** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
العقلانية و مولد الإنسان الحديث – ذ. الهادي عبد الحفيظ I_icon_mini_portalالرئيسيةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوع
 

 العقلانية و مولد الإنسان الحديث – ذ. الهادي عبد الحفيظ

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
دوحة
" ثـــــــــــــــــــــــــائــــــــــر "
العقلانية و مولد الإنسان الحديث – ذ. الهادي عبد الحفيظ Biere2
دوحة


عدد الرسائل : 227

تاريخ التسجيل : 05/11/2009
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 2

العقلانية و مولد الإنسان الحديث – ذ. الهادي عبد الحفيظ Empty
27102013
مُساهمةالعقلانية و مولد الإنسان الحديث – ذ. الهادي عبد الحفيظ

[url=http://www.anfasse.org/images/stories/peinture 120/GA051104.jpg]العقلانية و مولد الإنسان الحديث – ذ. الهادي عبد الحفيظ GA051104[/url]

0inShare
Share on Tumblr

سنتناول مفهوم العقلانية في المجال الفلسفي و العلمي و السياسي, باعتباره انتصار للعقل و مولدا لإنسان جديد هو الإنسان العاقل و الحر الذي بشرت به الثورة العلمية الكبرى في القرن 17 وجسدته الثورات السياسية في أوروبا في القرن 18 و 19 .
سنحاول تتبع انتصارات العقل هذه من خلال [ ظهور ] مفهوم " القانون ".
I - ديكارت أو الإعلان الفلسفي عن مولد " العقلانية ":
يعتبر ديكارت – عند الجميع – مؤسس العصر الحديث, و فيلسوف العقلانية و التنوير, لأنه أول  من دعا بوضوح الى  ضرورة  تحطيم الأسس القديمة للمعرفة ( الحس )  و تأسيسها على أسس جديدة  ذهنية ( رياضية هذه المرة ).
هذه المحاولة الجزئية يصفها هو نفسه في " مقالة الطريقة " بقوله " بنشري مبادىء الفلسفة التي استخدمتها إنما افتح النوافذ و أدع ضوء النهار يدخل الى الكهف الذي انغلق فيه أصحابه " فليس أصدق تعبيرا من وصف العصر الوسيط برمته بالكهف المظلم المنغلق على أصحابه. و ليست وضعية ديكارت من عصره سوى أشبه بوضعية سجين أفلاطون المتحرر من كهفه ( و هو مثال و نموذج الفيلسوف ) , و ليست عملية التحرر هذه سوى عملية تبدأ في الإنسان ذاته نحو الإنسان كذاب , و لعلها تلك هي مزية ديكارت الكبرى التي مثلها في ميتافيزيقا ه بدءا بالكوجيتو كجوهر لذات نحو أفق هذه الذات و هو امتلاك الوجود كله باعتباره وجود هذه الذات المتحررة حيث " نصبح أسيادا للطبيعة و مالكين لها " كما يقول ديكارت نفسه , تدعمنا في ذلك القدرة الإلهية  الخلاقة و هذا ما نلمسه لدى ديكارت في كتابه " تأملات ميتافيزيقية في الفلسفة الأولى " الذي نشره للمرة الأولى باللغة اللاتينية لغة خاصة, قاصدا بذلك إبقاءه ضمن حيز العلماء و رجال الدين .
و لعل هذا الكتاب هو ثاني كتاب يكتب اللاتينية و يوجه الى الخاصة من الناس بعد كتاب " مقالة الطريقة " الذي قدم فيه ديكارت بعض تطبيقات منهجه العلمي على علوم مثل البصريات – الهندسة – الآثار العلوية – و هذين الكتابين في الحقيقة جاءا ردة فعل و تفسير لحركة سحب كتابه الشهير " العالم أو رسالة في الضوء " من المطبعة سنة 1633 إبان محاكمة غاليلي في ايطاليا, ولعله بذلك حاول إخفاء خوفه و تقديم تفسيراته و اعتذارا ته لرجال الدين حتى لا يساء الظن به. و لعل ديكارت وحده يعلم أنه يفكر ضد الكنيسة بطريقة عقلانية مغايرة للتفكير السائد, و إلا لما خشي من الكنيسة أو لما اعتذر لرجال الدين.
فكيف فكر ديكارت بطريقة عقلانية مغايرة ؟ و ما هي أسس العقلانية الجديدة التي أسس لها ؟ لنعتمد فقط كتاب " التأملات " و نرى كيف يعكس بنائه و حركة أفكاره توجه عقلاني جديد يختلف عن كل ماهو سائد في ذلك العصر ؟ .
الأمر الذي كان فعلا مدعاة للخشية و الخوف من نشر أي مؤلف دون طلب توضيح لرجال الدين لما يريد نشره أو قوله و خاصة فيما يتعلق بمسائل الميتافيزيقا التي يعتقد الجميع انه يمكن البرهنة عليها فقط ببراهين اللاهوت.
فغاية ديكارت الأولى و التي جعلت عملا مثل هذا العمل ينال حظوة و أهمية عند المحدثين و المعاصرين هي كون ديكارت كان منذ البدء يحاول البرهنة على فكرة وجود الله و خلود الروح و تميزها عن الجسم بأدلة الفلاسفة العقلية, و لعلها تلك هي خطورة مثل هذا العمل. الخطورة التي تتطلب إيضاحا, لذلك كتب الى رجال الدين و عمداء كلية باريس تبريرا لهذا العمل قائلا: " دائما ما اعتقدت أن معضلتي الله و النفس هما من أخطر المعضلات , التي ينبغي أن تبرهن بأدلة الفلسفة خيرا من أن تبرهن بأدلة اللاهوت. إذ و ان كان يكفينا التسليم نحن معشر المؤمنين, بأن ثمة إلها و بأن النفس البشرية لا تموت بموت الجسم فمن غير الممكن أن نجعل الكافرين يسلمون بحقيقة الدين و لا حتى بفضيلة أخلاقية, إذ كنا لا نثبت لهم أولا هتين المعضلتين بالعقل الطبيعي ". [ من مقدمة كتاب التأملات ].
فديكارت بدأ بالشك في الحواس و في جميع المعارف المتأتية من الحس, ليثبت في النهاية ذاته كشيء يفكر ( RES COGITANS ) هذا الإثبات الذي صار أهم ما يعرف عن ديكارت و المقصود هنا الكوجيتو [ أنا أفكر أنا موجود ] ( COGITO ERGO SUM ). الذي سيعتبره بعد ذلك قاعدة كل المعرفة مقبلة ( 1). و الحقيقة أن هذا الشك يمكن تأويله و فهمه من مستويين :
-        مستوى منهجي
-        مستوى ابستملوجي
 -       منهجي الاثبات أن الحواس في ذاتها لا تقود الى معرفة يقينية, و أننا لا نبلغ اليقين إلا متى تخلصنا من سيطرة الحواس- و ان بلوغ اليقين يستلزم جهد معرفي نقدي تتطلب حنكة الفيلسوف و عناد المعارف.
-        ابستمولوجي لاثبات أن العلوم القديمة ( الأرسطية ) فاسدة لاعتمادها على مبادىء الحس, و ان فسادها يستلزم منا التفكير في تأسيسها على مبادىء غير مبادىء الحس.
و عليه يمكننا أن نستنتج أن المشروع الديكارتي القائم على الشك المنهجي لم يكن ليميز بين الجانب الفلسفي و الجانب العلمي لما كان يريد ديكارت تأسيسه لذلك سيعمد مباشرة بعد اكتشاف الكوجيتو الى القيام بتجربة علمية يثبت من خلالها قدرة العقل على معرفة أشياء العالم الخارجي و المقصود بالطبع تجربة قطعة الشمع التي كان يدركها بخواصها الحسية ثم أصبح بعد تقريبها من النار يدركها بخواص ذهنية هندسية من حيث هي امتداد و حركة و شكل.
و نجد ديكارت يعلن عن هذا الضرب الجديد من المعرفة الذهنية بأنه " لمعة من لمعات الذهن ".
يقول " ان ما يجب إيضاحه هو أن إدراكي إياها لم يعد إبصارا أو تلمسا أو تخيلا هو ليس شيئا من ذلك مطلقا و ان كان قد بدأ أنه كذلك من قبل و إنما هو لمعة من لمعات الذهن " [ التأمل الثاني ], و لو ساءلنا ديكارت عن معنى هذه اللمعة للذهن لأجابنا بهذا المثال الذي يوضح به المسألة " و لو نظرت مصادفة من النافذة, و شاهدت رجالا يسيرون في الشارع, لقلت عند رؤيتي لهم إني أرى رجالا بعينهم كما أقول أني أرى شمعة بعينها, و لكن هل أرى بالواقع من النافذة غير قبعات, و معاطف, قد تكون أغطية لآلات صناعية تحركها لوالب ؟ مع ذلك أحكم أنهم أناس, إذن أنا أحكم بمحض ما في ذهني من قوة الحكم, ما كنت أحسب أني أراه " [ التأمل الثاني ] . إذن فما نعينه بالإدراك هنا ليس سوى إدراك عقلي محض, هو لمعة من لمعات الذهن, يسميه ديكارت قوة الحكم " التي للذهن فهو ضرب من المعرفة العقلية الصادقة التي تنبجس في الذات فجأة و تنقدح في الذهن نسميه حدسا عقليا. و هو ما سيبشر بعصر معرفي جديد افتتحه ديكارت, عصر اطلاقية العقل و لا محدوديته, عصر يبشر بميلاد تصور جديد للإنسان إنسان حر يمتلك مطلق الإرادة التي تجعله" سيدا للطبيعة و مالكا لها " بل سيدا للعالم بأسره لعله ذلك الإنسان الذي وجد تحققه الفعلي في انتصاره السياسي و الاجتماعي على أنظمة العصر الوسيط و الذي بشرت به الثورة الفرنسية ( 2) كما سنرى ذلك لاحقا .
II- العقلانية و القانون العلمي
ان سؤال لماذا تحدث الأشياء على النحو الذي تحدث عليه ؟ الذي كان يسأله القدامى كان ينم عن غائية وسببية يبحثها القدامى, لأن المعرفة عندهم هي معرفة " بالأسباب و العلل " كما كان يقول أرسطو, ولكن كان امتلاك السبب و معرفته معناه امتلاك الظاهرة, و هو ما سيسمى اليوم بالقانون العلمي, لذلك كان عند القدامى الفيلسوف هو الذي يمنح القوانين لا يتلقاها كما يقول أرسطو:  " الذي يعرف الأسباب بالشكل الأدق و القادر على أن يعلمها هو في كل نوع من أنواع العلم أكثر علما و كذلك العلم الذي يختارونه للفوائد... فلا ينبغي أن يتلقى الفيلسوف القوانين, إذ أنه هو الذي يمنحها و على الآخر أن يطيعه" ( 3).
فمعرفة حقيقة الشيء أو الظاهرة يسمى قانون و هذه المعرفة لا يمكن أن يمنحها إلا الفيلسوف لأنه يعتمد المعرفة العقلية. و العقل وحده قادر على كشف خفايا الظواهر. لذلك أصبح العلم يعرف اليوم بأنه " معرفة ماهو مخفي " كما يقول باشلار IL n'ya de science que de ce qui est caché " ". لذلك نفهم لماذا لا يستطيع الحس أن يبلغ الى حقيقة الظاهرة, و لماذا لا يستطيع إلا العقل الرياضي الذي ستؤسسه العقلانية الحديثة مع ديكارت كشف خفايا الظاهرة.
لذلك سوف لن نجد اهتماما عند علماء العصر الحديث – منذ ديكارت – بأسباب الظاهرة بقدر ما نهتم بكيفية فعلها و خواص هذا الفعل:  و هو ما سيعرف بالمنهج الكمي الرياضي الذي ستطبقه الفيزياء على معرفة المادة منذ غاليلي و ديكارت و سيصبح القانون العلمي هذا المعنى هو " العلاقة الضرورية بين الظواهر " ( 4 ).
بالمعنى الرياضي لكلمة " ضرورة " أي لزوم النتيجة أو الأثر عن السبب دون تعارض أو فساد. و هذا ما حاول العقل الحديث الذي يسميه السيد لالاند بالعقل المكون, ( La raison constituante ) . أن يثبته في تناوله للظاهرات الطبيعية, و ذلك لجعل حقيقتها عارية أمامه. انه يسعى الى جعل هذه الظواهر قابلة للعقلنة ( Intelligible ) الأمر الذي سيمكن هذا العقل نفسه من " اقتصاد في التفكير " يعفينا من تلك الأخطاء و المشاق التي كان يتكبدها العلماء من قبل كما يقول ديكارت:  " و لما كنا فرضنا هذه القاعدة ( و يقصد هنا قاعدة الحفاظ أو قانون العطالة, القانون الأول لديكارت ( أصبحنا في حل من العناء الذي يتكبده العلماء..." ( 5).
فعقلنة الظاهرة أو ما نسميه " بالقانون العلمي " يمكننا لا فقط من فهم حاضر الظاهرة بل كذلك و الأهم فهم مستقبلها و التنبؤ بحدوثها بنفس الدرجة التي يحدث بها الآن حسب التحديد الذي سيصوغه لابلاس بعد ذلك لما سيسمى بمبدأ الحتمية. و يعني " أن ننظر كما يقول لابلاس الى حالة العالم الراهنة باعتبارها نتيجة لحالته السابقة و علة لحالته اللاحقة " لأن الحتمية تعني أن الظاهرة متحددة ضرورة بعدد معين و مضبوط من الشروط لوجودها, إذا توفرت لابد من توقع ظهورها و ان لم تبدوا واضحة للعيان أو على النحو التي هي بادية عليه. بقول السيد قاستون باشلار في هذا الصدد موضحا حتمية وعقلانية القانون العلمي: " ان كل الأجسام تسقط, حتى تلك التي لا تسقط ! ان الورقة اليابسة التي تسقط في شكل حلزوني نحو الأسفل تسقط عموديا. و ان كانت نسمات ريح الخريف تفسد استقامة السقوط, فان ذلك يعتبر عرضيا بالنسبة للفكر العقلاني الذي أكتشف المغزى العميق لقانون السقوط العمودي رغم مظاهر السقوط المائل. ان عقلانية قانون السقوط التي تصاغ في تلك القاعدة البسيطة, ( 6), موصوفة في حركة كل جسم على الأرض " ( 7).
فتحديد قانون للظاهرة الطبيعية معناه إذن عقلنتها, هذه العقلنة التي كان لا بد منها لفهم قيام تصور جديد للعالم و للإنسان, يكون فيه هذا الأخير هو السيد الأوحد و المالك كما يقول ديكارت, و هو الموقف الذي يوافق عليه الفيلسوف كانط في كتابه نقد العقل المحض: " ينبغي أن يتقدم العقل الى الطبيعة, ماسكا بيد مبادئه التي تستطيع هي وحدها أن تمنح الظواهر المتطابقة سلطة القوانين, و باليد الأخرى التجريب الذي تخيله وفق تلك المبادىء, حتى يتعلم من الطبيعة لا محالة, لكن لا كتلميذ يدع المعلم يقول كل ما يحلو له قولة, بل على العكس من ذلك كالقاضي يجلس للقضاء, فيحمل الشهود على الإجابة عما يطرح عليهم من الأسئلة "( 8).
ان عملية العقلنة هذه قد تمت وفق منهج رياضي كمي, يحول الطبيعة الحسية الى أشبه بالفضاء الاقليدي لا تحدده إلا أبعاده الثلاثة الغير منتهية: الطول و العرض و العمق, فضاء نتصوره جديدا هذه المرة على أنه مفتوح, متجانس, لا متناه [ Isotrope homogène infini ], فضاء لا يميز بين الفوق و التحت, و لابين مكان و آخر و لا بين الحركة أو السكون.
و هو الأمر الذي يوضحه لنا أنشتاين [ في كتابة منهج الفيزياء النظرية ] :  " إنني مقتنع بأن البناء الرياضي المحض يمكننا من اكتشاف المفاهيم و القوانين التي تصل بينها و التي تعطينا مفتاح فهم الظواهر الطبيعية , و يمكن للتجربة بطبيعة الحال أن تقودنا في اختيارنا المفاهيم الرياضية التي ينبغي أن نستعملها , غير أنه لا يمكن أن تكون المصدر الذي تنبع منه هذه المفاهيم . و لئن ظلت التجربة بالتأكيد مقياس المنفعة الوحيد لبناء رياضي ما في في خصوص الفيزياء, فان المبدأ الخلاق بحق يمكن الرياضيات- انه يصح عندي إذن على نحو ما – أن الفكر المحض قادر على فهم الواقع, و ذلك ما كان القدامى يحلمون به " (9).
ولكن المشكل يتجلى حسب أنشتاين, لا في امكان تعقل الرياضيات للواقع, بل في مدى و حدود هذا التعقل. هل نعتبر أن هذا التعقل لا محدود كما يتصور ديكارت أو نيوتن ؟ أم أن عملية التجريد الذهني للطبيعة يجب أن تقف عند حد , يجعل القانون العلمي نفسه قانونا نسبيا كما سيقول أنشتاين بعد ذلك حين سيشبه عمل العالم بمثل من ينظر الى ساعته فلا يرى منها سوى ميناءها , يقول : [ في كتابه تطور الأفكار في الفيزياء, صحبة وانفيلد ] : " نحن نكاد نكون في المجهود الذي نبذله لفهم العالم كمن يسعى الى فهم آلية ساعة مغلقة . فهو يرى الإطار و العقارب تتحرك و يسمع الدقات, و لكن لا يملك لفتح العلبة حيلة, انه يستطيع, إذ كان فطنا أن يحصل على صورة ما عن الآلية يجعلها علة كل ما يلاحظه. غير أنه لن يتأكد أبدا من أن الصورة التي يكونها هي وحدها كفيلة بتفسير ملاحظاته " ( 10).
فان أصبح القانون العلمي نسبيا, غير مطلق, فهل هذا يجعل منه محل مراجعة مستمرة, ان لم نقل محل تشكيك مستمر, على النحو الذي فعله دافيد هيوم في القرن 18 أو على النحو الذي فعله نيتشه بعد ذلك ( ق 19) حين سيخضع كل معارفنا المتأتية عن العقل الى ضربات المطرقة الهدامة, باعتبارها أوهاما لا حقائق !! ؟ لكن يجب أن لا نفهم هذا التشكيك أو الهدم على أنه تخلي عن العلم نحو ضرب آخر للمعرفة لا بل أن العلم لا يتقدم الا بمثل هذا النقد و التشكيك كما سيبين السيد قاستون باشلار حين اعتبر أن " تاريخ العلم هو تاريخ أخطائه و تراجعا ته " – بل لعل العقل البشري ذاته – و هو ما أرسته العقلانية الحديثة – لا يسعى الى الانغلاق داخل نسق معين الى درجة أنه يتحجر فيه, بل يظل مفتوحا دوما. لأن العقل المنغلق على ذاته عقل ميت, نقيض ذاته لأنه نقيض الحرية, كما نجد ذلك في تعريف كانط للأنوار: " لا شيء مطلوب غير الحرية, أي تلك التي تقبل على استخدام علني للعقل في كل الميادين " ( 11) III - عقلانية القانون الوضعي :
ليس هناك اختلاف حول شمولية الترعة العقلانية في الفكر الحديث, شموليتها في جميع المجالات ( كما قال كانط ), و لا أحد ينكر كذلك مدى تأثر التحولات الفكرية في الفكر العلمي على المجالات الأخرى كالسياسية و الأخلاق.
لذلك سنعتبر عقلانية الفكر السياسي امتدادا " للثورة الابستملوجية " التي شملت العلوم في القرن 17. و سنعتبر أن الفكر السياسي الحديث قد أحدث بدوره " قطيعة ابستملوجية " مع الفكر القديم على قاعدة العقل كذلك, مثلما هو الشأن في الفيزياء و باقي العلوم الأخرى. و إذ ا نتناول مسألة " القانون الوضعي " و نشأة " دولة القانون " فباعتبارها إحدى النتائج الضرورية لهذا التحول الابستمي العظيم الذي عرفه عصر الحداثة, بل باعتبارها التحقق الفعلي لأفكار الثورة العلمية, أي الاستتباعات العلمية لهذا التحول بالذات .
       فعندما نتحدث اليوم عن دولة الحق " أو دولة القانون " بالمعنى الهيقلي, فان هذا يتطلب منا تحديد دلالات هذا المفهوم, و هو كما نعرف مفهوم حديث يتعارض مع التصور التقليدي للدولة الفارغة من كل محتوى كما عبر عن ذلك هيقل قاصدا بذلك الدولة الدينية " الثيوقراطية ". فهل ما نعينه " بدولة القانون " هو ما نقصده اليوم بالدولة الديموقراطية ؟ يجيب الأستاذ علي الشنوفي عن هذا السؤال " فدولة القانون أو بالأحرى دولة الحق, لا تعني... ما صرنا نمثله اليوم بكثير من الغموض أحيانا عبر مقولات احترام الحقوق الأساسية و فصل السلطة و حيادها و حماية الحريات المدنية و الدفاع عن حقوق الإنسان و المواطن و الحد من تدخل الدولة في شؤون المجتمع المدني, هذا الخليط الذي صار يتماهى مع عبارة الديمقراطية " ( 12). فدولة القانون هي مفهوم حديث وليد العصر الحديث و تحديدا وليد الفلسفة التعاقدية مع هوبز و سبينوزا و روسو خاصة مع هيقل فيما بعد, يعني دولة مدنية تتجاوز الشكل الكهنوتي للسلطة الدينية البابوية القائمة على نظرية الحق الإلهي المقدس للملوك, دولة تقوم هذه المرة على محتوى هو فكرة الإرادة كما يقول هيقل. لكن هذه الفكرة التي هي بالأساس فكرة عقلية تبقى في جوهرها فكرة افتراضية, نظرية قد لا تطابق بالضرورة الواقع فهل تقوم دولة القانون كدولة واقعية فعلية على الإلزام أم على الخضوع الطوعي ؟ يمكن فهم هذه المسألة إذا عرفنا أن جميع الأفراد متساوون بالطبيعة في الحقوق و أن هذه الحقوق ثابتة . و نقصد هنا بالحق قدرة الفرد على أن يكون فاعلا في العالم الخارجي طبقا لإرادته و ذلك باعتباره كائنا عاقلا عكس الحيوان, إذ الإنسان مستطيع الى بعد من لحظته الراهنة و هذا الحق نعني به الحرية إذ " الطبيعة وحدها- يقول روسو- تعمل كل شيء في تصرفات الحيوان بينما يقوم الإنسان بتصرفاته بصفته فاعلا حرا". فالناس أحرار باعتبارهم كائنات عاقلة, غير أنهم في حالة طبيعية تركوا عرضة للانفعالات و هو ما أوقعهم في ذلك الصراع الرهيب الذي لا مهرب منه, سوى تغليب العقل على هذه الانفعالات باعتبارهم أساس الاتفاق و التفاهم بين الناس كما سيرى ذلك سبينوزا إذ يكتب في الفصل 4 من الأخلاق " و بقدر ما يعيش الناس متبعين العقل تتفق طبيعتهم دائما بالضرورة " إذ " ليس أنفع لإنسان في الطبيعة من إنسان يعيش متبعا للعقل " و هكذا يبدوا لنا الحل العقلاني حلا طوعيا نحو دولة القانون " دولة يتساوى فيها جميع الناس على أساس العقل, باعتبار العقل هو " الأعدل توزعا و قسمة بين الناس " كما كان يقول ديكارت و الحقيقة أن العقل ليس وحده يدفع الإنسان الى الاتفاق و التواضع, بل قد تكون الانفعالات سلبية بدورها دافعا للخروج من حالة الطبيعة نحو التنظيم المدني لأن الإنسان في هذه الحالة سيكون مضطرا الى التنازل عن حقوقه الطبيعية و أهمها حق الحرية كما عند روسو مقابل تحقيق الأمن و السلام أي ضمان حقه في البقاء كما سنجد ذلك في حالة دولة هوبز. و لكن هل حيازة السلام تستلزم المجازفة بالحرية ؟
إذا كانت الحرية معناها أن لا يكون الإنسان عبدا للإنسان بعينه, أي يتنازل عن حقوقه لصالح فرد آخر و إذا كان ما يتم في العقد الاجتماعي ليس تنازل لفرد بعينه بل تنازل جماعي بموجبه لا يكون الإنسان عبدا لإنسان بعينه بل عبدا للجميع, و إذا كان كما يقول روسو " من يهب نفسه للجميع لا يهب نفسه لأحد " فأن التنازل في دولة الحق ليس تنازلا عن حقوق بل تنازلا من أجل القانون و هو التنازل الذي لابد منه لتحقيق الحرية المدنية و السياسية في النظام المدني الحديث نظام دولة القانون. هذا النظام الذي ستتضح معالمه أكثر مع هيجل في " مبادىء فلسفة الحق ", حيث سيتخلى هيقل عن فكرة العقد الاجتماعي و يعتبرها حلا افتراضيا لا يلائم العقلانية الحقة التي تنطبق على واقع الدولة الواقعة فعلا آنذاك. فبعد أن كان هيجل يؤكد على أهمية الصراع في " فينومينولوجيا الروح " و خاصة على مستوى جدلية السيد و العبد, فأننا نراه في " مبادىء فلسفة الحق " يسعى الى بيان أن الدولة تتعالى عن الصراع باعتبارها " دولة القانون ", لا توجد, بل الأفراد يوجدون لأجلها, فالفرد و حريته كما يقول هيقل إلا فيها, و هذا يجعل من " دولة القانون أو دولة الحق " عند هيجل " العقل ذاته و لذاته " بل هي الكلي العقلي أو ما يسميه هيقل " الإرادة الكلية ". بما هي هذا الكلي العقلي و قد تحقق فعلا في التاريخ. فلم يعد الكلي " إذن نمط الفيزياء الكلاسيكية, و لا نموذج العقلانية الحديثة ", بل أصبح هذا النموذج لا يتحقق في المجرد, بل في التاريخ حين أصبح التطابق كليا بين المجرد و التاريخ, بين العقل و الواقع حين أصبح " كل ما هو عقلاني واقعي و كل ماهو واقعي عقلاني ", حسب هيجل.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

العقلانية و مولد الإنسان الحديث – ذ. الهادي عبد الحفيظ :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

العقلانية و مولد الإنسان الحديث – ذ. الهادي عبد الحفيظ

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
» نيتشه: مولد المأساة من روح الموسيقى/ عادل عبدالله.
» الإنسان العربي وسؤال المغامرة .. – عبد الهادي عبد المطلب
» من العقلانية الإيبيستيمولوجية إلى العقلانية النهضوية في فكر محمد عابد الجابري
» مولد الايديولوجيا
» تجلّي المحدّد: قراءة في محدّدات العقل السياسي العربي برؤية الجابري عبد الحفيظ بن جلولي

صلاحيات هذا المنتدى:تستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: دراسات و ابحاث-
إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوعانتقل الى: