27 سبتمبر 2014 بقلم
عبد السلام شرماط قسم:
الدراسات الدينية حجم الخط
-18
+ للنشر:مقدمة:
حين يعجز عقل المرء عن تفسير ظواهر فوق طبيعية، يقع في حيرة وتردد من أمره، يصعب معه إيجاد تفسير لتلك الظواهر التي تبدو في نظره قادمة من الخيال، ما يسمح له بتكسير حدود هذا الخيال باحثًا عن الحقيقة، متخطيًا علامة قف المانعة للفوطبيعي أمام الطبيعي، فيخترقها بخياله، وينتقل إلى عوالم قد يجد فيها المبحوث عنه أو ما ضاع عنه في الواقع، حيث يمتزج الطبيعي بالفوق طبيعي.
بخلاف ذلك، يتلقى المرء قصصًا مليئًا بالعجائبي المعجز، سيما في النصوص الدينية، فيتقبلها بشكل فطري دون حيرة أو تردد، دون التماس علل منطقية أو علمية توضح ذلك، على الرغم من تخطيها حدود الواقع، كما هو الشأن في القصص القرآني. الأمر الذي يضعنا أمام إشكال عميق مفاده، كيف يقع عقل الإنسان في حيرة وتردد أمام الواقعة العجائبية المصورة أسطوريًّا، ولا يقع في ذلك أمام الواقعة المصورة دينيًّا؟
قبل الإجابة على هذا السؤال، تجدر الإشارة إلى الوقوف عند متخيل الحكي أولا، والذي يضعنا أمام ثلاثة متون حكائية، يمكن التمييز بينها في الخطاطة الآتية:
وعي المتلقي
( التردّد)
حكي فنتازي
//
العجائبي: merveilleux الغرائبي: l’étrange
شكل= بنية لا عقلانية بنية عقلانية= تأثير
حكي عجيب ـــــــــــــــــــ أحداث فو طبيعية = حالة عادية
الحيرة + قلق = حالة نفسية ــــــــــــــــ حكي غريب
يظهر فوق ما تقدم، أنّ "الحكي الفانتازي" مصاحب لزمن التردد، وهو تردد يحسّ به كل قارئ أو سامع لا يدرك سوى القوانين الطبيعية، إذ يجد نفسه أمام حكي تتداخل فيه العناصر الطبيعية بالفوق طبيعية، فيخلق له نوعًا من الارتباك والتردد المشترك بين المتلقي والشخصيات؛ أي أنّ القارئ يجد نفسه أمام حكي يجبره على اعتبار عالم الشخصيات عالمًا حيًّا، وعلى التردد في الشرح والتفسير بين ما هو طبيعي وما هو غير طبيعي.
[sup][1][/sup]ويظل الحكي الفانتازي مصاحبًا للعجائبي والغرائبي، ولا يمكن له أن يشكل جنسًا مستقلاًّ، غير أنّ زمن التردد سرعان ما يتلاشى عندما ينتهي وعي القارئ إلى حل نهائي، وذلك على الشكل التالي:
أ- يتجه القارئ نحو الغرائبي، إذا اقتنع بوجود قوانين طبيعية/ واقعية، تسمح بتفسير الظواهر الموصوفة.
[sup][2][/sup]ب- يتجه القارئ نحو العجائبي، إذا اقتنع بوجود قوانين أخرى جديدة في الطبيعة تفسر من خلالها الظاهرة الموصوفة.
وعلى هذا، نتساءل عن حدود العجائبي، أشكاله وغاياته وخصوصياته؟ ما تجلياته في الأسطورة أولاً، وفي النص المقدس ثانيًا؟
1- العجائبي: حدوده وأشكاله
أ- حدود العجائبي:
جاء في لسان العرب أنّ "العُجب والعَجبَ ما يرد عليك لقلة اعتياده، وأنّ أصل العجب في اللغة أنّ الإنسان إذا رأى ما ينكره ويقل مثله، قال: قد عجبت من كذا... وأنّ العجب النظر إلى شيء غير مألوف ولا معتاد...".
[sup][3][/sup]ويقرن مجدي وهبة العجائبي، في معجم "مصطلحات اللغة والأدب"، بالروعة، يقول: "قد أشار أرسطو في "فن الشعر" إلى ضرورة الاعتماد على إثارة الروعة في المآسي، وكان يعني بذلك كل ما هو خارق للطبيعة وحدث على غير توقع، وقد استعمل قدماء الإغريق هذا النوع من الروعة في ملاحمهم ومآسيهم على السواء، وهي نتيجة لتدخل الآلهة وأنصاف الآلهة في أمور البشر، إمّا لدفع القصة إلى الأمام بطريقة مصطنعة، وإمّا لحل حبكة تستعصي على الحل بطريقة أخرى".
[sup][4][/sup]ومن ثمة، يسع الحقل الدلالي الذي يشمله الحكي العجيب، المعجزات والخوارق، وكل ما هو غائب وغير مألوف، حيث يولد الاندهاش والانبهار، ويخلق الحيرة أمام ما يحدث أمام الكائن البشري بسبب عجزه عن فهم ما يقع في حيزه من آيات وعجائب؛
[sup][5][/sup] فقد ورد في رسالة وجهها جون لوي إلى صديقه فرنسيس لاكسان، ما يجعل من العجائبي إبداعًا يتخطى الاحتمالية واللامعقول، جاء في الرسالة: "أبحث شخصيا عن العجائبي في العنصر الفوطبيعي - بالمعنى الواسع للكلمة - والموضوع يجب أن يكون قابلاً للتصديق قريبًا من التصديق، رغم أنّ القارئ ينسقه في خيال صرف. إنّ اهتمامي الأول هو اختيار المحيط والديكور وشخصيات تتوفر على مظاهر وإشراقات عبقرية، تجعل العمل محتملاً، وعندما تبدع الاحتمالية، فإن الخرق واللامعقول يفرز لنا إنتاجًا حيًّا".
[sup][6][/sup]على ضوء ما تقدم، يمكن القول إنّ العجائبي ينطلق من حالة طبيعية (واقعية) ليصب في الخارق واللامعقول، كي يعطي مع نهاية المسار العام لعملية الحكي بعدًا منطقيًّا مألوفًا، وإن تجاوز العجائبي الحدود المنطقية وانتهك السائد المتداول؛ وحتى يصبح العجائبي حقيقة يجب الاقتناع بها، فلا بد من تكوين علاقة بين الطبيعي والفوق طبيعي، بين الواقعي واللاواقعي، غير أنّ العلاقة لا يمكن الإفصاح عنها إلا من خلال التأويل، إذ يعمد القارئ إلى البحث عن أدوات يزن من خلالها الأشياء.
وإذا كان الغرائبي يمارس الخوف والارتباك والحيرة والقلق على نفسية المتلقي، فإنّ العجائبي يمثل بنية شكلية تحوّل الأحداث من إطار المحتوى إلى إطار الشكل؛ فمثلا: يذهب البطل في سفر، وهو يمتطي فرسًا، فيجد أمامه بحرًا، يصعب عليه عبوره، فيتحوّل الفرس إلى طائر يطير بصاحبه في السماء قصد تخطي البحر، ومن ثمة يتحول الفرس من المحتوى وسيلةً إلى الشكل وظيفةً تخدم البطل. وعلى الرغم من أنّ العجائبي يتوفر على خصوبة وغنى ومتعة، فإنّه لا يخلو من بعض اللبس الذي يعترض سبيل الباحث، إذ يكتنف هذا اللون من الحكي غموض يحول دون إيجاد تعريف جامع ومتفق عليه عند جميع البحثين، ومن ثم يبقى تحديد العجائبي مفهومًا أمرًا نسبيًّا لا يمكن ضبط معناه.
ب- أشكال العجائبي:
يمكن حصر أشكال العجائبي في ثلاثة، تأتي كالآتي:
*ـ العجيب المبالغ /merveilleux hyperbolique :
في هذا اللون من العجائبي، يقدم الراوي متنًا حكائيًّا يشتمل على جملة من الظواهر الفوطبيعية التي تخرق النظم السائدة وتنتقل بها إلى عالم لا يخضع لأيّة قواعد أو قوانين. ويظهر هذا اللون من الحكي العجيب في بعض حكايات ألف ليلة وليلة، حيث يصف السندباد حجم المخلوقات، مثل السمك الضخم، والطيور العجيبة، والأفاعي، وهي مخلوقات تتجاوز في أشكالها حجم المخلوقات العادية المقبولة عقليًّا؛ فهي مخلوقات يثير وصفها الاندهاش؛ فالفيل مثلا، في العالم المألوف هو أكبر مخلوق حيواني، بينما في عالم السندباد اللامألوف هو كائن صغير. وبالرغم من أنّ هذا اللون من الحكي مبالغ فيه، فإنّه لا يشكل خرقًا فاضحًا لما هو عقلاني.
[sup][7][/sup]*- العجيب الغريب / merveilleux exotique[sup][8][/sup]
: يستحضر الراوي في هذا اللون من الحكي عناصر فو طبيعية، يقدمها كما هي، بل يضيف أشياء أخرى من مخيلته بغية استكمال الصورة العجيبة للظاهرة الموصوفة، ويجدر التنبيه أنّ المتلقي يكون غير قادر على تغييب المكان الذي تجري فيه أحداث الحكاية، ومن ثم لا يمكن إدراج الحقائق في مجال الشك؛ فمثلا تصف شهرزاد على لسان السندباد، طائر الرخ بشكل عجيب، فهو طائر يحجب الشمس، ورجله تشبه جذع الشجرة، علما أنّ هذا النوع من الطيور لا يوجد في علم الحيوان، كما أنّ العقل البشري لا يستطيع إدراك مثل هذا الحكي، لأنّه أكبر بكثير من حدود العقل، ومع هذا لا يمكن للإنسان رفضه، لأنّه لا يملك دلائل وبراهين تساعده على تكذيب هذا المروي العجيب الغريب.
يلجأ الراوي في هذا اللون من الحكي إلى العناصر السحرية، مثل المصباح السحري والعصا السحرية وقبعة الإخفاء...إلخ، غير أنّ مثل هذا الحكي لا يثير الدهشة والانبهار بحكم التكرار والتعود عليه.
2- غايات العجائبي:
ربط أرسطو غاية الحكي العجيب بالإمتاع، وآية ذلك أن الناس جميعا حينما يحكون حكاية يضيفون من عندهم ابتغاء الإمتاع.
[sup][10][/sup] وعادة ما يقدم الحكي العجيب غطاءً لتجاوز الضوابط الاجتماعية، والتخلص من الممنوعات والمحرمات الاجتماعية tabou المفروضة على الإنسان. فالعجائبي يقوم على أساس اجتماعي، ويؤسس بعناصره الفوطبيعية واقعًا حقيقيًّا يمتزج فيه الواقعي بالمتخيل، ويشيد نصًّا إبداعيًّا له دلالاته الاجتماعية والأخلاقية؛ فمثلا، عجوز سرقت بوسائلها السحرية من بنت زوجها جمالها الفتان، وحولتها إلى حيوان صغير؛ أو غول يتحول إلى شاب جميل ليتزوج من فتيات القرية الجميلات؛ فمثل هذه الحكايات، ليس من السهولة بمكان استيعابها في مجتمعات عقلانية، ولكن من السهولة قبولها في مجتمعات أخرى، ما دامت الأمور تتنوع بين مجتمع وآخر. فالمجتمعات التي تؤمن بالخرافي يصبح فيها العجائبي عاديًّا، مادام الخرافي يتحول إلى ممكن، وتصبح العناصر اللاواقعية أساس الواقع، وذلك بتوفير العجائبي قصد خرق المألوف وتكسير قواعده، وإن كان هذا العجائبي يختلف من شكل لآخر.
3- العجائبي بين الأسطوري والديني:
يستدعي الحديث عن العجائبي الأـسطوري والعجائبي الديني ضرورة الوقوف عند حدود كل شكل على حدة، بمعنى استجلائهما وبيان المعيار الذي يتلقى به العقل هذا الشكل أو ذاك.
فالعقل يقبل العجائبي الديني / المقدس الوارد في النصوص المقدسة خلافًا للعجائبي الذي تتضمنه حكايات خرافية أو أسطورية، مما يقودنا إلى طرح سؤال مفاده: كيف يمكن التمييز بين العجائبي الأسطوري والعجائبي الديني؟ وهل من معيار يساعد المتلقي على التمييز بين الديني والأسطوري؟
أ- العجائبي الديني:
صحيح أنّ البنية الفكرية للدين يمكن تمييزها بسهولة عن الفكر الأسطوري؛ فالواقعة المصورة دينيًّا تقبل فطريًّا عن الواقعة المصورة أسطوريًّا؛ ومن ذلك ما ورد في قوله تعالى: "
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
[sup][11][/sup]فمثلا "إنسان يميته الله مائة سنة ثم يحييه، فيجد طعامه ما زال ساخنًا وجاهزًا للأكل، وينظر لحماره الرميم يتشكل شيئًا فشيئًا، بقدرة الله، فيستوي حمارًا حيًّا قائمًا! نحن مطالبون بالتصديق بهذه القصة، ليس لأسباب علمية تعليلية، بل لقرينة خارجية، وهي موثوقية مصدر القصة"
[sup][12][/sup]. ومن ثمة، فالعقل يكون على استعداد كامل لتقبل الحدث بثقة خالية من التردد أو الحيرة أو حتى الشك، وبالتالي ينخرط العقل البشري في دائرة المقدس المعجز الذي لا يقبل السؤال.
ومن هذا الحكي في القرآن الكريم كثير، فمنه مثلاً ما جاء في سورة الكهف في قوله تعالى: "
إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا".
[sup][13][/sup] فأصحاب الكهف والرقيم { كانوا من آياتنا عجبا}؛ فهذه قصة تخبر بأحداث عجيبة تضع العقل الإنساني أمام عجز عقلاني، لا يستطيع معها منطقيًّا قبول الحدث، لكن الله عز وجل يؤكد لرسول الأمة محمد صلى الله عليه وسلم، أنّه يملك القدرة على فعل كل شيء، ويأتي بأمر أعجب من قصة أهل الكهف، وفي ذلك إخبار للنبي بالقدرة الإلهية وإفحام للمشككين في رسالة النبي التي كلف بها قصد تبليغها للعالمين.
فالله عز وجل يخبر عن أولئك الفتية الذين فروا بدينهم من قومهم لئلا يفتنوهم عنه، فهربوا منهم فلجأوا إلى غار في جبل ليختفوا عن قومهم، فقالوا حين دخلوا سائلين من اللّه تعالى رحمته ولطفه بهم: {ربنا آتنا من لدنك رحمة} أي هب لنا من عندك رحمة ترحمنا بها وتسترنا عن قومنا، { وهيئ لنا من أمرنا رشدا}؛ أي اجعل عاقبتنا رشداً، كما جاء في الحديث: (وما قضيت لنا من قضاء فاجعل عاقبته رشداً)
[sup][14][/sup]. وفي المسند عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه كان يدعو: (اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة)، وقوله: {فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا} أي يخبر ألقينا عليهم النوم حين دخلوا إلى الكهف فناموا سنين كثيرة { ثم بعثناهم} أي من رقدتهم تلك، وخرج أحدهم بدراهم معه ليشتري لهم بها طعاماً يأكلونه كما سيأتي بيانه وتفصيله، ولهذا قال: {ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين} أي المختلفين فيهم {أحصى لما لبثوا أمدا} قيل: عدداً، وقيل: غاية.
فعلى مستوى المنطق الأمر فيه حيرة وتعجب، لأنّ هذه الذات البشرية تتكون من دم ولحم، وبالتالي عدم الحركة قد تصيب الذات بالشلل وربما تتوقف الدورة الدموية، ولكن الحكمة الإلهية كانت أقوى لإفحام المشككين وإسكات المكذبين، وهو لعمري تحدّ وإعجاز كبيران يفوقان العقل البشري في بنيته الطبيعية.
ومن ذلك كذلك، مكالمة سليمان للطير، ففي قوله تعالى: "
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24)".
[sup][15][/sup]كان النبي سليمان حسب ما ورد في الآيات في موكبه الفخم الضخم، يتفقد الطير فلم يجد الهدهد، وهو هدهد من نوع خاص، ولعل افتقاد سليمان لهذا الهدهد هو سمة من سمات شخصيته اليقظة الموسومة بالشدة والحزم؛ فهو لم يغفل عن غيبة جندي من هذا الحشر الضخم من الجن والإنس والطير الذي يجمع آخره على أوله كي لا يتفرق وينتكث، وهو يسأل عنه في صيغة مترفعة مرنة جامعة: (ما لي لا أرى الهدهد? أم كان من الغائبين)، ويتضح أنّه غائب، ويعلم الجميع من سؤال الملك عنه أنّه غائب بغير إذن! وحينئذ، يتعين أن يؤخذ الأمر بالحزم، كي لا تكون فوضى؛ فالأمر بعد سؤال الملك لم يعد سرًّا. وإذا لم يؤخذ بالحزم كان سابقة سيئة لبقية الجند. ومن ثم نجد سليمان الملك الحازم يتهدد الجندي الغائب المخالف: (لأعذبنه عذابًا شديدًا أو لأذبحنه). ولكن سليمان ليس ملكًا جبارًا في الأرض، بل هو نبي، وهو لم يسمع بعد حجة الهدهد الغائب، فلا ينبغي أن يقضي في شأنه قضاءً نهائيًّا قبل أن يسمع منه، ويتبين عذره. ومن ثم تبرز سمة النبي العادل: أو ليأتيني بسلطان مبين؛ أي حجة قوية توضح عذره، وتنفي المؤاخذة عنه.
وقد يتساءل القارئ عن تجليات العجائبي في هذه الآيات، علمًا أنّ الكلام صريح وواضح، لكن ما يشد الانتباه هو الحوار الذي دار بين كائنين مختلفين؛ أي نبي الله سليمان والهدهد؛ إذ لكل واحد منهما سمات يمكن رصدها على الشكل الآتي:
نبي الله سليمان= + عاقل+ حي+ ناطق+ إنسان+ نبي
الهـــــــــدهــــــــــــــد= + غير عاقل+ حي+ غير ناطق+ طائر+ طائر خاص
فهذه السمات تشي باختلاف بين الكائنين، مما يضع العقل في حالته الطبيعية أمام حيرة وتردد، ليسقط في دائرة العجائبي من خلال: كيف يتم الحوار بين كائنين مختلفين؟ لكن مادام الكلام وحيًا إلهيًّا منزلاً على نبي كريم، فإنّ المتلقي يقصي من ذهنه كل درجات الشك، ويخرج بالعجائبي من دائرة التردد والحيرة ليدخل به في دائرة الإيمان واليقين والتصديق، بعيدًا عن أي سؤال، سيما وأنّ الكلام يدور حول نبي عرف بشدته وحزمه وعدله.
فهذه شواهد تفيد أنّ العجائبي المضمن في هذه الآيات لا يقبل النقاش، لأنّه صادر من أعلى إلى أسفل، وهو ما يجعل ذلك مقبولاً، وإن كان خارج حدود العقل، لأنّ الإنسان المؤمن يدرك جيدا أن ما حدث في خرق المعقول، إنّما الغاية منه هي تقريب المؤمن من هذه الأحداث قصد تثبيت إيمانه وترسيخه، ومن جهة أخرى هي إظهار للقوة الإلهية القادرة على إحياء الموتى وهي رميم للمشككين والكفار بغية إعجازهم.
ب- العجائبي الأسطوري:
يقتضي الحديث عن هذا اللون من العجائبي ضرورة الحديث عن الأسطورة في علاقتها بالإنسان الذي اعتقد في البداية أنّ العالم بكل مظاهره المتنوعة يخضع لترابطات وقوانين، وتصور أنّ معرفته بتلك الترابطات ستساعده في السيطرة على الطبيعة المحيطة به وإخضاعها لرغباته ومصالحه؛ لذلك حاول استجلاب المطر بممارسات سحرية تجبر الطبيعة على الاستجابة، غير أنّ الإنسان بعد محاولات سحرية عديدة فشل في السيطرة على محيطه، لذلك اتجه إلى الدين، مدركًا أن ثمة قوى خارقة تقف وراء ظواهر الطبيعة، قوة إلهية مفارقة لها فعالة فيها، ولا بد أن يكون الكون مظهرًا ماديًّا لتلك الطاقات الإلهية ونتاجًا لفعاليتها وقواها المستمرة.
[sup][16][/sup]لقد آمن الإنسان أن ثمة قوى أعلى وأسمى منه، لذلك اتخذ من الأسطورة وسيلةً وأداة للفهم والكشف عبر التفكير في القوى البدائية الكامنة وراء العالم، غير أنّ ذلك لم يستمر طويلاً على اعتبار أنّ الفكر الإنساني يطمح باستمرار إلى المعرفة، لذلك فقدت الأسطورة معناها، فأصبحت تطلق على كل الأفكار الخاطئة، وأصبحت تستخدم للتعبير عن المبالغة في الحديث عن شيء أو شخص أو حدث، أو لتعيين شخصية حقيقية أو خيالية، تتخذ شكل البطل الخارق، أو نجدها تفقد هالة الرعب والقداسة في عالم يصح وصفه بحق بأنّه عالم بلا روح فيخلع لقب أسطوري على المحارب البطل، والنجم السينمائي، والثروة الطائلة، والسرعة القصوى، والترف والراحة وغيرها من قيم المجتمع البرجوازي والمجتمع الاستهلاكي الرأسمالي الغربية واتجاهاته. فقد أفرغ الإغريق الأسطورة تدريجيًّا من قيمتها الدينية والميتافيزيقية، حتى أصبحت تطلق على كافة ضروب الوهم والخيال، وعلى فرضيات ذهنية مثالية تتصل بالماضي أو المستقبل، كأسطورة العصر الذهبي وأسطورة الفردوس المفقودة والمدينة الفاضلة، وهكذا تراجعت الأسطورة أمام زحف الفكر الفلسفي، بل تعاونت الديانتان اليهودية والمسيحية على رمي كل ما ليس له سند في الكتاب المقدس في عهديه القديم والجديد في سلة الأكاذيب. كما أدى تبلور المناهج العلمية في العصر الحديث إلى الازدراء الكامل للأسطورة وإنزالها إلى مرتبة الحكاية المسلية أو القصة الشعبية ذات الطابع العام الذي يرتبط بتراث شعب أو مجموعة شعوب متقاربة في ثقافتها
[sup][17][/sup] وتقاليدها بسبب ما تحتويه من عناصر غيبية تتنافى والتفكير العلمي السليم.
وعلى ضوء هذا، نستحضر موضوعة البحث، ونقصد العجائبي الأسطوري، فإذا كانت الغاية من العجائبي الديني هو الإعجاز، فما الغاية من العجائبي الأسطوري؟
قبل الإجابة على هذا السؤال، يجب التمييز بين الأسطورة الحقيقية والأسطورة الوهمية؛ فالأولى هي كشف تأملي يمنح صاحبه ثقةً كبيرة، وليس مجرد عبث من الوهم، فضلاً عن ذلك يؤمن باطرادها.
[sup][18][/sup] أما الثانية، فأسطورة يراد من حكيها المتعة والتسلية، إذ يعمد الراوي فيها إلى استحضار عوالم تفوق كل ما هو طبيعي، مما يضع المتلقي في بنية لا عقلانية تقوده نحو الحيرة والارتباك، وهو ما يؤثر في حالته النفسية.
+ أسطورة إيتانا والنسر:
تنتمي هذه الأسطورة إلى عصر السلالات في سومر 2600 ق.م، بناءً على ما عثر عليه من أختام أسطوانية، وهي تحمل مشهد صعود الإنسان إلى السماء على ظهر نسر.
[sup][19][/sup]تتحدث الأسطورة في مقدمتها عن الآلهة في الأزمان الأولى عندما خلقوا الجهات الأربع، وخططوا لبناء أول مدينة للبشر، وهي مدينة كيش، وبعد انتهائهم من التنظيم أسسوا منصب الملوكية، ووقع اختيارهم على إيتانا شخصًا مناسبًا للحكم.
"الآلهة الكبار، آلهة الإيجيجي صمموا مدينة
آلهة الإيجيجي وضعوا لها الأساسات
آلهة الأنوناكي صمموا مدينة كيش
..........
الآلهة الكبار الذين يقدرون المصائر،
جلسوا، تشاوروا في أمور البلاد،
بينما كانوا يخلقون جهات العالم الأربع، ويضعون شكلها
.... أسطر مشوهة...
يتحدث هذا المقطع عن مرحلة تاريخية معينة، ويوضح الغايات من خلق الإنسان وتكليفه.
ويحتوي متن الأسطورة على قصتين:
- الأولى: قصة شجرة وارفة الظلال سكنت قاعدتها حية وصغارها، بينما سكن في أعلى الشجرة نسر وفراخه، وقد أقسم الاثنان أمام الإله شمش على العيش بسلام، وعلى اقتسام الطعام فيما بينهما، وبعد فترة من الأمن والسلام، أضمر الأخير شرًّا لصغار الحية، حيث أراد التهامهم، بالرغم من نصيحة ابنه الصغير، وبذلك اقترف ذنبا استحق عليه العقاب من الإله.
- الثانية: قصة إيتانا العاقر الذي يبتهل للآلهة لترفع عنه لعنة العقم، كي ينجب وريثًا للعرش، يستجيب الإله شمش لإيتانا فيساعده على نبتة الإخصاب، حيث دلّه على مكان حفرة النسر الذي سيساعده على الشفاء مقابل أن يطير به في السماوات لجلب نبتة الإخصاب التي ترعاها عشتار، وبعد محاولتين يحصل إيتانا على النبتة.
وتتمثل عجائبية الأسطورة في كونها استحضرت رموزًا من الموجودات، تقود المتلقي إلى التأمل والتدبر فيما هو سابق عن العقل، لأنّ أحداثها تجري في إطار يتسم بالشمولية خلافًا للعقل الذي يروم الجزئية.
خاتمة:
إنّ التمييز بين العجائبي الديني والعجائبي الأسطوري يستدعي ضرورة وضع كل عنصر في سياقه وقصده، فعزل القصة القرآنية عن سياقها وقصدها يخرجها من طابعها القرآني إلى سرد أسطوري، وبالتالي تفقد الصفة الإعجازية ولذلك "فالقصة القرآنية هي قرآنية متى ما كانت مرتبطة بسياقها وغايتها، وهي تفقد المعنى عند فصلها ونسيان أصلها".
[sup][20][/sup] وفي هذه الحالة، تكون البنية العقلية للإنسان مستعدة لتقبل القصة بإيمان قوي بعيًدا عن التردد والحيرة، بينما يقود عجائبي الأسطورة إلى التعمق في التأمل والتدبر قصد فهم الأشياء على اعتبار أنّ الأسطورة كانت بديلاً عن العلم في تاريخ ما قبل العلم.