بركة المياه السوداء كانت في جيب الصدرهذا (مشبرا الى صدره) ، وقد شربت من دمي ومن مياه المطر الأعمى..لقد شربت ماءً أسود مغلف بدخان الفجيعة، ومطراً أصفر متوهجا بنار الحتوف ،ومن ثم جفت مع ملابسي ليختلط الحبر بالدم والماء الأسود وتضيع الكثير من كلماتها وجملها بين طيات الورق المتهرئة ،لكنني احفظها عن ظهر قلب ليس جميعها وانما أغلبها ،لذلك لاتهمني الكلمات الضائعة منها...
 
مرر سبابته على الأجزاء المتهرئة من الورقة،وتذكر انه كان متهرئا مثلها يوم وصل وحدته أول مرة ، حيث نقلته سيارة أسعاف عسكرية بدون زجاجة امامية كانت مرسلة لإيصال البريد وجلبه من مقر الفرقة ،لكنه مع ذلك كان بالنسبة للأخرين ممتليء بتفاصيل كثيرة ؛ وديع ،منهوب الإرادة ، منحني مثل سنبلة ناضجة منسية في حقل محصود ، شعره المنفوش ووجهه الذي أزدادت غضونه بنحو مفاجيء ،هيامه بالوحدة وكأنه يحاول الأمساك بحياة هاربة..يضحك بمرارة، يجتهد في إيجاد تفسير للأيام الحافلة بالموت ،يزفر:"حضارتنا حضارة موت"..تبقى جملته معلقة في منطقة هشة لايمكن رسم صورتها او معناها حتى تذوب بالسؤال الصاعق "هل سيقع الهجوم البري؟"...هذه الأمور كلها جعلته في قلب جلسات الجميع ،وكان حديثه دائما يستعجل الهجوم البري مما جعل الجميع يعلقون خلاصهم على وقوع هذا الهجوم..لكن أي خلاص؟..ليكن بالموت أو بالأسر اوبأي شيء ينهي الحرب..فالأموات يحسمون أمرهم بسرعة يحسدون عليها مع وجع الحرب..الموت افضل من انتظار الموت!..
 
البعض من الجنود راح يطلق تصوراته عنه بلاحدود ،منهم من تصور انه شخصية مهمة اوعايش شخصيات مهمة ،ومنهم من سخر وقال :لوكان مهما أوعاش مع شخصيات مهمة لما جاء الى جحور الصحراء...
 
أكمل تمدده في الفراش سحب البطانية الى منتصف صدره وأستمر يتحدث بتواصل غريب لايتناسب مع حالة جريح منقوع بالدم وصل توا!..فقد صار حديثه يشبه الهذيان. أما هي فقد تحولت الى آذان صاغية ومطحنة تطحن آلامها وفضولها بصمت ،وهي تستعيد صورة الرجل الزاهد المقتصد بالكلام ،العاشق للعزلة ،المتأمل ،الهارب من طرقات الحياة المكتظة..يفضل الصمت على الضحك المجلجل،والكتاب على ضجيج الأغنيات، ورأيه على قناعات الآخرين ،وراحته على غنائم المشقة...لكنها مع ذلك لم تطلق السؤال المتحشرج في صدرها: مالذي غيره؟.
 
في الليلة التي سبقت التحاقه بالجبهة قال:" نحن مثل (اللشش) المعلقة على خطاف القصاب ،كل يوم تقطع الحرب ماتشاء من لحمنا او مايملأ فمها ..الفرق بيننا ان (اللشش) مذبوحة على قبلة ونحن أحياء مع وقف التنفيذ..ولحم (اللشش) يباع بسعر ونحن مجانا..هكذا نحن أحياء على خطاف القصاب".. فكرت ان تذكره بهذا القول الذي جعلها مطمئنه عليه في حينها برغم سوداويته، غير ان صوته راح يتهدج دافئا جذابا يشبه البوح...
 
