04 مارس 2015 بقلم
محمود كيشانه قسم:
الدراسات الدينية حجم الخط
-18
+ للنشر:جورج شحاته قنواتي عالمٌ وراهبٌ دومينيكاني، ولد بالإسكندرية في السادس من يونيو 1905م، وتوفي في الثامن والعشرين من يناير 1994م. يعد قنواتي أحد رواد الحياة الفكرية في الوطن العربي، لما أخرجه لنا من إنتاج ضخم في الفلسفة والعلوم. قنواتي، الذي يمثل إحدى القامات الفكرية المصرية، كان معنيًا في بداية حياته العلمية بدراسة الصيدلة والكيمياء لمدة تربو على الخمس سنوات؛ قبل أن يتجه إلى دراسة الفلسفة واللاهوت، ويحصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة واللاهوت. وقد انضم قنواتي إلى جماعة الدومينيكان في كل من فرنسا وبلجيكا ومصر، حتى صار مديرًا لمعهد الدراسات الاستشراقية التابع لدير الدومينيكان بالقاهرة(
[1]).
لم يرد جورج قنواتي في نهجه الحواري أن يكون المواطن - أيًا كان معتقده - واقفًا محلك سر من حضارة وطنه الفكرية تحت مظلة التعلل بالخوف من الآخر القريب والمجاور، أو تحت تأثير هاجس نفسيّ قد يكون صنعه لنفسه يجعله أثير فكرة مزعومة قوامها ظلم الأغلبية؛ بل كان مؤمنًا بأن الحوار أيسر السبل لتحقيق السلم المنشود بين الأمم والأوطان. ومن ثَمَّ، كانت جهوده العلمية في علم الكلام والتصوف مثلاً.
ويؤكد عاطف العراقي على ذلك النهج مستندًا إلى ما يقوله الأب قنواتي عن تراث الإسلام وأثر التصوف الإسلامي على الغرب من أن هناك أمرين يدخلان في هذه الناحية، يدلان بالأحرى على حوار راق بين الأديان قبل أن يكون حوارًا راقيًا بين الأمم(
[2]): الأول يتناول المصادر الإسلامية للكوميديا الإلهية التي بيّنها العلامة الإسباني الكبير المتخصص في الإسلاميات ميكيل آسين بلاثيوس، ثم ألقى عليها الضوء مجددا عندما قام شيروللي بنشر كتاب المعراج. والأمر الثاني هو فكرة الحب الرفيع الذي يمكن أن يربط بالحب الأفلاطوني وعند العرب يسمى الحب العذري الذي عرف في القرون الإسلامية الأولى، ويمكن ربطه كذلك برسالة صغيرة كتبها ابن سينا عن الحب، وسمّاها رسالة العشق.
فضلاً عن أن رسالة الدكتوراه التي حصل عليها الأب قنواتي تمثل مظهرًا من مظاهر الحوار بين الحضارات والانفتاح على الآخر، فقد كانت بعنوان "مفهوم الخلق بين ابن رشد وتوما الأكويني"، حصل عنه على درجة الدكتوراه من جامعة مونتـريال عام 1948م.
وفي عام 1944م، عيّن الأب قنواتي أمينًا عامًا لمكتبة معهد الدومينيكان للدراسات الشرقية، وما لبث أن صار مديرًا للمعهد. ويقيني أن رئاسته للمكتبة ثم المعهد كانت العامل الرئيس في التطور الفكري الذي انتاب الأب قنواتي، والذي من خلاله أقام أسسه الفكرية والمنهجية؛ وأهمها تسامحه الفكري وانفتاحه على الآخر. والدليل على ذلك المنحى هو أنه بعدها أقام جسورًا من التواصل بين المعهد وجامعة الأزهر، وبين المعهد ومجمع اللغة العربية. ونتيجة لجديته في الحوار بين الأديان من خلال لقاءاته وكتاباته، استعانت به جامعة الدول العربية في مجال الفلسفة واللاهوت.
فقد كانت تلك الجهود قوامها مؤلفات فلسفية وحضارية، وتحقيقات علمية وفلسفية، ومقالات في الفلسفة الإسلامية في أغلب فروعها، وندوات ولقاءات علمية عن التحاور بين الأديان، ومؤتمرات محلية ودولية.
وقد أقام الأب قنواتي حواره الحضاري بين الإسلام والمسيحية على أساس من الاتفاق في الموضوعات الآتية(
[3]):
- الله واحد.
- الله حي قيوم.
- الله خالق السماوات والأرض.
- الله محب البشر.
- الله ذو الغفران والرحمة.
- الله هو الحميد المجيد.
- الأنبياء يرسلهم الله.
- الله يحيي الأموات ويرضي الأنفس.
- الإنسان والعبادة.
- الإنسان واعترافه بحقوق الله.
ومن ثم، يمكن القول إن الأب قنواتي قد قدّم مدرسة في الحوار بين الأديان انضم إليها العشرات من المؤمنين بضرورة التواصل بين الآخر عقديًا؛ وربما أكبر دليل على ذلك هو إنشاء مؤسسة جورج قنواتي، تلك المؤسسة التي تحاول أن تسير على درب الرجل وتتمثل خطاه، فتحاول أن تبني جسورًا من التواصل مع الآخر.
ومن هذا المنطلق، دافع قنواتي عن الإسلام وبقية الأديان دفاعا مجيدا. وفي أحاديثه المدوية عبر القرطاس والقلم، كان الرجل مثالا للصمت، صمت العالم، وللتواضع تواضع الحكيم؛ فلم يبحث عن الأضواء أو الشهرة، رغم أن مؤتمرا علميا عالميا عبر نحو خمسين سنة لم يخلُ من وجود اسمه مشاركا ومحاضرا.(
[4])
وعلى الرغم من أن هناك مؤسسات مشهود لها بالحوار بين الأديان سيرًا على درب الأب قنواتي، إلا أن منها ما وقع في الفخ في بعض الأحيان، كأن تقوم بتبني شخصية غير متفق عليها في البيئة الإسلامية أو القومية، وتعمل على إبرازها وتتولاها بالاهتمام، فليس من المستحب بعدها أن تنشر مؤسسة دينية كتابًا ما لشخص غير متفق عليه في المسيحية أو الإسلام تحت مظلة الحوار بين الأديان؛ لأن هذا العمل سيكون، حينها، ضربًا للحوار في مقتل، بل يؤجج مشاعر الحقد والكراهية تجاه الآخر.
وتعد أهم مظاهر الحوار التي أبداها قنواتي في حواره بين الأديان، كتابه القيم "فلسفة التفكير الديني"، الذي عقد فيه مقارنته بين علم الكلام الإسلامي وعلم اللاهوت المسيحي؛ بيد أنه يمكننا تفسير ذلك العمل بأن الأب قنواتي كان يريد أن يقيم حوارًا بين علم الكلام الإسلامي وعلم اللاهوت المسيحي، بحيث يبيّن ما بينهما من تلاق، فربما اعتمد الرجل على ما يؤيد هذا التلاقي، فاستند إلى ما استند إليه من المفكرين المسلمين عارضًا عن بعضهم؛ إما لأنهم ليسوا على درجة هذا التلاقي، وإما لأن جهودهم تتشابه مع جهود آخرين تم اللجوء إليهم.
وعلى الرغم من أن الأب قنواتي قد قدّم الاعتذار عما تبدو عليه بعض نتائجه من الطابع العابر المؤقت فإن هذا لا يعفيه من العذر، حيث فاتته بعض النصوص الواجب عليه إيضاحها بسبب تركيزه على النزعات البارزة في علم الكلام بما كان عليه تدريسه في الجوامع الكبيرة. ومن ثَمَّ، قدم عمله على أنه مجهود بذل لإدراك العقلية الإسلامية، من الباطن أكثر من كونه عمل موسوعي. وبناء عليه، فقد اعتمد أساسا على نصوص الكتب المدرسية الكبرى المستخدمة في التعليم آنذاك؛ إلا أن هذا الأمر لم يمنعه من أن يضيف إليها بعض المصنفات التي لا تزال مخطوطة أو في طور النشر بمقدار ما كانت هذه المصنفات مؤثرة في عصرها والعصور التالية له.
ومع ذلك، فأنا أرجو أن يستفيد من منهجية الأب قنواتي في الحوار مدّعو الحوار والتواصل مع الآخر؛ فلقد أفرزت لنا الثورة أسوأ ما في العقلية الفكرية العربية قبل العقلية العادية. لقد وجدنا حربًا ضروسًا بين المنتمين إلى الفكر العلماني والمنتمين إلى الفكر الديني، حيث ظل كل منهما - إلا القليل - على جمود وصلابة موقفه الذي لا مرونة فيه، بدعوى أن التنازل عن الموقف وعدم الجمود عليه فيه تنازل عن المذهب الفكري الذي يدين به دون مراعاة لقيمة الوطن الذي يترنح والوطنية التي صارت في مهب الريح.
كما أرجو أن يستفيد من هذه المنهجية دعاة الحوار الحقيقيون الذين قد تخونهم بعض مواقفهم؛ فتكون سبيلاً إلى التنافر بدلاً من التواصل، وسبيلاً إلى الاحتقان دون أن تكون سبيلاً إلى المودة والمحبة اللتين أمرت بهما المسيحية والإسلام. قد ترتضي مؤسسة ما مبدأ الحوار وتسعى فيه، إلا أنها قد تخطئ في اختيار ممثلي الحوار، فتختار إحدى الشخصيات التي تزيد الاحتقان وتضرب مبدأ الحوار في مقتل، فتوأد لغة الحوار قبل أن تبدأ، أو اختيار بعض القضايا الشائكة في عقيدة ما يدور حولها الحوار. ويمكن القول إنه ليس معنى إزالة المخاوف من الاقتراب من الآخر أن أزيد من حدة الاحتقان معه دون أن أدري؛ لأننا، حينها، وإن كنا نحاول أن نسلك مسلك قنواتي في التقارب الشامل والاعتراف بالتعددية في المجتمعات فإننا بذلك نكون قد سرنا عكس اتجاهه، لأن المخاوف من الاقتراب حينها لن تزول، بل تزيد المخاوف ويزيد الشقاق.
بل إننا لنرى أن طموح الأب قنواتي، في كتابه سالف الذكر، كان أكبر من مجرد دراسة لعلم الكلام؛ فقد أراد أن يربط علم الكلام بالثقافة العالمية، إذ إن مهمة إدراك قيم الثقافة الإسلامية من خلال علم الكلام مهمة قد تطرق إليها غير باحث. ويعترف الأب قنواتي بأن هذا العمل أدى إلى عمل في منتهى الدقة أسفر عن تمحيص المواد وتدقيقها مدينًا لهذا العمل بالفضل الكبير؛ "لكن الواقع أن الحوار لم يقم إلا قليلاً بين الثقافة الغربية - مسيحية كانت أم مجردة من مسيحيتها - والثقافة العربية الإسلامية، على أنه أمر يقتضيه كل شيء، - فيما ندر - فهناك القرب في المكان بل هناك أيضًا - فيما يختص بالبلدان الإسلامية المنتشرة حول البحر المتوسط، التوالي التاريخي على الأرض ذاتها، ومواطن الملاقاة، وحتى الحروب الكبرى في الماضي، ولا يجوز أن ننسى المعاني المشتركة المستمدة من إلهام ديني سام، وموردًا مهمًا أخذه الطرفان من مفكري اليونان القدامى، ولو إذا هذا الأخذ أخذًا مختلفًا في الامتداد بقدر ما كان مختلفًا في الشمول".(
[5])
وهذا يوحي لنا بقدر من الأهمية بمكان، وهو أن لغة الحوار عند الأب قنواتي هي لغة تبحث في الأساس عن القيم في علم الكلام وعلم اللاهوت والمقارنة بين القيم الذي يقدمها العلمان في إطار حواري تقاربي يؤسس لتعايش سلمي مشترك.
وأيًا ما كان الأمر، فإن مهمة الأب قنواتي لم يكن ليكتب لها أثرًا في تاريخ العلاقة بين علم الكلام وعلم اللاهوت ما لم يحاول – وهو ما حاول فيه بالفعل - أن يرسم الوجه الذي كانت عليه أجوبة المسائل في العلمين، خاصة وقد أبرز المنهجيتين فيهما؛ وهو ما حاول جهده إبرازه ومعالجته. وإن منهجية الأب قنواتي، في عرضه وتحليله لنشأة علم اللاهوت وتطوره، اختلفت – في كثير – عن تلك المنهجية التي تبناها في علم الكلام؛ فقد عرض للأطوار التي مرّ بها فكر الآباء منذ نشأته وقبل القرن الرابع، إلى أن أدرك نضجه واكتماله في هذا القرن – في رأيه – حتى العصر الذي ظهر فيه يوحنا الدمشقي؛ غير أن الأب قنواتي أسقط عمدًا التفاصيل الفرعية التي علقت بهذا الفكر - باعترافه هو - لكي يقدمه على أنه مجلو من كل مراحله حتى يبدو متواصلاً متلاحم الحلقات، إلا أنه لم يكن في وسعه أن يغفل عن بعض الأحداث التاريخية والسياسية في الوقت ذاته، وهي الأحداث التي لازمت هذا الفكر ونشأت وتطورت في كنفه؛ لكي ينطلق إلى محاولة بيان ثباته إزاء ما طرأ عليه من ظروف. وهذا يدعونا إلى القول بأنه قد تبين لنا كيف ينطلق الأب قنواتي في دفاعه عن علم اللاهوت من منطلق الإيمان بعقيدة التثليث، رافضًا المبدأ العقلي الذي جاء به آريوس الذي نفى اللاهوت عن المسيح أو ما يسمونه الابن المتجسد، بداعي صيغة مجمع نيقية المسكوني (325)، ومجمع القسطنطينية المسكوني الثاني (381). وقد رفض نسطور هذه الفكرة التي تعد خارج نطاق العقل، ففصل بين الإله والإنسان، وذهب إلى القول بوحدة أدبية معنوية تكاد تكون مجازية ليشرح العلاقة بين الناسوت المسيحي واللاهوت؛ غير أن رأيه هنا قوبل بالنقد ليست – في ظني تحت - إلحاحات عقدية، وإنما تحت تأثيرات بشرية يمثلها مجمع أفسس المسكوني الثالث (431).
ولم يقف الخلاف في معالجة قضايا علم اللاهوت، الذي تعد قضاياه قضايا المسيحية ذاتها، عند هؤلاء المذكورين؛ فقد ذهب أوتيخيس بمذهبه المونوفيزي، إذ لما جاء رادًا على نسطور وقع في نفي البشرية عن المسيح. وهذه كلها تؤدي إلى القول بأن علم اللاهوت المسيحي واجه اختلافات جوهرية بين أعلامه نتيجة عدم وضوح عقيدة التثليث، ونتيجة دخول التفسيرات الشخصية الإنسانية التي واجهت أمرًا عقديًا لا ينبني على أسس عقلية.
غير أن الأب قنواتي يرى أن هناك خاصية تميز بها علم اللاهوت على علم الكلام، يقول عنها: "ربما أدركنا العجب من أن تكون هذه الفلسفة – التي تبنا عن كثب مقالاتها المنطقية – قد كونت طوال قرون تمهيدات (علم في العقائد)؛ لكن ذلك الأمر بالذات هو الذي يلقي ضوءًا على دور العقل والإيمان والعلاقات بينهما في علم الكلام، وإن لم يخطر لهذا العلم أن يحدد منهجيته على أساس التمييز بين الطبيعة وما فوقها، وأن يحدد طريقة الاستخدام العقدي لأصوله، كما فعل القديس توما في المسيحية، فإن ذلك لا يعود إلى إخراج كان أقل إحكامًا، بل بالذات إلى اختلاف في المفهومات".(
[6])
وتعد جهود الأب قنواتي العلمية امتدادًا طبيعيًا لجهود العديد من المسيحيين الذين أسهموا في بناء الحضارة العربية الإسلامية.. فكلنا يعلم أن حركة الترجمة التي ازدهرت في العصر العباسي قامت على أكتاف مجموعة من المترجمين كان أغلبهم من النصارى؛ ومن بينهم حنين بن إسحاق، وإسحاق بن حنين، وقسطا بن لوقا، وعبد المسيح بن ناعمة الحمصي. وقد شجّع الخلفاء حركة الترجمة والمترجمين تشجيعا ماديا ومعنويا، خاصة بعد إنشاء "بيت الحكمة".
[7]فمن منا يكتب عن ابن سينا ولا يرجع مجبرًا إلى تحقيقات الأب قنواتي عن ابن سينا في "الشفاء"، ومن منا يتناول ابن رشد ولا يستنير بمؤلفاته عنه وتحقيقاته وجهوده في إلقاء الضوء عليه، ومن منا لا يستند في لغة الحوار مع الآخر إلى مؤلفات الأب قنواتي عن إسهام المسيحيين في الحضارة العربية أو فلسفة الفكر الديني، أو ندواته ولقاءاته وحواراته عن حوار الأديان... فإذا أدركنا ذلك علمنا إلى أيّ مدى كان الأب قنواتي ذا تأثير واسع في الحياة الفكرية عامة والفلسفية منها خاصة.
لقد تجاوز الأب قنواتي إذن حدود العقيدة، وارتضى أن يرسم لنفسه أرضية رحبة لا حدود لها ولا أفق يحدها... تلك الأرضية التي نراه فيها وكأنه أقسم بأن ما بينه وبين حضارته أكثر مما بينه وبين عقيدته، ولكأني به وقد نظر إلى عقيدته على أنها جزء لا يتجزأ من كل كبير قوامه حضارة نشأت في ظل الدولة الإسلامية أسهمت في بناء حضارة أوربا الآن التي يرنو إليها القاصي والداني. لقد أدرك الأب قنواتي دوره الحقيقي المنوط به القيام به، وهو الدور الذي ينبغي أن يضطلع به كل مفكر يرى في نفسه مثقفًا حقًا؛ فكان اتجاهه إلى إحداث حالة من الوفاق بين حضارتين: حضارة إسلامية وحضارة مسيحية، أو إن شئنا الدقة حضارة واحدة لها فرعان: فرع إسلامي وفرع مسيحي.
لقد أسهم الأب قنواتي بآرائه في قضايا مؤثرة وإشكالات جمة؛ فتدخل برأيه في موضوعات كعلاقة الفلسفة بالعلم، والغزو الفكري، والتوفيق بين الفلسفة والدين، والفكر المعاصر وعلاقته بالدين، والمبادئ التي يشترك فيها الإسلام والمسيحية. وهذا يفسر لنا دوره في التصدي للتطرف الديني والتطرف العلماني بكل أشكالهما، ومواجهة الصراعات المسلحة بالفكر والعقل واللين. وبناء عليه، يمكن القول إن "الأب قنواتي، من خلال أقواله وأعماله الرائدة، كان خير سفير فكريّ لمصر في زياراته لأكثر بلدان العالم شرقا وغربا... وكان لا يكل ولا يمل من إعلان أن التسامح الديني يعد جوهر حقوق الإنسان... لقد دأب على ذلك ليس في أحاديثه ومحاضراته فحسب، بل من خلال كتبه ومقالاته وما أكثرها".(
[8])
وإذا كان الأب قنواتي ينتقد مقولة الغزو الفكري معتبرًا إياها كلامًا فارغًا ولا معني له، ولقد أكد هذا الجانب في كل كتبه ودراساته ومقالاته خلال العديد من المؤتمرات، والتي تعد بالمئات(
[9])؛ فإنه نظر إلى معنى غير المعنى الذي نظر إليه معارضو الغزو الفكري. فعلى حين نظر إليه الأب قنواتي على أن التنوع الثقافي أو الثقافة الوافدة خير للوطن والأمة من حيث إنها إحدى سبل التواصل مع الآخر الغربي، فقد نظر الرافضون إلى الشق الآخر من هذه الثقافة، حيث إنها بما تحويه من أفكار تخالف العقيدة والتقاليد تعد ضربًا للهوية العربية والثوابت الدينية.
ونحن نعتقد، بدورنا، أن الثقافة البناءة تفيد الوطن وتفيد الدين في آن واحد. وهذا ما كان يرجوه الأب جورج قنواتي؛ غير أننا نرى بعض المفكرين يصدرون لنا نوعًا من الثقافة الهدامة التي لا تتناسب مع شرع أو عرف. وهذا النوع من الثقافة لا يمد جسورًا من التواصل والتحاور بين الحضارات، وإنما يمثل – بالأحرى – تغليبًا لثقافة غربية على ثقافة الأمم والشعوب.
وقد يدل على ذلك ما يعج به مجتمعنا من أفكار دخيلة ومظاهر غريبة، لا تستند إلى ثقافة هادفة وإنما تنطوي على مساوئ يرفضها العقل والدين، خاصة أن مجتمعاتنا - في قطاع كبير من أبنائها - بنت فكرتها عن الثقافة الغربية على الأمور الشكلية لا الجوهرية، فحصرتها في المأكل والملبس وغيرها من المظاهر الشكلية متغافلة عن جوهر هذه الحضارة من اهتمام بقيمة العلم والعمل والسعي الجاد نحو المستقبل، والإيمان بمبادئ الديمقراطية والشورى في الحكم.
ومن ثم، فنحن لسنا مع الأب قنواتي في رفضه لمقول الغزو الفكري، ولسنا ضده في الوقت ذاته؛ لأنه وإن نظر إلى جانب فقد فاته جانب آخر، وإن نظر معارضوه أيضًا إلى جانب فقد فاتهم النظر إلى الجانب الآخر.
ويؤكد عاطف العراقي على هذه المميزات ذاهبًا إلى أن الرجل لم يكن من أصحاب الدعوات الطنانة الرنانة الجوفاء، كما أنه لم يكن من أصحاب الرايات الفاقعة والأصوات الزاعقة التي تدعو إلى حوار غير ذي جدوى؛ لكن دعوته كانت تستند على الدوام إلى قناعة راسخة بأن في الحضارة والفكر الإسلامي ما يجب التوقف أمامه كثيرا وطويلا للاستفادة من معينه الذي لا ينضب.(
[10])
وأكدت الدكتورة عايدة ناصف، أستاذة الفلسفة، أن الأب قنواتي قدّم لنا ما هو مشترك بين العقائد المختلفة، وأوضح الفوارق الأساسية التي تميز كل فرقة داخل العقيدة الواحدة، وبرهن على أن علماء الدين الإسلامي والمسيحي قدموا أدلة مختلفة ولكنها متشابهة في إثبات وجود الله، وعرف أن هناك تشابها كبيرا بين التوحيد في الإسلام والتوحيد في المسيحية. وأضافت ناصف: "كان الأب قنواتي أول من كشف لنا علم التوحيد، كما كشف لنا النصوص الدينية المتشابهة بين الديانتين مثل الله يحيي الموتى، المؤمنون أخوة. وأراد أن ينبهنا إلى أن بمصر أعظم تاريخ في محاولة رائعة منه لشرح مميزات الشخصية القبطية إزاء الحضارة العربية، وحدد أن المسلمين والمسيحيين أخوة، وهذا المشروع هو ما نريده الآن. لقد كان شغله الشاغل هو إثراء الحوار عن طريق الأديان والثقافات.(
[11])
يقول الدكتور عاطف العراقي، التلميذ النجيب والابن البكر للأب جورج قنواتي، إنه "من المؤسف أن أكثرنا يكتب عن موضوع الحوار بين الثقافات تارة وموضوع السلام بين الأديان تارة أخرى دون أن يضع في اعتباره الاهتمام الضخم من جانب الأب قنواتي، وطوال أكثر من نصف قرن من الزمان"(
[12]).
ويحسب للأب قنواتي أنه لم يترك الساحة للمستشرقين كي يقولوا عن ابن رشد ما يشاؤون، وإنما دخل الساحة بكل قوة؛ فقدم لنا مؤلفات ابن رشد الكاملة المخطوط منها والمطبوع على حد سواء مع دراسة تبنّى فيها المنهج العلمي في النقد والتحليل والمقارنة. وأظن أن هذه الجهود تعد مرجعًا مهمًا لدارسي الفلسفة الرشدية في الوطن العربي وخارجه؛ لأنها تلقي الضوء على أبي الوليد ابن رشد من منظور ما كتبه، وليس من منظور من تناوله بالدراسة.
ولقد تحدّث الأب قنواتي عن هذه الأسس حديثا دقيقا يكشف عن اطلاعه الواسع، ويؤكد كيف استطاع المسيحيون أن يعيشوا في إطار الحضارة الإسلامية العربية، ويشعروا بأنهم من لحامها وسداها، وبأنهم ليسوا غرباء عنها بل من العناصر الفعالة في تشييد الحضارة العربية ومساعدة إخوانهم المسلمين لصيانة عقائدهم في مختلف ميادين العلوم ومقتضيات الحضارة؛ فهي جهود لا ينكر أثرها، وتحمل في الوقت نفسه عدة مضامين فلسفية وفكرية:
أ - تأصيل الفكر المسيحي وبيان أثره في الحياة الفكرية الإسلامية.
ب - إعادة النظر في قراءة مصادر الفلسفة الإسلامية بكل فروعها.
ج - التأكيد على الجوانب الإيجابية بين الإسلام والمسيحية والوقوف على الحد الأدنى المشترك بينهما.
د - نبذ الفرقة والشتات بين الأديان.
هـ - تبني فكرة المقاربات الفكرية والتعايش السلمي المشترك؛ فقد كان جورج قنواتي - على حد تعبير عاطف العراقي - يعمل بمقولة السيد المسيح: "طوبى لصانعي السلام فإنهم أبناء الله يدعون"؛ وهي دعوة حرص على نشرها في أقطار المسكونة كلها شرقا وغربا محاضرا ومعلما في جامعات الولايات المتحدة الأمريكية وأوربا وآسيا، وكانت كلها تسارع في إهدائه الدكتوراه الفخرية الخاصة بها؛ اعترافا بفيض علمه، وإدراكا لأهمية فكره التنويري الذي يمثل الطريق المفتوح طريق السلام والحوار.(
[13])