استفاد النقد الأسطوري من الأنتروبولوجيا إلى أقصى حد، حتى يمكننا القول
أن إسهام الأنتروبولوجيين في نظرية النقد الأسطوري لا يقل عن إسهام
النقاد. وقد لاحظنا كيف أن مود بوتكين استفادت من الدراسات الأنتروبولوجية
وفاقها في ذلك نورثروب فراي الذي أضاف إلى أدواته النقدية التايبولوجيا.
ولا نعتقد أن ناقداً جاراه في الاستفادة من التايبولوجيا.
فقد بين أنها في الأصل تقليد أدبي مشترك بين جميع الشعوب، منذ العهود الطوطمية والفيتيشية.
لا
يوجد حتى الآن اتفاق على الكلمة البديلة للتايبولوجيا، مع أننا لو
سميناها"علم الأنماط" تجاوزاً لما كان في ذلك غضاضة. إنها مثل كلمة
الأنتربولوجيا التي فشلنا في إيجاد بديل عربي يقابلها. وهي كلمة فضفاضة
نجدها في الفلسفة والاجتماع والدين، بل حتى في الرياضيات. وهي ترجع إلى
الكلمة اليونانية تايبوس وتعني الرمز أو النمط أو المثال. وربما كان
أبيمينيدس الكريتي، الذي عاش أرسطو بعدة قرون، أول من استخدمها(97) للدلالة
على الصفات التي لا توجد كاملة في فرد من الأفراد أو ظاهرة من الظواهر.
والنمط الأولي عند أفلاطون هو المثال الأصلي الذي تعد الأشياء أشباحاً
وصوراً له(98).
ففي هذه الأشياء نعثر على صفات المثال، أو ربما معظم صفات المثال إلا أننا لا يمكن أن نعثر عليها كاملة.
وقد
استخدمت المسيحية هذا المصطلح اليوناني في لاهوتها وحولته لصالحها، كما
فعلت بكل ما أخذته عن الفكر الإغريقي. وقد استخدم اللاهوت لفظة تايبوس
اليونانية للدلالة على أكثر أنواع الرمزية أصالة الواردة في الكتاب المقدس.
وقد وضع اللاهوتيون عدة كلمات وحددوا دلالتها بالنسبة إلى التايبوس. فهناك
مثلاً الأنتي تايبوس ويقصدون به الوجه المقابل للأصل. فالسابقة أنتي هنا
لا تعني الضد، بل تعني المقابل. فالمعمودية هي الأنتي تايبوس للتايبوس
الأصلي وهو"الطوفان"، ومعنى ذلك أن النموذج الأصلي لا يتكرر بحرفيته، أو أن
النموذج المقابل أضاف معنى جديداً لم يكن موجوداً في النموذج السابق أو
النموذج الأصلي.
وهناك كلمة هيبودغما وتعني الصورة المسبقة. أما
البارادغما فهي المثال المضروب على هذه الصورة، فخيمة الاجتماع على جبل
سيناء، التي جمعت بين الله وموسى هي هيبودغما أما المظلة التي جعل اليهود
لها عيداً فهي باردغما أي مثال مضروب ضرباً على خيمة الاجتماع.
أما الميمس فهي المحاكاة للنموذج الأصلي، فهيكل سليمان هو محاكاة لخيمة الاجتماع وليس كالمظلة المضروبة ضرباً على هذه الخيمة.
وهناك
كلمتان أخريان تتعلقان بالتايبولوجيا اللاهوتية وهما السوما والأسكيا. أما
السوما فإنها نمط أولي ولكنه حقيقة كاملة إلا أن الأسكيا تمثل ظل هذه
الحقيقة فقط. فالمسيح في عرفهم هو سوما أي حقيقة أما الاقتداء به فإنه
اسكيا، أي الظل(99).
إما ألا يكون(الصورة) فإنها تعني تكرار التايبوس
كاملاً. الفردوس المفقود هو تيبوس أما الفردوس المستعاد، والذي تسعى نحوه
البشرية فإنه لا يختلف عن الفردوس المفقود، بل أنه هو نفسه، لذلك لا يمكن
أن يكون بارادغما ولا انتي تايبوس ولا اسكيا(ظلا) بل إنه إيكون(صورة) أي هو
نفسه.
وقد غير القديس بولس من هذه الاصطلاحات فاعتبر أن كل ما جاء في
العهد القديم هو بارابول(رمز) للمسيح. فصعود اسحق إلى المحرقة، حيث استبدل
بكبش، رمز لصعود المسيح إلى جبل الجلجلة... وهكذا.
يرى القارئ أننا أمام
علم واسع جداً من الأنماط فهناك الأنماط الأخلاقية والترميزية والأنماط
الأرضية التي هي محاكاة للأنماط السماوية، وهناك أنماط اسكاتالوجية، إذ صار
التاريخ بنظرهم هو عبارة عن خط سير مستقيم نحو تحقيق هدف محدد، فكل نمط،
على هذا الأساس يكون خطوة تصاعدية نحو تحقيق الإرادة الإلهية التي تسوق
البشر إلى الآخرة، حيث الفردوس المنتظر. فحياة العبريين في العهد القديم
هي-في اعتبارهم- حياة فريدة من نوعها لأنها تحقق في الأرض ما طلب منها في
السماء. وقد يكون ثمة ثورة وتمرد، كما حدث في التيه، إلا أن هذه الثورة
نفسها نوع من تحقيق إرادة الذات الإلهية، فالسماء هي التي تهدي مسيرة هؤلاء
القوم في هذه الأرض.
وقد ظن العبريون أنهم قوم خصوا بهذه الميزة، فهم
ينفردون من دون سائر الشعوب بإلهامات السماء وتوجيهها، وما أعيادهم
واحتفالاتهم وطقوسهم وشعائرهم وعاداتهم... بل ما حياتهم سوى خصيصة انحدرت
إليهم من السماء وانحصرت بهم.
لكن جيمس فريزر في كتابه المكرس لدراسة
هذه الظواهر المعتقدية والطقسية والعادات والتقاليد الشعبية عند
العبريين"الفولكلور في العهد القديم" (100) أُبت أن البشرية جمعاء تملك ما
يشبه هذه العقائد والتقاليد والفولكلور ضمن انزياحات تفرضها ظروف كثيرة،
فالأنماط هي ظاهرة عامة مشتركة بين شعوب الأرض قاطبة، صغيرها وكبيرها،
قديمها وحديثها، فمنذ الانتقال من الوحشية إلى المجتمع المدني ظهرت هذه
الأنماط.
يبين فريزر في الفصل الأول من كتابه كيف أن سفر التكوين وقع
رهين مصدرين في"خلق الإنسان": قصة الخليقة المنحدرة من أصل كهنوتي، وقصة
الخليقة المنحدرة من أصل يهودي، وثمة تناقض كبير بين القصتين، فصله المؤلف
تفصيلاً موجزاً، ثم عرض قصة الخلق في الثقافات الإنسانية المختلفة، ففي
الثقافة اليونانية يجبل بروميثوس طيناً ويخلق منه البشرية، تماماً كما في
التكوين العبراني. وحتى لو خرجنا من دائرة الثقافة المتوسطية وابتعدنا
كثيراً وجدنا أن القصة ذاتها مع بعض الاختلافات في التفاصيل تتكرر. فقرب
ملبورن، في استراليا، يروي البدائيون قصة مشابهة فمن ثلاث شرائح من لحاء
الشجر قطعها الخالق"يند- جل" بسكينه، ووضع عليها طيناً وراح يسويها بسكينه
إلى أن ظهر الشكل الذي أعجبه فنفخ فيه من أنفاسه وظهر الإنسان بنوعيه الذكر
والأنثى.
وفي تاهيتي يخلق"تاروا" الإنسان على شكل زوجين أولين من طين أحمر، ومن هذين الزوجين تنحدر البشرية.
أما
قصة خلق المرأة من ضلع الرجل، فموجودة في كثير من الفولكلور لدى كثير من
الشعوب، فنجدها بتمامها تقريباً عند سكان بورما، فقد جاء فيها أن
الخالق"أخذ ضلعاً من أضلاع الرجل وصنع منه امرأة" ويروي تتار سيبريا قصة
مشابهة، وهي أن الرجل كان المخلوق الوحيد لكنه نام مرة فبرزت عظمة من
أضلاعه إثر لمسة شيطانية، فسقطت على الأرض وأخذت تنمو فصارت المرأة الأولى.
وحتى
قصة خلق الجلد وفصل المياه عن اليابسة والظلمة عن النور، وخلق الحيوان
والشجر والبشر والشمس والقمر.... نجدها لدى كثير من الشعوب.
وفي الفصل
الخامس يبين المؤلف أن برج بابل ليس خاصاً بالعبريين الذين يزعمون أن البرج
أقيم تمرداً على الخالق الذي"بلبل" ألسنتهم وأحبط عملهم. ومع أن معنى
بابل"بوابة السماء" فإن الحكواتي العبري جعلها بلبل ليستغلها في تفريق
الألسنة. وكما يزعم العبريون أن لغتهم هي التي كانت متداولة قبل البلبلة
وأنها لغة أهل الجنة، فإن السويديين يزعمون هذا الزعم وكذلك الهولنديون
والدانمرك لنوازع قومية. وقصة برج بابل وتبلبل الألسنة موجودة لدى كثير من
الشعوب، ففي المكسيك نسمع القصة ذاتها تقريباً. وفي قبيلة"ميكير" في
التيبيت البورمية تتكرر قصة برج بابل. ويبدو أن البرج الذي يشمخ إلى السماء
هو رمز للتمرد والعصيان لأن القصص"البرجية" كلها تجمع على ذلك.
ويطالعنا
فريزر أن"سقوط آدم" ليس عقيدة خاصة بالعهد القديم، بل إنها منتشرة
انتشاراً واسعاً. وكذلك الميثاق الذي يعقده الخالق والمخلوق، فهو موجود في
الفولكلور العالمي.
والشيء نفسه يقال عن الطوفان و"علامة قابيل" و"جلد
الجدي" و"قدح يوسف" وبقية القص التي يشتمل عليها العهد القديم. بل إنه يظهر
كيف أن القانون الذي يعتقد اليهود أنه خاص بهم، لا يختلف عن
بقية"القوانين" البشرية. والعادات الخاصة بذلك ليست وقفاً عليهم فالنهي عن
طبخ الجدي بلبن أمه نجده لدى كثير من الشعوب، وكذلك إيذاء الجسد حزناً على
الميت وغير ذلك من الظواهر الفولكلورية.
وخلاصة"الفولكلور في العهد
القديم" هي أن هذا الفولكلور ما هو إلا تكرار لأنماط عرفتها معظم الشعوب،
مع بعض التعديلات والانزياحات التي تفرضها المشاعر القومية أو الظروف
البيئية. ولكن حتى في حالة تباين البيئات نجد ثمة مماثلة بين عقائد الشعوب.
فالعقيدة المصرية مثلاً هي عقيدة شمسية صرفة، ولكننا نرى هذه العقيدة
موجودة حتى في البلاد التي يعز فيها اللقاء مع أشعة الشمس كاليونان مثلاً
وكالبلاد السكندنافية. ويجب ألا تخدعنا الفروقات والتباينات وأحياناً
التناقضات، عن إدراك العالم المشترك بين عقائد الشعوب التي تعكس أنماطاً
أولية كبرى، وقد تتقارب الأنماط الصغرى، أو حتى أقسام وأجزاء متشظية من هذه
الأنماط. إن الدراسة العلمية الواسعة التي قدمها فريزر في هذا الكتاب،
أظهرت أن التباينات العرقية والقومية والدينية والبيئية تتضاءل كثيراً أمام
العالم المشترك.
التايبولوجيا-إذن- ليست علماً لاهوتياً، ولا هي خصيصة
للعهد القديم والعهد الجديد بل إنها"العام المشترك" لجميع ثقافات الشعوب.
بل يمكن الزعم أن اللاهوت هو الذي أخضع التايبولوجيا لميدانه وجعلها حكراً
عليه. والمصطلحات التي استخدمها في التايبولوجيا هي مصطلحات مسبوق إليها،
لكنه أضفى عليها المعاني التي تخدم عقيدته، بحيث صرنا عندما نسمع كلمة
لاهوت(ثيولوجيا) نلصقها بالمسيحية فقط، وننسى أنها علم قائم بذاته وموجود
لدى أقدم الشعوب(كالأستراليين) وأورقاها(الإغريق) وعلى هذا فإن"قصة يوسف"
مع امرأة فوطيفار تتحول إلى"مغزى لاهوتي" في حين أن"قصة الأخوين" المصرية،
وهي النسخة الأصلية لقصة يوسف، لا يسمح لها أن تدخل حرم اللاهوت. والسقوط
له معنى لاهوتي في العهد القديم، بينما"السقوطات" التي لا حصر لها والتي
عرفتها شعوب العالم لا دخل لها في اللاهوت.
لقد حرر فريزر بكتابه
الدقيق"الفولكلور في العهد القديم" العقائد والتصورات والعادات من أسر
اللاهوت وارتفع بها إلى مستوى المشترك العام بين البشر، فسقوط آدم ما هو
إلا صورة لكثير من أنماط السلوك التي عرفتها البشرية. ورحلة يونان المائية
ما هي إلا تكرار للرحلات تحت الماء التي تتردد في ثقافة الشعوب وآدابها،
وإن لم تكن شعوباً مائية. ولا يكاد معتقد من المعتقدات القديمة يخلو من قتل
التنين أو اليهموت المخيف أو الغيلان أو الهولات، فهي عقيدة مشتركة وليست
حكراً على العهد القديم أو العهد الجديد.
ولكن على الرغم مما بين
الأنتروبولوجيا والأدب من صلة فإن الدراسة المسيحية التي قدمها فريزر تظل
مقيدة بحدود انتروبولوجية، وإن كانت على صلة وثيقة بالآداب والثقافات
الفنية. وقد عزز فريزر نظرته في العهد القديم بالأمثلة الموسعة والغزيرة
لقبائل وشعوب ومجتمعات وتجمعات، كثيرة جداً ومختلفة عرقاً وديناً ولغةً
وبيئةً. فمن الهند وحتى كندا، ومن الاستواء إلى القطب ومن استراليا إلى
الهنود الأصليين في أميركا، ومن سكان الجبال إلى سكان السهول، ومن سكان
الصحارى إلى سكان السواحل، ومن ضفاف الأنهار حتى شواطئ البحار... تبين له
أن ما يتراءى خاصاً في العهد القديم إنما هو عام بين جميع أنماط الوجود
البشري.
الناحية الأدبية في هذا الكتاب ذابلة ذاوية إن لم تكن معدومة،
فإشاراته إلى الآثار الأدبية قليلة جداً. ولكن من البديهي جداً أن الاشتراك
في الثقافة والمعتقدات يعني الاشتراك في الأدب كإطار عام. ولذلك فإن
ناقداً من أمثال نورثروب فراي لم يطرح على نفسه هذا السؤال وهو هل هناك
مشترك أدبي بين الشعوب والعهد القديم، مثلما أن هناك مشتركاً أنتروبولوجياً
بينها؟ إنه سؤال نافل ما دام الاشتراك بالثقافة والعقائد سوف يؤدي من دون
شك إلى الاشتراك في الأدب.
ليس هذا وحسب، بل إن التايبولوجيا في الكتاب
المقدس بشقيه: القديم والجديد هي نفسها التايبولوجيا الأدبية. ونورثروب
فراي لا تنقصه أدوات البحث الأدبي، فإلى جانب تخصصه الأدبي تخصص باللاهوت
الكتابي، كما درس الفلسفة وثقفها ثقافة مكينة، وإن لم يمارس النشاط الفلسفي
المستقل.
كانت مود بوتكين قبله قد استفادت من اللاهوت في دراستها
للأنماط الأولية في الشعر، أما هو فإنه من قلب اللاهوت أثبت رسوخ الأنماط
الأولية الأدبية، وما التايبولوجيا اللاهوتية سوى تايبولوجيا عامة مشتركة
بين الناس أجمعين. ولا شك أن رسوخ قدمه في اللاهوت من جهة والنقد الأدبي من
جهة أخرى مكنه من أن يستبدل أسماء الشعوب والقبائل والعادات بأسماء
الشعراء والأدباء والآثار الأدبية منذ القديم وحتى العصر الحديث. وبالطبع
اقتصرت أمثلته على الأدب المطبوع المحرر وليس على الأدب الشفهي الدارس الذي
لو كان سجل لكان سنداً قويّاً له في بحثه.
إن الكتاب الذي عرض فيه هذه
الآراء هو "الشيفرة الكبرى(101). وقد أوضح في المقدمة أن كتابه هذا يحاول
دراسة الكتاب المقدس من جهة الناقد الأدبي الذي يقوم بمسح معمق للتصور
والسرد في العهد القديم والجديد، شارحاً كيف أن عناصر هذا الكتاب هي التي
أدخلت الإطار التخييلي-أو الكون الميثولوجي كما يسميه- في الأدب الغربي حتى
القرن الثامن عشر، وما يزال هذا الكون الأسطوري مستمراً في تأثيره حتى هذه
الأيام(102).
وقد أحسن صنعاً عندما أضاف العهد الجديد إلى العهد
القديم، فلم يقتصر على العهد القديم كما فعل فريزر. وربما كان مضطراً إلى
اتخاذ هذه الخطوة لأن العهد الجديد يستخدم الأنماط ذاتها الموجودة في العهد
القديم، فكلا العهدين يقوم على التصور الميثولوجي للكون والحياة. ثم إن
الغرب يعتقد أن الرموز في العهد القديم ما هي إلا إشارات إلى العهد الجديد،
وإن العهد الجديد جاء توكيداً لهذه الإشارات، فالتصور الميثولوجي مستمر في
العهد الجديد، وهو قاسم مشترك بين هذين العهدين والآداب العالمية التي
تقوم هي الأخرى على التصور ذاته: "الكون الميثولوجي". ولهذا لم يخطئ عندما
عامل الكتاب بعهديه على أنه كتاب أدبي يعكس المخيلة الميثولوجية بأوسع
معانيها.
أبحاث الكتاب تنحصر في اللغة والأسطورة والاستعارة، وأخيراً في
التايبولوجيا وهي الجزء الذي يستحق التريث عنده، مع أن الأبحاث السابقة لا
تقل أهمية عن التايبولوجيا. فقد بين أن اللغة الأدبية واحدة. والدليل على
ذلك أن هذه اللغة كانت مستخدمة في آداب العالم، كل شعب حسب لغته، ومستخدمة
في الأدب الغربي الذي لم يعرف الكتاب بعهديه إلا عن طريق الترجمة. ولو لم
تكن هناك لغة أدبية مشتركة، لكان من المحال أن يؤثر الكتاب المقدس في الأدب
الغربي كل هذا التأثير.
والأسطورة لغة، وهي أيضاً لغة مشتركة. هنا
يعتمد على ما أثبته فريزر في كتابه"الفولكلورفي العهد القديم". ومن الأمثلة
التي اعتمد عليها فراي مثال الطوفان، إذ أن هذا الطوفان موجود لدى شعوب
العالم قاطبة، فلكل شعب قصة طوفانه. وفي كل حالة كان الطوفان سبباً لنشوء
الأسطورة.
لاشك أن الفيضان غمر جنوب سومر كما تخبرنا بذلك ملحمة
كلكاميش. فالطوفان هنا طريق إلى الأسطورة، سواء كان بطلها أو تنابشتيم أو
نوح. ولكن هل يعقل أن الطوفان حصل في كل المعمورة؟... أليس من المعقول أن
التصور الميثولوجي هو الذي أوجد الطوفان مثلما أوجد العالم السماوي والعالم
الجهنمي؟ ولماذا نسلم بالخلق الميثولوجي لذينك العالمين ولا نسلم بالخلق
الميثولوجي للعالم المائي، والقسم الأعظم من كرتنا الأرضية تغمره المياه؟
ولا
تختلف الاستعارة في أصولها عن الأسطورة، بل هي من فعل التصور الميثولوجي
الذي يجعل العالم الأرضي منصاعاً للعالم السماوي. وعندما يقول الكتاب"إن
الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولاداً لإبراهيم" فإنما يتبع ما تعورف
عليه في كثير من الشعوب ففي الطوفان اليوناني ينجو ديوكالين وبيرها اللذان
أمرا أن يرميا الحجارة خلفهما، وكانا الناجيين الوحيدين ففعلاً فإذا
الحجارة تصير بشراً. فالاستعارة مصدرها التصور الميثولوجي وليس التصور
الواقعي، وبما أنها لغة الأدب فإنها أسبق من اللغة الواقعية، لغة العلم.
ولو أن الإنسان بدأ بالواقع بعيداً عن أي تصور ميثولوجي، وهذا مستحيل،
لكانت اللغة على غير ما هي عليه الآن، ولخلت من أي نوع من الاستعارة
والتورية. ففي البدء كانت الاستعارة وليس الواقع. أو يمكن القول أنه الواقع
منظوراً إليه نظرة ميثولوجية تجعله رهين إرادة العالم الفوقي.
وإذا
كانت الاستعارة في الكتاب مشابهة للاستعارة اليونانية فإن هذا لا يعني حصر
هذه اللغة الأدبية بدائرة البحر المتوسط الثقافية. إن كل لغات العالم تقوم
على الاستعارة، بل إنها في البداية كانت لغة استعارية صرفة، إلا أننا
نشدنا"العلم" فحاولنا الابتعاد عن هذه اللغة(103) فالاستعارات ليست ذات بعد
أفقي(انتشاري) وحسب، بل إنها أيضاً ذات بعد عمودي(عمقي) فأعظم أنماط
الاستعارة صيغت قديماً، ما يجعل بعض المغرورين بعلومهم الحديثة يتباهون
بأنهم ينأون عن هذه اللغة القديمة، في حين لا يستطيع الكاتب أن يستغني
عنها.
ويذكرنا كلام فراي هنا بمقالة للمازني"الحقيقة والمجاز في اللغة"
(104) يميل فيها إلى الرأي القائل إن اللغة انحدرت من المجاز أولاً، وليس
كما يذهب بعضهم من أنها نشأت من التماس مع المحسوسات والأشياء المادية،
وإنما العبرة في النظرة إلى هذه المحسوسات ذاتها هل هي نظرة علمية أو
ميثولوجية؟ ولو أنها كانت نظرة علمية بمفهومها هذه الأيام، لكنا الآن نحن
الذين"نصنع" الاستعارة ولم نرثها عن الأقدمين وراثة، فالموقف الميثولوجي هو
الأساس في نشأة المجاز في اللغة بشكل عام. وفرق كبير بين أن نعامل
المحسوسات المادية من موقف واقعي وبين أن نعاملها من موقف ميثولوجي. إن
التعامل الميثولوجي مع الواقع هو الذي أوجد الاستعارة، أو اللغة الأدبية
التي تكاد تكون واحدة في كل أرجاء المسكونة.
ومن الاستعارة نشأت
التيبولوجيا. فالاستعارة هي تراث اشتراك لا تراث حكر، فلا يوجد شعب يزعم أن
التعبير الاستعاري عنده لا مثيل له لدى الشعوب الأخرى. فما دام المعتقد
الميثولوجي هو الذي كان سائداً، فإن من البديهي أن تبدأ اللغة بالمجاز لا
بالحقيقة.
أينما وجهنا بصرنا نجد التايبولوجيا التي تنتظم فيها كل هذه
الفروع المتشعبة. وما التايبولوجيا سوى نتاج المعتقد الميثولوجي. فمن
الميثولوجيا نشأ الكون المادي، أو بالتحديد هكذا تصوره الإنسان وفقاً لرؤاه
هو وليس وفقاً لجغرافية هذا الكون المادية. فالكون هو ما يرغب الإنسان أن
يكونه، وليس ما هو كائنه. وهذا ما يفسر لنا ظهور النزعات الفيتيشية
والأرواحية والهيلويزمية(الاعتقاد بأن لكل شيء طاقة حياتية حتى للخشب
والحجر) والطوطمية في فجر البشرية. فالريشة التي رسمت الكون والحياة هي
ريشة ميثولوجية، إنها الأنماط الأولية، إنها الرغائب والدفائن النفسية.
فالحقيقة نابعة من سلالة مجازية، ولذلك تأخر العلم، ولذلك سبقه السحر سبقاً
زمنياً متقدماً جداً. والسحر هو العلم الذي أفرزته الميثولوجيا، والعلم هو
ابنه وقاتله في الوقت ذاته، تماماً مثلما قتل زيوس أباه كرونوس وعزله عن
كرسي الألوهية، وهذا ما عبر عنه أدغار آلن بو في قصيدته"سوناتة إلى العلم":
أيها العلم أنت سليل الزمن القديم
الذي غيرت كل الأشياء بعينيك الثاقبتين،
وافترست قلب الشاعر
يا نسراً جناحاه من مادة الواقع الكئيب،
من سوف يحبك؟ أو يصغي إلى حكمتك؟
ألست أنت الذي أنزلت ديانا من عربتها؟
وطردت جنية الغابات من غابتها
لتبحث عن ملجأ لها في نجمة أكثر سعادة
من كوكبنا؟
ألست المنتزع النيادة(حورية الماء) من طوفانها؟
والمنتزع إيفلين(حورية الربيع) من عشبها الأخضر؟
والمنتزع من قلبي حلمه الصيفي
تحت شجرة التمر هندي؟ (105)
فالعصر
الذهبي في هذه النظرة يقع خلفنا وليس أمامنا كما ترى بعض المذاهب الفلسفية
والاجتماعية. فمن الحقائق الإيمانية انطلقت تصورات البشر وليس من حقائق
مادية، فالحقيقة المادية خاضعة للإيمان، للتصور الميثولوجي.
لقد رأى
فراي في التايبولوجيا أنماطاً أدبية كاملة. فالأسفار هي نتاج الأدب، نتاج
التصور الميثولوجي. وقد رأى أن التايبولوجيا في هذه الأسفار تنحصر في سبعة
أنماط هي الخلق والثورة والشريعة والحكمة والنبوءة والبشارة والرؤيا
الأخروية(الاسكاتالوجيا).
1- الخلق: إن أسطورة الخلق في العهد القديم هي أسطورة ضعيفة، فالخليقة
انحدرت من أب سماوي. وهذا الخلق عبارة عن خلق أدبي، فأشكال الحياة ظهرت
بناءً على منطوق كلامي، فهي لم تصنع من"شيء ما". إنها إرادة كائن فائق.
يسميه الكتاب الأب السماوي.
وحتى يكتمل الخلق لابد من ذكر وأنثى وكذلك
فإن الأم هي دائماً أرضية خرجت من الذكر واستقلت عنه. والخلق هو خلق أبدي،
إلا أن المخلوق يخالف أوامر الأب السماوي، فيكتب عليه العذاب والموت. إلا
أن وجوده مع الأم الأرضية يعوض عن الموت بالولادة الجديدة فأبدية الخلق
اتخذت منحى جديداً، فما دام ثمة موت، فإن ثمة ولادة جديدة. وهذا لا يخص
الإنسان وحده، أو بالأحرى لم يتصوره الإنسان عن نفسه فحسب، وإنما رآه أيضاً
في مظاهر الطبيعة.
فحبة الحنطة التي تموت تحت التراب تطأ الموت بالموت وتعوض عن نفسها بعشرات الحبات الجديدة... وهكذا(106).
وكما أثبت فريزر أن هذا التايبوس(النمط) موجود لدى كل الشعوب، أثبت فراي وجوده في كل الآداب العالمية.
وفي
اعتقادنا أن الأب السماوي يشبه الديمرجوس في الأدب اليوناني الذي تحدث عنه
أفلاطون في محاورته"طيماوس"(107). وفي كل الآداب العالمية نجد أن الخلق
يتم بكلمة، وهذا شيء منطقي، فقبل وجود الشيء لا يمكن أن يوجد شيء، ففي
البدء كانت الكلمة والكلمة هي التي أخذت على عاتقها فعل الخلق، خلق الأكوان
الميثولوجية قبل أي فعل آخر.
إن أفلاطون يسمي الديمرجوس"العلة الفاعلة"
فأي علة هذه التي يتحدث عنها مادام لا وجود لشيء؟ إنها الكلمة، فالفعل
الأول بهذا المعنى هو الكلمة، أي الأدب.
قد تختلف آداب الخلق من شعب إلى
شعب، فعقيدة قدامى المكسيك تتركز حول الإله الذي أوجد الخلق عن طريق زواج
كوني غامض بين الإله وذاته، فالأم الأرضية هنا مندمجة بالأب السماوي(108).
ولو
نظرنا في المخلوقات الأدبية لرأينا أنها في معظمها تعاني من مشكلة الخلق.
فأوديب في لحظة وعي مفاجئة يبحث عن أصله، ومل فلاندرز التي لا تعرف شيئاً
عن أصلها تعشق شاباً وتنجب من أخيه الأصغر بعد أن تتزوجه. وتستمر في
الإنجاب من عدة زيجات إحداها من أخيها، فكأن هذه الرواية تطرح مشكلة الخلق
التي طرحتها الشعوب على نفسها. ماذا يكون هذا من هذا، وما علاقة هذا بذاك؟
وتبدأ رواية"بيدروبارامو" لخوان رولفو، وهي من الروايات الحديثة لأميركا
اللاتينية، على النحو التالي: أتيت إلى كومالا، لأنهم قالوا لي أن والدي
يعيش هنا، إنه شخص يدعى بيدروبارامو. وتقول له أمه: لا تستعطه شيئاً، بل
طالبه بحقنا. طالبه بما كان مجبراً على تقديمه لي ولم يعطني إياه أبداً. خذ
منه غالياً ثمن النسيان الذي تركنا فيه.
ويقول لأمه بأن هذا ما سيفعله
إلا أنه لم يفكر أبداً بتنفيذ وعده... إنها المشكلة الأوديبية ذاتها، مشكلة
البحث عن أب(109). وفي رواية الطريق لنجيب محفوظ، يدور حوار بين البطل
وأمه المحتضرة، تخبره أن أباه لم يمت قبل ولادته، كما كانت تقول له، بل ما
يزال حياً وعليه أن يبحث عنه وهو المجهول الإقامة، مثل بيدروبارامو.
والرواية من أولها إلى آخرها هي"البحث عن أب". وقد طرح نجيب محفوظ هذه
المشكلة الأبدية وهي علاقة الأدنى بالأعلى، وواجب الأعلى نحو الأدنى...
علاقة الخالق بالمخلوق ومكابدة المخلوق من فقدان الخالق أو تذمره من
تجاهله. وتنتهي الرواية من غير أن يعثر البطل على أبيه. فالبحث عن الأصول
والجذور هو أهم الهموم الكبرى للأدب، وعلى الأخص الأدب الدرامي. فالمخلوق
إما أن ينظر إلى ما فوقه باحثاً عن الخالق، أو ينظر إلى ما تحته في علاقة
متشابكة مع ابنه(أو أبنائه). والأغلب أن ينظر الأعلى إلى الأدنى على أنه
ولادة الشر من الخبر، أما الأدنى فهو المستاء دائماً والساخط أبداً. إنه
يبحث عن مكان له تحت الشمس مؤمناً بجدارته وبالأخطاء التي اقترفها الأعلى
بحقه، مما يجعل الطرفين في علاقة ساخطة: لا الأعلى يرضيه تصرف الأدنى، ولا
الأدنى يقنع بما كتبه له الأعلى... إنها مشكلة أبدية. إنه نمط أولي.
2- الثورة(العصيان أو التمرد بكل أشكاله...): عندما دخلت البوذية تعارضت
مع ديانة الشينتو، فما كان من أحد اللاهوتيين البوذيين إلا أن ادعى أن
الكامي(الآلهة المتعددة وأرواح الطبيعة وأرواح الأجداد في عقيدة الشنتو) ما
هي إلا تجليات لبوذا، وبذلك صالح بين الديانتين، وهذا ما لم يفعله الدين
العبري وما شابهه. فهناك دائماً ثورة حقيقية في رفض كل العقائد الأخرى سوى
عقيدتهم الخاصة. والوصية الثانية لموسى هي القرار رقم واحد في برنامج
الثورة، فهي تحرم صنع أي صورة أو تمثال، أي باختصار أنها تعلن الثورة ضد
المعتقدات الأخرى بآلهتها التي جسدها أصحابها بصور أو بتماثيل. وفي
المسيحية جاء:
يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بزوجته"، مما يدل أن هناك
انتقالاً من طور إلى طور، أي أنها بداية جديدة(110). والإيمان في المسيحية
بإمكانه أن ينقل الجبل من هنا إلى هناك.
إنه صانع المعجزات، أي يتمرد على نظام الطبيعة وشكل الوجود.
هذا
العصيان التايبولوجي موجود في كل أدب، منذ ثورة زيوس ضد أبيه وحتى آخر أثر
أدبي حديث. قد تكون الثورة صاخبة مثل ثورة دون كيشوت أو ثورة صهري الملك
لير، وقد تتم بصمت ثقيل مثل مأساة الأب غوريو. ومل فلاندرز دائماً هناك
احتجاج على ما هو قائم. وقد يستسلم البطل للواقع بمعنى أنه لا يريد أن
يواجهه, وهذه ثورة سلبية، فبطل سارتر في رواية"الغثيان" يمثل ثورة من هذا
القبيل، الثورة الصامتة. وما هذه الثورة سوى نشدان المزيد من الحرية، ففي
مسرحية"الذباب" يدفع سارتر أورست إلى مواجهة جوبيتر وإعلان ثورته في وجهه:
جوبيتر: ألست ملكك أيها الدودة الوقحة؟ من خلقك إذن؟
أورست: أنت ولكن كان ينبغي ألا تخلقني حراً.
جوبيتر: لقد وهبتك الحرية لتخدمني.
أورست: ربما ولكنها انقلبت عليك، فنحن، أنت وأنا، لا نستطيع شيئاً.
جوبيتر: وأخيراً هذا هو العذر.
أورست: لست أعتذر. (111).
وفي
لقاء بين جوبيتر وايجست يقول الأخير: منذ حكمت كانت كل أفعالي وكل أقوالي
تهدف إلى تأليف صورتي. أريد من كل فرد في رعيتي أن يحملها في نفسه، وأن
يشعر حتى في وحدته، بنظرتي القاسية تجثم على أشد أفكاره خفاء. ولكني كنت
أنا أول ضحاياي، إذ صرت لا أرى نفسي إلا كما يرونني، انحني على بئرا
أرواحهم الفاغرة. رأيت صورتي هناك، في أقصى القعر تنفرني وتسحرني، فيا أيها
الإله القدير، من أنا إن لم أكن الخوف الذي ألقيه في نفوس الآخرين؟
والمعلوم إن هذا الكلام كان رداً على كلام جوبيتر: فأنت ترى حقاً أننا متشابهان(112).
وما
ظهرت شخصية الابن في أثر أدبي إلا كان له هذا الموقف. إنه شبيه أبيه من
جهة والمتمرد عليه من جهة ثانية. إنه يريد أن يستقل فيأتي بكل الحجج التي
تناهض أباه، لكنه يفعل فعل أبيه: توطيد نظامه الخاص الذي لا يختلف، في
النهاية، عن نظام أبيه. لقد تمرد كرونوس على أبيه أورانوس، ولكن نظامه
الوطيد لم يكن مقبولاً أيضاً من أخلافه، فعمد إلى قمعهم، إلى أن ينجح زيوس
في طرده عن عرشه. وبعد أن لقنه درساً يهبط إلى الأرض تائباً ويؤسس في
إيطاليا"العصر الذهبي". أليس هذا العصر من أحلام الفاشلين والمطرودين؟ لم
يكن كرونوس ليفكر في إقامة الفردوس الأرضي لو لم يكن مطروداً منبوذاً.
يستلم
زيوس العرش فيقيم نظامه هو الآخر. وتأتيه وشاية أ بروميثوس يعرف خليفته
الذي سيثور عليه، فيطالبه بالبوح فيرفض، فيصمت زيوس على مضض، وينتظر الفرصة
السانحة التي يراها في سرقة بروميثوس النار وتقديمها للإنسان، فيحكم عليه،
بموافقة البقية من أنصاره، بالصلب على جبل القفقاس تحت هذه الذريعة،
خافياً السبب الحقيقي لحنقه، مسلطاً نسراً على كبده ينهشه نهاراً فينمو
ليلاً، حرصاً على حياة بروميثوس، حتى لا يموت السر بموته.
إن كل ابن
يسعى إلى توطيد نفسه(113). وفي عمله هذا تكمن الثورة، أو الاحتجاج على أقل
تقدير. ومن هنا كان الأدب، كما يقولون، احتجاجاً على الواقع القائم، بل إن
هذا الاحتجاج هو المحفز الأكبر للإنتاج الأدبي.
3- الشريعة أو النظام: يرى فراي أن الشريعة أعقبت الخروج من مصر مباشرة.
فبنزول موسى من طور سيناء نزلت معه الشريعة أو القانون أو النظام الذي يجب
أن يسير عليه العبريون. وأضيفت على القانون هالة من القداسة تعادل القداسة
التي يتمتع بها قانون الطبيعة، بل أكثر. لقد احترم الناس قانون الطبيعة
لاعتقادهم أنه قانون إلهي، فلابد من أن تكون القوانين البشرية في مستوى
قوانين الطبيعة لتنافسها من جهة وتتفوق عليها، وتكون نافذة من جهة ثانية.
وحتى يضفوا على القانون هالة القدسية مارسوا العقاب الفظيع على من يخالفه
حتى إن مرتكب الإثم يعاقب بالحرق مع كل عائلته ونسله وإن كانوا أبرياء(يوشع
7)، كما مارسوا الخوارق. والخوارق لا يختص بها إلا الملتزمون بالقانون
والذين يخدمون النظام بثقة وإخلاص. وبهذا يكونون قد ضمنوا احترام الشرائع
البشرية، فقانون الطبيعة لا يعرف الخوارق ولا المعجزات، مع أنه فعل سماوي.
قانون البشر فقط هو الذي يقوم على الخوارق. ولهذا يرى فراي أن العلم أسرع
تقدماً في البلدان التي تتعدد عقائدها، من البلدان التي تمكث عند عقيدة
واحدة، وقد كانت اليونان سباقة إلى العلم، وبالتالي إلى القانون
المدني(114).
والذي نراه أن النظام البشري كان دائماً في حالة عوز إلى
المقدس. فانقسام الأجناد السماوية إلى قسمين متحاربين، قسم فاز بالجنة،
وقسم اندحر إلى جهنم، إنما هو تصوير مجسم لما يجب أن يكون عليه عالم البشر.
إن المدينة المقدسة أورشليم تقابلها مدينة الشيطان"بابل" وعندما تنصرت
الإمبراطورية الرومانية صارت روما هي المدينة المقدسة.
وتكون المدينة
المقدسة حيث يكون أصحاب الميثاق المقدس أو النظام المقدس أو الشريعة
الإلهية. والقانون الاجتماعي دائماً يستنجد بالمقدس من أجل توطيد ذاته
وضمانة استمراره(115).
ما دور الأدب في كل ذلك؟ ألم يسهم في إنشاء
المقدس؟ ألم يتمرد في وجه النظام الوحداني الذي يرفض التعددية؟... ألا نرى
شيئاً من التناقض في أن الأدب ينشئ الأشياء ويتمرد عليها؟
المقدس الذي
نشأ من أعماق الدنيوي واعتلى عليه، إنما غرضه خدمة هذا المخلوق البائس.
فالأسطورة انبثقت لا عن عبث بل عن هدف وهو جعل الإنسان قادراً على التلاؤم
مع البيئة. والأدب هو استمرار لهذا العمل غرضه خلق نظام متوازن بين الكائن
والطبيعة. انتيغوني عندما تعصى أوامر الملك كانت تطيع قانوناً تحدر من رحم
الأسطورة وهو أن الأموات يجب أن يدفنوا، لأنهم إن لم يدفنوا، وبقيت أجسادهم
في العراء، فلن يتاح لهم الصعود إلى مركب خارون، ولا عبور نهر أخيرون
لدخول العالم الآخر. والأجساد التي لم توار في الأجداث تظل أرواحها هائمة
على شاطئ النهر إلى أن تدفن فيسمح لها عندئذ بالعبور. فالقانون ذو منشأ
بعيد، منشأ أسطوري، إلا أنه يرمي إلى غاية أخلاقية. وكل عقائد الشعوب تقوم
على دفن الجثث أو حرقها. ولو لم تظهر مثل هذه القوانين المقدسة، لواجه
الإنسان كثيراً من الأوبئة التي تنشرها الجثث غبّ تعفنها.
وهنا لابد أن
نشير إلى نقطة في غاية الأهمية، وهي أن الأدب يسهم في إنشاء المقدس مادام
المقدس يعمل على خلق التوازن بين البشر وإتاحة المزيد من الحرية لهم. ولكن
عندما تنقلب الشريعة إلى طغيان، إلى قانون يرفض التعامل مع بقية الفعاليات
الفكرية، فإن الأدب لا يسكت عن ذلك. ولو نظرنا في العصور الوسطى وقارنا
بيننا وبين أوروبا لوجدنا البون شاسعاً في هذا المجال. لقد وقعت أوروبا
الوسطوية أسيرة عقيدة كنسية غربية قمعية تأبى التعامل مع الرأي الآخر، في
حين تفاعلت ثقافتنا الإسلامية مع كل الثقافات الأخرى فأنتجت وأبدعت. وكان
على أوروبا أن تنتظر عصر النهضة حتى تتخلص من هذه الشريعة القمعية.
ولكن
كيف حدثت النهضة؟... لقد حدثت عندما عاد الأوروبيون إلى الفكر اليوناني
لأنهم وجدوا فيه شريعة تبيح لهم من الحرية مالا تبيحه قوانينهم"المقدسة"،
أي أنهم فعلوا ما سبقهم إليه العرب بمئات السنين، بل إنهم اعتمدوا في ذلك
اعتماداً كبيراً على العرب وجهودهم في هذا المجال.
والنهضة الأوروبية هي في صميمها نهضة أدبية، بكل ما تعنيه كلمة"أدب" اللاتينية من معنى وشمولية.
الأدب
هو تلك الفعالية التي يبذلها الإنسان من أجل وضع قانون أخلاقي يبيح له
المزيد من الحرية الفردية والاجتماعية الراقية. وعندما تبلى القوانين يظهر
المتمردون في الأدب الذين يخرقون هذه القوانين، والذين يتمسكون بالوظيفة
الأسطورية لا عادة التوازن بين النظام الاجتماعي والنظام الطبيعي. دون
كيشوت ثار على النظام الجديد المذل للإنسان الذي يهدر كرامته، وسعى إلى
إعادة نظام الفروسية الذي يرفض الغدر والقتل غيلة والابتزاز وإهدار
كرامة"الليدي". لقد أدرك أن النظام الساري هو نظام فردي يقوم على الحيازة
والأنانية ويستخدم أنذل الطرق من أجل بناء مجد زائف يقوم على آلاف الجماجم.
سانشو
بانزا كان أكثر عقلانية من دون كيشوت. فعندما يمنح مقاطعة ويعين حاكماً
فيها يذهل الجميع بقوانينه التي تسمح بالمزيد من الحرية مع الضبط
الاجتماعي. فتكييف القانون خير من إلغائه وإحلال القديم محله. ولكن كل هذه
المحاولات ترمي للوصول إلى القانون المقدس، أي إلى القانون المثالي الأعلى.
وهذا ما بينه دانتي في الكوميديا الإلهية، فأظهر أن الارتفاع إلى هذا
القانون يستوجب حكاماً بعيدين عن الغرضية والاستبداد.
4- الحكمة: يتألف الكتاب المقدس من ثلاثة أقسام: الشريعة والحكمة
والنبوءة(116). ويرى فراي أن الحكمة ذات معنيين: الأول هو أن الحكيم يسير
في الطريق القويم الذي سبق توطيده من الأسلاف بعد تراكم خبراتهم، والثاني
هو المتابعة، أي الحفاظ على هذا الطريق القويم في المستقبل. والحكمة التي
تواجه المستقبل تسمى الحصافة(برودنس) كما جاء في سفر الأمثال(8: 12)
والحكمة تستوحي الشريعة والطبيعة والتأمل في الحياة. فحكمة الجامعة"لكل شيء
أوان" تعتمد دورة الطبيعة ودورة اليوم الشمسي. فلا يوجد شيء إلا بأوانه،
ولهذا جاء الشتاء في أوانه والربيع في أوانه... فلا يعقل أن يشذ شيء عن
دورة الطبيعة هذه طالما أنه مشمول بالطبيعة. وقد ظهر ارتباط الحكمة
بالقانون المقدس في مصر قبل العبريين بزمن طويل. فالإرشادات في كتاب الموتى
هي حكم تأخذ النظام المقدس بعين الاعتبار. كذلك نجد لدى المصريين حكمة
فردية تتعلق بالحياة وأساليب العيش، وهي نابعة من التجربة البشرية. ويؤكد
فراي أن حضارات الشرق الأدنى قد عرفت الكثير من الحكمة التي لم تقتصر على
المصريين وحدهم. ليس هذا وحسب بل إن بعض الأمثال-والمصرية على وجه الخصوص-
قد ظهرت كما هي في الكتاب المقدس. فأسفار: الأمثال والجامعة وحكمة ابن
سيراخ تمثل ثقافة متوسطية ناضجة، والسورة العاشرة في القرآن ملأى بالحكم
الرفيعة(117). وفي الضفة الأخرى للمتوسط تطالعنا حكم أيسوب المستخلصة من
التجربة المباشرة في الحياة..
والحكمة ليست بنت العفوية. إنها التأمل
المتأني في التجارب المتكررة التي تتكرر كما تتكرر دورة الطبيعة. إنها
لصيقة بممارسات البشر. وحتى الحكمة التي تحافظ على النظام المقدس تنظر في
حياة البشر لتذكرهم بالقانون الأمثل من أجل تحقيق حياة بشرية متوازنة. وحتى
هذا القانون"الشريعة" كان يراعي دائماً نظام الطبيعة، فلا وجود فيه لأمر
يناقض دورة الطبيعة.
وقد اتخذت الحكمة منحى خاصاً عند الإغريق،
فالفيلسوف هو"محبّ الحكمة"، وقد جعلهم شغفهم بالحكمة أول الفلاسفة في
العالم. وتحتل الحكمة في الأدب حيزاً كبيراً جداً. فدائماً نجد الآثار
الأدبية تلح على"الشخصية الحكيمة" مقابل لفيف من الحمقى والمتسرعين.
ومنذ
أدب أيسوب وحتى اليوم نواجه في الأدب بؤرة الحكمة في بيئة مشوشة. وأدب
أيسوب، هو باختصار أدب المقابلة بين الحكمة والحماقة. إنه تقليد أدبي لا
يستطيع أديب تجنبه. فالأديب ضد الحماقة، يسخر من أبطالها وممثليها ويرفع من
قيمة الحكمة ويبين سلامة نتائجها. في مسرحيات موليير نلاحظ أن الحبكة
المسرحية كلها تدور حول الحماقة، كما في"النساء المتحذلقات" وكما في"مريض
بالوهم" أو البرجوازي النبيل" ... ويربط شكسبير الحكمة بالتجربة، أو
بالأحرى بالمعاناة الإنسانية. وعنده أن من الممكن تبادل المواقف أو عكسها،
فمكبث مثلاً حكيماً يعرف لغة السلطة، إلا أن زوجته بحماقتها تدفعه إلى
الانحراف عن حكمته والانجراف إلى اقتراف"فعل أحمق" فتقع الكارثة. ولو كان
في رأس عطيل شيء من الحكمة لقد أقدم على قتل ديدمونة. فالحكمة رفيقة التأني
وذات نفس طويل. إنها تعمل على الموجة الطويلة، عكس الحماقة المتسرعة
الطائشة الرعناء، البعيدة عن التأمل العميق. وعلى هذا فإن هاملت أشد حكمة
وحصافة من مكبث. إنه لا يقدم على فعلته إلا بعد أمد طويل من التحقق
والاختبار. وفي الأدب العربي احتلت الحكمة مكانة رفيعة حتى أُفرد لها بابٌ
خاص هو"باب الحكمة والاعتبار". وأي أدب لا يلتزم بالحكمة يسقط وينبذ.
على
أن الأدب انتبه إلى ما نسميه"الحماقة الجماعية" وهي نمط الحياة المشوشة.
فالحماقة في"أوديب" لا تصدر عن فرد بعينه وإنما تصدر عن العلاقات
الاجتماعية التي تعاني من خلل كبير، ولذلك تحدث المأساة.
وبهذا الصدد
نشير إلى الكتاب الشهير الذي ظهر في عصر النهضة، وهو كتاب"تقريظ
الحماقة"لاراسموس، فقد عمد بأسلوب ساخر أخاذ إلى امتداح الحماقة وإظهار
فضائلها الكبرى فلولا الحماقة لفني الجنس البشري، فالحماقة هي التي تدفع
المرأة إلى الحمل والولادة مع أنها تعرف سلفاً ما ستكابده من ألم وعذاب،
وهي التي تدفع الرجل إلى الإنجاب مع أنه بإنجابه يقضي على سعادته، والحماقة
هي التي جعلت الناس تنساق وراء رجال الدين، فيقبلون منهم صكوك الغفران،
ومحاكم التفتيش، ولولا حماقة الناس لما كان ثمة كهنوت يفعل ما يفعل والناس
تؤمن وتصدق. ثم إن الحماقة هي التي جعلت الناس يتأنقون وينفقون الأموال
الضخمة على زينتهم ولولا ذلك لما أعجب شاب بفتاة ولا نظرت صبية إلى ذكر
غندور. والزينة التي يصطنعها الناس لا هدف لها إلا الغش والخداع، ولولا
حماقة البشر لما وقعوا فريسة الغش والخداع. الأغنياء والمستغلون ورجال
الدين والتجار والصناعيون والباعة المتجولون يعتمدون على حماقة الناس التي
لولاها لقضي عليهم وعلى أسباب رزقهم. والحماقة هي التي تدفع المسكين إلى
الإيمان بما يقوله رجل الدين والغني والتاجر. والحماقة هي التي تدفع الأب
إلى الكدح من أجل ابن عاق أو زوجة ناشزة، ولو ظهرت الحقيقة لكانت شراً
وبيلاً على الجنس البشري. والحماقة هنا تلعب دوراً عظيماً في طمس الحقائق.
فهي التي جعلت الناس تؤمن بأن العذراء يمكن أن تحبل، وأن الله تعالى يختار
شعباً بعينه دون سائر الخلق...
بهذا الأسلوب الساخر والساحر يقدم
أراسموس حكمة بالغة غرضها كشف الممارسات البشرية المخالفة للعقل والمنطق،
وفضح رجال الدين في تلك الأيام، وقد كان الكاتب نفسه واحداً منهم يعرف
الخفايا والأسرار التي تدور في الأديرة والمؤسسات الدينية. أليس من الحماقة
أن يقبل الناس أبناء الكهنة من غير تسمية أمهاتهم؟
5- النبوءة: يرى فراي أن النبوءة في الكتاب هي نظرة استيعابية تحيط
بالزمن الكلي، منذ الخلق وحتى القيامة. أنها لا تقف عند حدود الحكمة بل
تتجاوزها. إنها مستقبلية أكثر من الحكمة التي غالباً ما تكون"خلاصة" لتجارب
الماضي. وعندما تنظر إلى المستقبل فإنها لا تنظر بعين المخيلة الإبداعية
التي للنبوة، بل بعين الماضي المتكرر(118). والنبوة ليست خاصة بالكتاب،
ففراي يشير إلى مقطع من صموئيل الأول 10: 5-6 وهو:
سوف تصادف زمرة من
الأنبياء نازلين من المرتفع وأمامهم ربابة ودف وناي وقيثارة وهم يتنبأون،
فيحل عليك روح الرب فتتنبأ معهم وتتحول إلى رجل آخر.
فالكتاب المقدس
يتابع ما كان عليه الناس في تلك الأزمان ولم يذم الأنبياء الكذبة الذين لا
يتمتعون بالمخيلة الإبداعية التي تتلقف كلمة الرب، فتدرك المصائر قبل أن
تقع. وهناك اتفاق على أن النبي يتمتع بقدرة فائقة في المخيلة ، سواء عند
العبريين أو عند غيرهم.وعرافة دلفي في اليونان كانت مرجعاً يلجأ إليه الناس
في معرفة مصائرهم.
لسنا بصدد التفريق بين النبوة والكهانة، فقد تجتمع
الوظيفتان، وقد تفترقان. لكن النبوة كانت في القديم ملازمة للمعابد. ولكن
لابد أن نشير إلى أهم صفات النبي وهي الإيمان والجرأة والترميز، فكل نبي
لابد أن يؤمن بصدق نبوته، واندماجه بها اندماجاً كاملاً، ولابد أن يكون
جزئياً يرمي نبوته في زحمة الطرقات، كما يلقيها أمام الملوك، غير هياب من
سطوتهم وسيفهم. إلا أن النبوات لا تكون دائماً واضحة كل الوضوح، بل قد تكون
على شيء من الغموض، فيعمد النبي إلى الرموز التي تنقل إحساسه أو تجسده
بأقرب ما يكون إلى غرضه.
في مصر وبابل، في الهند واليونان، في كل مكان نجد انتشاراً كبيراً للنبوات كنوع أدبي.
إن
مسرحية أوديب تبدأ، من حيث البناء الدرامي، بنبوة يتلقاها لايوس وهي أنه
إذا رزق ببكر ذكر فإن ابنه سوف يقتله ويتزوج امرأته، ولكن إذا كان البكر
بنتاً فإن عمره يطول وحكمه يوطد.
والساحرات في"مكبث" أقل صراحة وأكثر
ترميزاً في نبوتهم من النبوة التي تلقاها لايوس. وفي مسرحية"يوليوس قيصر"
تبصر كالفورنيا زوجته حلماً مفزعاً يتكرر عليها كأنما يحذرها، فتهيب بزوجها
ألا يذهب إلى مجلس الشيوخ. وكان العراف قد سبق هذه الزوجة، إذ من الفصل
الأول يحذر قيصر من يوم الخامس عشر من آذار. وفي الفصل الثالث يهزأ قيصر من
العراف وهو في طريقه إلى مجلس الشيوخ، فيقول له: ها قد حل الخامس عشر،
فيرد العراف: ولكنه لم ينته.
والنبوة قائمة أصلاً في صميم العمل الأدبي.
فمنذ البدء يفكر الكاتب بالمآل. ووفقاً لهذا المآل يوجه عمله، فكأنه يمارس
نوعاً من النبوة. إن الكاتب هو أول المطلعين على نبوة العمل الأدبي، وقد
يمارس نوعاً من التحاليل ليجعل بعض المنعطفات مفاجئة. فسوفوكليس يعرف قبل
غيره مصير أوديب ولكنه يقوم بلعبة فنية تفرضها التقاليد الأدبية. ولا فرق
بين فنجان قهوة نزار القباني وساحرات مكبث، فالعمل الفني يستلزم مسبقاً
العمل النبوئي.
وتكثر النبوات في الأزمات القومية وفي الظروف العصبية. وتلعب الانتماءات القومية دوراً كبيراً في هذا المجال.
6- البشارة: البشارة، في رأي فراي، هي توسيع للرؤيا النبوئية. والبشارة
الكبرى هي البشارة بعودة الفردوس المفقود. والبشارة هي عكس النذير.
إنها"خبر سار" وأعظم الأخبار مسرة هو خبر استعادة الفردوس. والنذير ينبئ
بأشياء سيئة، لكن النذير الأسوأ هو الذي"يبشر" بالنار والمصير الجهنمي.
وبهذا يكون الخبر السار الحقيقي هو ذاك الذي يبشر بالولادة الروحية
الثانية. فالنذير يبنى على الخطيئة، والبشارة تبنى على النقاء الروحي.
والملاحظ
أنه خارج السياق الميثولوجي لا معنى للنذير ولا للبشارة. وفي العصور
الوسطى صنفت الخطايا المميتة التي ترمي النفوس في الجحيم كمايلي: الكبرياء،
والغضب، والكسل والحسد والبخل والجشع والشهوة. والخطيئة هي الوقوف في وجه
الأمر المقدس، أي نظام الطبيعة وهي -أي الخطيئة- مصادرة للحرية الإنسانية،
سواء حرية الفرد نفسه أو حرية جاره. إن الخطيئة ليست إساءة إلى الآخرين
وحسب، بل إنّها تسيء أيضاً إلى الخاطئ نفسه، فتسد عليه طريق الفردوس وتنذره
بعذاب الجحيم (119).
ولكننا نلاحظ أن البشارة (والكلمة يونانية وتعني
الخبر السعيد). تكاد تكون مختصة بالمساكين والمظلومين. وعندما تأتي البشارة
إلى الملك فإنها تعني "النصر" على الأشرار والكافرين. فالمعنى الأخلاقي
موجود دائماً في سياقها. ويحمل إلينا القرآن أعظم بشارة أخلاقية وهي بشارة
لأولئك الصابرين على ضيم الحياة الدنيا. إنها تعدهم بالفردوس الأبدي،
وبالمتعة الروحية وبحياة المسرة.
وفي التعاليم المسيحية تقوم البشارة
(الإنجيل) على رواية الميلاد والتجربة والموت، وعلى القيامة، وسواء ظهرت
البشارة في الميلاد أو التجربة أو الموت فإنها تعني النهاية السعيدة أي
البعث أو الولادة الثانية التي تعقب الموت.
هذه البشارة التي تقف إلى
جانب المضطهدين والمعذبين والمظلومين، نجدها بكثرة في الآداب العالمية، منذ
حمورابي وحتى آخر قصة حديثة، أو آخر مقطوعة شعرية طازجة، فالبشارة تقوم
بعملية فرز أخلاقي، أبدع القرآن في تفصيله ووصل الغاية في التحديد، حتى أنه
بشر الذين يكنزون الذهب والفضة بعذاب جهنم، فالعبد (الإنسان) لا يحق له أن
يحجب ثروته عن بقية العباد، وإن جمعها بالطرق المشروعة، فالقرآن يلاحق
الأغنياء حتى وإن لم يقترفوا إثماً سوى احتجاز الأموال وعدم تشغيلها ل