..بعد الأسابيع الأولى للحرب تغيرت أشكال معظمنا..حجومنا تذوي وتتضاءل منكمشة مثل حبة الباقلاء عندما تجف ،ثمة سر في الأمر غير الإحتراق الداخلي والإنسحاق تحت سرفة الحرب والجوع!..كنا نحن المجموعة التي تزيد على العشرة نلمس ذلك في وجوه بعضنا ،وربما أشرنا الى السبب بطرف خفي عندما نكرر القول " أذا ما جُرحت سأموت في الحال لأن جسمي يعيش بالحد الأدنى من الدم ،وليس فيه قطرة دم واحدة فائضة عن حاجته..." وكل واحد منا كان يقولها بطريقته الخاصة التي تجمع السخرية والألم..
 
جلودنا حققت تلامسا مباشرا مع عظامنا خاصة عند الوجنات والضلوع وسلاميات الأصابع، والدوار بدأ يستفحل علينا ويفرنا بين لحظة وأخرى مثل القش في دوامات الريح...في الساعة العاشرة صباحا تصل وجبة الفطور بسيارة (الإيفا) ،وأحيانا لاتصل ،خاصة في الأيام التي تُقصف فيها وحدات التموين أو افران الصمون..وأي فطور هذا الذي ينتظره جوعنا الحافر في بطوننا مثل اللولب؟..عجين نصف مشوي ،مهروس بقشورالحنطة (السبوس) ،عجين غير ناضج على هيئة كتل بحجم قبضة الكف مغلف بقشرة ناضجة أومحترقة من العجين ،فيبدو داخلها مثل الطين المخلوط بالتبن أو شفرات متشظية نأكلها بتلذذ برغم الألام التي تسببها لحلوقنا وبطوننا ..نأكلها وحدها أو مع الطماطة التي يهبها لنا فلاح المزرعةالمحاذية لنا وهي الشاخص الوحيد الذي يذكرنا بالحياة المدنية. قشور الحنطة جعلت مساويء الغذاء أكثر من فوائده ، كنت أول أعلن ذلك من دون خجل..أعلنتها بمرارة الرجل الصابر المتماسك ، فقد تفاجأوا ذات يوم عندما عدت من قضاء حاجتي بقولي "بسبب هذا الصمون أجد نفسي أمام أمر الخيارين أو أختيار أحد الأمرَّين.. تحمل مضايقة الأمتناع عن قضاء الحاجة وألمها ،أو أوجاع قضاء الحاجة المصحوبة بفقدان كميات من الدم نحن بحاجة لتوفيرها الى جرح منتظر..فقد مزقت هذه القشور أمعائي الغليظة وخاتمي!..والأصعب هو بعد تحمل تخريش الجرح والتشققات نكابد ألم التضحية بدمائنا بسبب الصمون!..برازنا صار يشبه روث الحمير يجلف أحشاءنا ويحرق جروحنا..فأي عذاب هذا ياربي..؟  عندما أعلنت هذا الأمر تجرأ الآخرون وأخرجوا ملابسهم الداخلية التي يبست عليها قطرات الدم..أحدهم علق قائلا :" أنا لايهمني ألم الجرح أو نزف خاتمي ،وأنما هذا الدم يحرمني من الصلاة وكأني أمرأة حائض!".
 
وعلق آخر: " أنا الذي يؤلمني ،هو الأغتسال بماء البئر المالح الذي يلفح جروح خاتمي ويشعل النيران بكل جسدي ..".
 
وسخر ثالث قائلا : "يبدو أن القصف عطل حتى الحوامض الأمينية في المعدة ،فلماذا لاتذوب هذه القشور الخائنة ؟!".
 
وقال رابع ضاحكا : "هذه هي الحرب المضادة التي تخوضها اجسامنا أحتجاجا على حرب الحلفاء لتقليص أعمارنا كي تحمينا من رعب الطائرات ،فالموت نزفا أفضل من الموت فرما بالقنابل العنقودية!..".
 
هذه السخرية من القدر اطالت من جلساتنا الحميمية في خيمة غاطسة في الرمل تضيئها زجاجة صغيرة تشبه هذه الموجودة في بيتك..نطفئها كلما مرت فوقنا الطائرات ، كان ذلك في الأيام الأولى ،أما بعد ذلك فقد أصبحنا على يقين أن الطائرات باتت تعرف كل شيء عنا ، ولم تعد بحاجة الى ضوء زجاجة مسلول لكي تنفذ واجباتها البشعة - طبعا هذه الفكرة بدأها عوده  عندما كان يخرج من الموضع يدخن سيجارته وهوينظر الى الطائرات كيف تقصف وأغلبهم أعتبرها حماقة  تعبر عن سذاجته  لكنهم في النهاية تبعوه وتصرفوا مثله - ،لهذه الطائرات إيجابيات ايضا ،فقد جعلتنا نتجرأ على الموت وننظر في وجهه بصلافة..الطائرات أكدت لنا أيضا ان الحرب (كائن) عادل يعامل الأشياء سواسية ولايفرق بينها ،وهذا سر من أسرار بشاعتها! ،فالقذيفة التي صُممت لتدمير عمارة كبيرة أو لقطع دعامات الجسور أو لأذابة دبابة ،تستعمل أيضا ضد الأنسان  وتفعل كل هذا الأشياء بجسده مهما كان ضئيلا أو عليلا ...
 
في ليلة أطل فيها القمر علينا بعد غياب طويل ..أطل من بين طيات الدخان الطائرة مثل خفاش خرافي،حدثت أخطر غارة جوية علينا - كنت أنا من بين القلة الذين شاهدوها- غارة مفاجئة،لاأدري من أين هبطت الطائرة على أرتفاع  امتار من سطح الأرض وفوق رأسي تماما ..أهتز كل شيء فيَّ ؛صوت مازال يفرقع في أذني ،وفجأة أشتعلت الدنيا من حولي بلهب أصفرذهبي أضاء حتى الجحور،فقد تحولت الطائرة الى شعلة نار سطع نورها في جمجمتي ،كأنه ضياء شمس معكوس من مرآة تمتد على طول الأفق، صَحبهُ وشيش ناعم ومتصاعد ،تحول بعدها الى إنفجار هائل جعلني أتلو الشهادة وأحتضن الأرض بوجهي وصدري ..ترددت إهتزازات الأرض في ضلوعي ومن ثم تسرب لها دفء من سائل حار!..تلوت الشهادة مرة أخرى ورحت أبحث عن جروحي وموضع الاصابات فلم أجد شيئا !..عندها نهضت واقفا ،أصاب عيني العشو من عمود نار يشبه بركان يتدفق في كل الإتجاهات..   بكى الطفل بصوت لين معصور، أوقف حديثه  وآولى إنتباهه اليه . التقطت الطفل من مهده، قبلته قبلتين .حاول هو ان ينهض فبدا وكأنه ينط الى الأعلى،أحس ان ظهره متيبسا لايقوى على الحركة. القمت الطفل ثديها فانهمك بالرضاعة،أجهشت بالبكاء .توقف فوران مشاعره وراح يرمقها باستفهام مثل قطة خائفة. فتحت القماط الذي يلف جسد الطفل بشكل حلزوني ، فتمطى بيدين قصيرتين تشبهان أطراف الأرنب .شمته من رقبته وأصدرت صوت قبلة ملهوفة ،مد يده باتجاهها غير ان يده الجريحة خذلته فسقطت على صدره تعبى ، ضحك ضحكة فضحت إندحاره ،ناغى على الطفل ،ومن ثم قال مقهقها :
 
- كبر (الملعون)..صار رجل !...من يصدق أنني  سأراه ثانية ؟...(ملعون) أراسلك من طرف واحد.. وأحبك من طرف واحد !!..
 
 - أنه رجل البيت بغيابك.
 
- شعر رأسه طال ..كنت أغني من أجله..أغني في منطقة الحزن..هل تتصورين أنني لاأعرف كيف أفرح به الان !..الحرب جعلتنا أكياسا معبأة بالحزن والأسئلة والأمنيات ..أمنيات غريبة تشبه الأمنية الأخيرة للمحكومين بالإعدام ، تصوري أن أحد الجنود القرويين كان كلما أشتد القصف وحاصرنا الموت يبكي ويقول :"سأموت ولم أر المانيا)..أما لماذا المانيا فلا أدري؟!..
 
- لابد أنك جائع الآن ؟.
 
لم يحر جوابا .طرحت الطفل جنبه ونهضت الى الغرفة الأخرى.لمِّّ الطفل أطرافه على جسده مثل العنكبوت وكأنه يحاول تسلق الهواء. مد يده السليمة اليه ،تلمس قشرة رأسه الزاحفة الى جبهته ،تحرك جسد الطفل باتجاه اليد التي راحت تمسح على جبهته بحذر شديد ، أنبثق صوت أملس فرحان ،وراحت الأذرع اللينة تخفق مثل أجنحة طائر يتعلم الطيران لتوه ،رفع الطفل صدره وكأنه يدعوه ليحمله ،غير انه عاد وأستقر على فراشه مرسلا نظرات متوهجة بالفرح والعتب..مد رأسه فوق وجه الطفل الذي جفل من دمعة سقطت على جبهته ،لم يسعفه الوقت لمسح دموعه عندما باغتته صينية الطعام..
 
- لايوجد عندي شيء غيرالخبز وتمر الزهدي..كما تعرف اليوم عدت من بيت أهلي..عندي ايضا جزر ذابل أذا كنت ترغبه.
 
التهم بضعة تمرات وقطعة خبز باردة وراح يمضغها من غير أشتهاء :
 
- المستفيد من الحرب تمر الزهدي والشعير،فقد تغيرت مكانتهما في المائدة العراقية ،لقد تحول الزهدي من معالف الحيوانات الى آواني الخزف والستيل ،ولم يعد الباعة يخجلون من عرضه في واجهات محلاتهم...
 
أزدرد لقمته. لم تعلق على كلامه كما انتظر،واكتفت بهز رأسها وهي تتفحص خزان نفط المدفأة،ومع ذلك واصل حديثه:
 
- لي مع الزهدي قصة غريبة..فقد أكتشفنا فجأة مخبأً لتمرالزهدي كان له أثر كبير في تعزيز صمودنا!..حتى اننا لو خيرنا وقتها بين اكتشاف مخبأ تمر الزهدي وبين أكتشاف منجم ذهب لفضلنا من دون تردد مخبأ التمر..
 
توقف عن الأكل ودفع الصينية باتحاهها ليتفرغ للحديث كما لوانه كان ينتظر هذه الفرصة :
 
- طبعا انا بطل هذه القصة..فقد سبق لي وان أقمت علاقة طيبة مع فلاح مزرعة الطماطة ،بدأت العلاقة بتعاطفي معه لأنه لايملك بيتا يذهب اليه مع عائلته غير هذه المزرعة الصحراوية التي يعمل بها برغم  أنها أصبحت ضمن خط الجبهة الخلفي ،وقد اعجبت بثبات قناعاته عندما قال لي "لاشيء في العراق الآن يعصمك من خطر الحرب..كل العراق ساحة معركة.."،في باديء الأمر كنا نخاف من المزرعة لوجودها الغريب في المنطقة ،فهي من الشواخص القليلة في الصحراء ،خاصة أغطيتها البلاستيكية البيضاء التي تغطي مروز الطماطة فتبدو مثل انابيب بيضاء نصف مطمورة مما يجعلها دلالة نموذجية يمكن للطيارين ان يقيسوا عليها احداثياتهم..كنت أنا أول  شخص في الوحدة ذهب الى كوخ الفلاح لكي أقايضه الصمون مقابل الطماطة والشاي والتبغ مقابل تمر الزهدي...وذات يوم مررت على حضيرة الأغنام الصغيرة التي يمتلكها الفلاح فأكتشفت سرا كبيرا!.
 
اخبرت أثنين من أصدقائي بالسر واتفقنا على كتمانه ،لكن جوعنا جعلنا نفكر بالأمر كثيرا وبسرية تامة!..نعد الخطط للأستيلاء على (الكنز) الغذائي الذي أكتشفته عند الفلاح..أحد الأصدقاء أعتبر (العملية) خيانة للفلاح الذي يشاركنا المصير،وكذلك لوجود أتفاقات (أقتصادية) سرية بيننا وبينه ،بعد أن منعنا آمر الوحدة من التعامل معه خشية تسرب مواد تموين الوحدة اليه ونحن في ظروف معركة! ، لكن مع ذلك أعددنا الخطة ووزعنا الأدوار، وعندما جاء موعد تنفيذ (العملية) ، توقف المطر،والقصف هدأ قليلا ،ولم يبق غيرسطوع الحرائق يضيء الليل،تحركنا بمحاذاة السياج الخارجي للمزرعة،وعندما صرنا أمام (منشآت المزرعة) - كما سماها أحدنا متهكما- وهي عبارة عن كوخ لسكن الفلاح وعائلته،ومرافق صحية من الصفيح الذي خلفته الوحدات المتحركة وغرفة المضخة المبنية من البلوك قرب البئر،وحضيرة للأغنام محصورة مابين الكوخ وغرفة المضخة ،وحضيرة الأغنام هي هدفنا...كانت محكمة التسييج بالأسلاك الشائكة والأعمدة والصفيح والبطانيات العتيقة وستائر أخرى حال الظلام دون معرفة نوعها..كان كل شيء هادئا،باسثناء ثغاء الأغنام المتقطع والذي بدأ بعد أن شعرت بوجودنا...
 
في أثناء بحثنا عن منفذ الى حضيرة الأغنام عاودت السماء المطر ليدخل عامل تعويق لخطتنا لم نحسب حسابه..ربما سيخرج الفلاح لتفقد حال الأغنام؟..لم يطل قلقنا كثيرا، فقد نفذنا الى الحضيرة من منخفض تحت الأسلاك الشائكة،ووجدنا أنفسنا نزاحم الأغنام التي جثى بعضها على قوائمه ،والبعض الآخر نهض ثاغيا، قلت لرفيقيّ: 
 
-لنستثمر الوقت..فالمطر قد لاينتهي حتى الصباح!
 
رحنا ندب على أرجلنا وأيدينا مثل الأغنام تماما،نتلمس الأرض اللينة فنجدها مثل البراز!،وربما كانت فعلا برازا ،فقد أختلط كل شيء  ببعضه ،وأخذنا نلتقط كل شيء له حجم أو ملمس التمر ونضعه في أكياس نايلون علقناها في أعناقنا أو في أحزمتنا.. همس أحدنا بتحذيرنا من أن ليس كل ما نلتقطه تمرا، أكدت لهما مرة أخرى أنني عندما مررت في النهاركان التمر يغطي أرض الحضيرة،وهناك أكياس كثير خزنها صاحب الفلاح ،لكن باب المخزن مغلق ،ومن ثم فأن أخذ التمر من المخزن سرقة،فلنكتفِ بما خلفته لنا الأغنام فهو كثير.
 
تساءل أحد رفاقي معاتبا وكأنه يوجه عتبه للمجهول:
 
- وسرقة علف الأغنام أليس سرقة؟.
 
قرصات الجوع اللاسعة جعلتنا نعبيء أعناق بساطيلنا بكل ما تلتقطه أيدينا من أرض الحضيرة الموحلة وكانت فرحتنا تكبر مع كبر كمية التمر الذي نملأ به أكياسنا وبساطيلنا .
 
تسللنا خارجين (بالرتل) من تحت الأسلاك الشائكة المغطاة بالبطانيات العتيقة ونحن أكثر قلقا على غنائمنا!...أفرغنا أكياسنا وجيوبنا وبساطيلنا في حفرة بعيدة عن الخيم والخنادق أعددناها قبل نزول الظلام بقليل، وعلى أثر هذه الأهمية (الأقتصادية) للحفرة قررنا نحن الثلاثة الفائزون بعلف الأغنام تحويلها الى خندق مشترك لنا ،لأنها ستجعلنا لانفكر بالجوع لعدة أيام،وهذا تفكير أناني طبعا وقد أتفقنا على هذا الوصف لسلوكنا مسبقا وقد بررناه لأنفسنا ،لكنه لم يصمد طويلا أمام ألفتنا الجميلة مع الآخرين التي نسجناها على منوال الموت...
 
لا أدري إن كانوا ناموا أم لا؟..فنومي كان قلقا بانتظار طلوع الفجر لأرى كميات التمر التي ستعيننا على تحمل الحرب البرية..هذه الحرب التي طال الحديث عنها وتهويلها خاصة بعد تقدم البارجة الأمريكية (مايسوري) قرب السواحل الكويتية... كان مناخ الصباح على العكس تماما من مناخ الليل ؛صافيا مشمسا مثل الزجاج ،دافئا منعشا بالرغم سحب الدخان التي تلوح على أطراف السماء من جهاتها الأربع. كنت مع أحد رفيقي نحلق ذقنينا على مرآة واحدة باطار بلاستيكي ونحن ندندن بأغنيات سريعة أو نقهقهة ، أقترب منا ثالثنا قادما من موضع رأس عرفاء الوحدة،ويبدو ان منظرنا أغراه فراح هو أيضا يحلق ذقنه!..أقترحت عليهما أن نستمر بالتلذذ بهذا الأمل الجميل والمفاجيء..أمل تحسن المناخ مع وجود كميات كبيرة من التمر قيد التناول!، وافقاني على الأقتراح على أن نذهب الى حفرتنا بعد الفطور..وفطورنا كان عبارة عن بقايا من لب صمون الجيش غير الناضج الذي يشبه كتل الطين المعجون بالتبن  وطماطة هي من عطايا الفلاح ، (قليت) بدون زيت في قدر سمك سخامه أكبر من سمك الألمنيوم المصنوع منه لكثرة أستعمالنا الحطب سيء الأشتعال في الطبخ..كان فطورنا جماعيا ،ضم جميع سكان الخيمة والجنود الجدد الذين دعيت موالديهم للخدمة العسكرية بعد إندلاع الحرب. تسللنا من بين جماعتنا واحدا بعد واحد تاركين بيننا فاصلا زمنيا مناسبا لكي نموه عليهم هدفنا  وهو الوصول الى الحفرة..
 
كانت المفاجأة مذهلة لنا ،وإنكسار لأحلامنا وتصوراتنا الجميلة ،أكوام تمر الزهدي التي تخيلناها لاهثة مثل الذهب كان معظمها كتل من (بعر) الأغنام !، لكن هذا لم يمنعنا من التقاط التمرات واحدة واحدة ونجمعها في كيس نايلون ؛ وقبل ذلك سوغنا الأمر لأنفسنا بالأتفاق على ان (البعر) والبول والطين لايسمم  ولانتذكر نصا بتحريمه فلم الخشية أذن؟! ولابأس من تنظيفها وأكلها،وفعلا نظفنا التمر وفرشناه تحت أشعة الشمس ليجف قليلا قبل حفظه في الأكياس. لف لنا أحد الرفيقين لفافة تبغ أشعلناها  بعد أجمل وليمة ورحنا نديرها بين أفواهنا ونحن متمددون على أكواعنا تحت أشعة الشمس الساطعة ،تجشأت ،وكدت أتقيء وأنا أتذكر منظر التمر معجونا بالبعر والطين والبول ،فبادر رفيقنا الذي لف السيجارة قائلا:"التمر الفاكهة الوحيدة على الأرض التي تحتوي مضاد حيوي طبيعي ضد السموم والبكتريا لذلك لايتعفن بسهولة.."..
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

لن يأتي الصباح هذه الليلة :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

لن يأتي الصباح هذه الليلة

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
» سأمشي عارية هذا الصباح
» أموات هذه الليلة:
» الحكاية الزائدة عن الليلة الألف
» تفاصيل الليلة الأولى لوزير الداخلية المصري السابق في سجن طرة
» وقائع الليلة الأولى لأبي حيّان التوحيدي في "الإمتاع والمؤانسة"

صلاحيات هذا المنتدى:تستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: اخبار ادب وثقافة-
إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوعانتقل الى: