من العقلانية الإيبيستيمولوجية إلى العقلانية النهضوية في فكر محمد عابد الجابري
18 أغسطس 2013 بقلم
يوسف بن عدي قسم:
الفلسفة والعلوم الإنسانية حجم الخط
-18
+ للنشر:التمهيد
لا أحد يجادل في أن مشروع نقد العقل العربي لمحمد عابد الجابري ـ رحمه الله ـ ما زال يثير سجالات فكرية ومنهجية وإيديولوجية. والشاهد على ذلك، تعدد القراءات لنصوص الجابري التراثية والنهضوية. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على مدى فرادة مشروع ناقد العقل العربي الذي رسم حدودا فاصلة بين استعمال سلاح النقد واستعمال نقد السلاح.
من الواضح أن مبررنا النظري والفكري في الجمع بين العقلانية والنهضة هو مبرر يصدر من صاحب المشروع ذاته، حينما استشكلت العلاقة بينهما كما يلي: "هل يمكن تحقيق حداثة بدون سلاح العقل والعقلانية؟ هل يمكن تحقيق نهضة بدون عقل ناهض؟"(1)
ومن الجلي أيضا أن من وظائف العقلانية النهضوية في فكر الجابري هي محاولتها ترتيب قضايا الفكر العربي المعاصر، وإعادة النظر فيها في ضوء تحولات الواقع العربي الذي يسهم بقوة في تجدد المنظومات الإيديولوجية العربية؛ أي من الانغلاق إلى الانفتاح، ومن الفلسفة الجامدة إلى الفلسفة الحية، ومن الاتباعية المقلدة إلى الإبداعية المتفردة.(2)
وبهذا الاعتبار، فإن الجابري يعمل على التمييز-الإجرائي- ما بين العقلانية الايبيستيمولوجية والعقلانية النهضوية، وهو تمييز يشير إلى أن للعقلانية استعمالين مختلفين للعقلانية ذاتها. وأما العقلانية المنهجية (الايبيستيمولوجية)، فهي التي رسم معالمها وخصائصها ناقد العقل العربي في أكثر من سياق ومعرض. ألم تر كيف يحدد الرجل العقل باعتباره عقلا سياسيا أو أخلاقيا..؟ وهي مناحي للعقل العربي الفاعل والسائد على حد سواء. يقول الجابري في هذا السياق: "يمكن النظر إلى "العقل العربي" بوصفه عقلا سائدا قوامه جملة مبادئ وقواعد تؤسس المعرفة في الثقافة العربية(...)، ومن جهة أخرى يمكن النظر إلى "العقل العربي" بوصفه عقلا فاعلا ينشئ ويصوغ العقل السائد في فترة تاريخية ما، الشيء الذي يعني أنه بالإمكان إنشاء وصياغة مبادئ وقواعد جديدة تحل محل القديمة..".(3)
وينتج من هذا أن للعقلانية مراتب ـ إن صح التعبير ـ عقلانية منهجية، وهي لا تنفصل على الإطلاق عن الإيديلوجيا. هذه الأخيرة التي هي أكثر من تمثل الفرد أو الجماعة, إنها بينية جماعية لاشعورية. وهكذا يتبدد النقد التي يثار في مشروع الجابري عن علاقة الايبيستيمولوجيا بالإيدولوجيا. من حيث إن المبدأ ليس في اجتثاث فكرة الإيدولوجيا عن العقلانية الابستيمولوجية أو المنهجية، بقدر ما هو الوعي بمسالكها والقدرة على التحرر منها. وهذا لا يتحصل إلا إذا تمكنا من التمييز بين" الدرس الايبيستيمولوجي وبين التوظيف الايبيستيمولوجي بمعناها المعاصر تتعلق بالمعرفة العلمية.(...)، أقول كل معرفة يمكن أن تتصف بهذا الوصف العلمي تسمى علما، أو يمكن أن تتعامل كعلم".(4) وينجم من هذا، أن ترديد القول بأن مشروع نقد العقل العربي هو في الأساس "غياب الابستيمولوجيا وحضور الإيدولوجيا مما انعكس سلبا على الفلسفة العربية الإسلامية..".(5)
وهذا كله من شأنه أن يبرز لنا أن مفهوم العقل والعقلانية في أعمال الجابري يختلف من حيث (الفعل) والإمكان (القوة)؛ فالعقل من حيث الاستعداد هو ملكة أو أحسن قسمة بين الناس كما يقول ديكارت، ولأنه من جهة الفعل والاستدلال هو متباين بتباين خصوصية لسان الأمة وتاريخها.
ومن ثمة فالعقلانية هي كالعقل الهيولاني استعداد وإمكان، إنها ليست خارجة إلى الفعل على الدوام(كالعقول المفارقة)، بل إنها عقلانية ممكنة وفق شروط ومجالات تداولية محددة. ويترتب عن ذلك أن مسوغات كلام الجابري عن محددات العقل العربي أو الثقافة العربية ومحاولاته انتخاب مرجعيات نظرية وفلسفية مشار إليها، هي مسوغات لها صلاحيتها وملائمتها بالمعنى العلمي. وهذا الأمر يدفعنا إلى بيان مراتب العقلانية وفعاليتها في فكر الجابري في هذه الورقة المقدمة.
أولا- العقلانية الايبيستيمولوجية: جدل الانفصال والاتصال
لاشك أن البحث عن مقومات العقلانية الايبيستيمولوجية في أعمال الجابري، إنما يمتد إلى ما قبل إصداره لكتاب:" نحن والتراث"(1980). إذ لا يخفى على المطلع على مشروع نقد العقل العربي أن يستوقفه شغف الرجل بتاريخ العلوم والابستيملوجيا، وهو الدافع الرئيس في كتابته لـ"مدخل إلى فلسفة العلوم (جزآن-1976)/ الجزء الأول: "تطور الفكر الرياضي والعقلانية المعاصرة"؛ والثاني: "المنهاج التجريبي وتطور الفكر العلمي). ومعلوم أن إشكالية نقد العقل العربي هي إشكاليتي: التراث والحداثة، ومعنى هذا أن نقد التراث عند الجابري، يستلزم التوسل بجملة من الأدوات والمفاهيم والتصورات التي تنتمي إلى مكتسبات الفكر الحديث ومنجزاته. لهذا كان "حضور الابستيمولوجيا ضمن المشروع الفكري للجابري يهدف إلى إعطاء هذا المشروع حداثة ما..".(6) وهكذا دعوته إلى قراءة التراث " قراءة عصرية أو حداثية" عن طريق الإشكال التالي: كيف يمكننا قراءة التراث الفلسفي العربي؟.
إن طريق الحداثة هو طريق الانتظام النقدي في التراث، سواء كان التراث العربي الإسلامي أم التراث الأوروبي الحديث. يقول الجابري:" لقد انطلقت كل منهما من الانتظام في التراث، وهو تراثها الخاص أو ما نعتقده أنه كذلك، ولكن لا ليتفق عنده جامدة راكدة، بل لتتكئ عليه في عملية التجاوز النهضوي، تجاوز الماضي والحاضر عن طريق امتلاكهما..".(7)
والأهم من هذا كله، أن العقلانية الابستيمولوجية في فكر الجابري قد ارتكزت على مناهج وتصورات حداثية، تحيل على مرجعيات وسلط معرفية غربية، منها مثلا، مفهوم القطيعة و اللاشعور المعرفي والنظام المعرفي والعقل المكون(بفتح الواو) والعقل المكون(بكسر الواو).. والتي توسلها بها الجابري بمقتضى "العمل على تبيئتها في وسطنا واستنباتها في تربتنا، حتى تكون على صلة عضوية بمعطيات واقعنا".(8)
ويترتب عن هذا، أن طريق الحداثة في فكر الجابري-على نقيض عبد الله العروي- لا تعني رفض الماضي والتراث جملة وتفصيلا" بقدرما تعني الارتفاع بطريقة التعامل مع التراث إلى مستوى "كسر قيود التقليد وقطع خيوط التبعية. إنه"الاستقلال التاريخي" الذي لا ينال إلا بممارسة النقد المتواصل للذات والآخر أيا كان هذا الآخر".(9)
إننا لا نبالغ إذا قلنا إن العقلانية الايبيستيمولوجية التي نروم بيان مقوماتها هي عقلانية منهاجية؛ حيث تم رسم معالمها من قبل الجابري عن طريق- كما أشرنا- استثمار المفاهيم والأدوات التي سوف تمكنه فيما بعد من نقد المجتمع، ونقد الاقتصاد ونقد العقل، إذ أن غياب هذه الخلفية الفلسفية والنظرية، يجعل كل حديث عن النهضة والتقدم من باب الحلم والأمل.
من الواضح أن التمييز في مشروع نقد العقل العربي ما بين العقلانية الايبيستيمولوجية و بين العقلانية النهضوية، قد يبدد الكثير من الانتقادات التي كانت مدار حدود الابستيمولوجيا والإيدولوجيا في أعمال الجابري. والحال أن علاقة المعرفي والإيديولوجي من أساسيات قراءة التراث الفلسفي العربي لدى ناقد العقل، على عكس ما تم ترويجها من قبل بعض النقاد والدارسين. والأهم من كل هذا، أن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، قد عقد ندوة تحت عنوان: "المعرفي والإيديولوجي في الفكر العربي المعاصر" بتاريخ 10-12 أيار/مايو 2010. وذلك لقيمة الموضوع وأهميته النظرية والفكرية.(10) فانظر كيف لفت هذا التمييز(بين عقلانية ابستيمولوجية وعقلانية نهضوية) انتباه رضوان السيد في عبارة دالة وقوية تحت مقول: "محمد عابد الجابري: من ثقافة البرهان إلى ثقافة النهوض".(11)
ولعل من مميزات اللحظة الثقافية النهضوية الثالثة(12)، والتي ينتسب إليها الجابري، أنها تتسم بالقدرة الفائقة على تنظيم المعارف وتنسيق المفاهيم وتصريفها عند قراءة التراث الفكري العربي والغربي على السواء. وهذا على خلاف مع اللحظة الثقافية النهضوية الأولى والثانية التي يتفاوت فيها التضخم الإيديولوجي بفعل عوامل ذاتية وموضوعية، لهذا "من المبكر أن نطالب اليوم هؤلاء بأن يكونوا أمس نقديين تجاه ما أخذوه من مراجعهم وأخذوا به، ففي ذلك إسقاط يفتقر إلى التاريخية(...) وإنما بالإمكان القول إن إيمانيتهم المفرطة بما آمنوا به كانت فقيرة إلى الاحتياط المنهجي.(13)
ويتحصل من هذا، أن الحداثة في فكر الجابري هي تحديث التراث ونقد تصوراته التقليدية واللاتاريخية التي لم تسهم إلا في ترسيخ الجمود الفلسفي والعمى الفكري في الفكر العربي المعاصر. لهذا كانت علاقة الذات العربية المسلمة بالتراث، ليست"علاقة نظرية مجردة يكتفي فيها بعقله، وإنما هي علاقة عملية ووجدانية يحياها بكليته، ولا هي علاقة اختيارية يدخل فيها متى يشاء ويخرج منها متى يشاء وإنما هي علاقة اضطرارية لابد له في الدخول فيها لا في الخروج منها".(14) ولذلك يندفع الجابري لدراسة التراث العربي الإسلامي لبيان محدوديته المعرفية والتاريخية وفعاليتها الإيديولوجية المستقبلية. وفي هذا الموضع، اتجه الكاتب نحو تقويم ونقد القراءات السلفية المرتدة عن مقومات الفكر التاريخي المتجلية في قراءة السلفي ونزعات الليبرالي وتطلعات الماركسي، إنها قراءات تفتقر إلى روح الموضوعية والنقد. وهكذا، أضحت مشكلة التراث لدى الجابري هي مشكلة المنهج كقوة استدلالية على دفع الدعاوى المقلدة(اللاتاريخية) وتطوير المطارحات الفلسفية(ابن باجه -ابن رشد -ابن خلدون..) المضطلعة بأدوار إيديولوجية عربية مرتقبة. يقول الجابري في هذا المعرض: "لا سبيل إلى التجديد والتحديث، ونحن هنا لا نتحدث عن العقل العربي إلا من داخل التراث نفسه وبوسائله الخاصة وإمكاناته الذاتية".(15)
وبهذا الاعتبار، استطاع المفكر العربي أن يبني عقلانيته الابستيمولوجية(المنهجية) على أساس منطلقات وخطوات منهجية واضحة، تتجلى في رهانين هما: مشكلة الموضوعية ومشكلة الاستمرارية.
أما مشكلة الموضوعية، فهي مشكلة" فصل المقروء عن القارئ، بمعنى تلك العلاقة " الذاهبة من الذات إلى الموضوع، والموضوعية ـ كما يرى الجابري. تعني فصل الموضوع عن الذات".(16) كما أن العلاقة الثانية في معرض الموضوعية فهي:" الذاهبة من الموضوع إلى الذات، والموضوعية تعني في هذا المستوى فصل الذات عن الموضوع". (17)
ويتولد من هذا، أن تحقيق الموضوعية تتمثل في الانفلات من سيطرة الموضوع التراثي على الباحث بمخزونه الوجداني والإيديولوجي. وفي منأى عن إسقاط الذات ورغباتها وميولاتها على الموضوع المدروس. ومن ثمة، فإن الموضوعية هي: "جعل التراث معاصرا لنفسه"،(18) أي لحظة " الانفصال".
وبهذا، نقول إن مشكل الموضوعية في قراءة التراث الفلسفي العربي في فكر الجابري لا يتحصل إلا من خلال ثلاث خطوات أساسية، وهي كالآتي:
(أ)- المعالجة البنيوية: وهي المعالجة التي تنصب على تحليل النص تحليلا بنيويا، بمعنى "التعامل مع النصوص كمدونة، ككل تتحكم فيه ثوابت ويغتني بالتغيرات التي تجري عليه حول محور واحد".(19)
(ب)- التحليل التاريخي: وهي الخطوة الثانية التي تسد ثغرات التحليل البنيوي، وذلك بربط صاحب النص"بمجاله التاريخي بكل أبعاده الثقافية والإيديولوجية والسياسية والاجتماعية". هذا الربط ضروري ليس فقط لاكتساب فهم تاريخي للفكر المدروس، بل أيضا لاختيار صحة النموذج(البنيوي)..".(20)
(ج)- الطرح الإيديولوجي: فهو أيضا إضافة خطوة منهجية أخرى في عملية فهم وتعقل الوظيفة التي يقوم بها هذا الفكر في لحظة تاريخية معينة؛ أي الأدوار الإيديولوجية والسياسية" التي أداها الفكر المعني، الذي ينتمي إليه"(21). فانظر كيف أن "الكشف عن المضمون الإيديولوجي للنص التراثي هو، في نظرنا، الوسيلة الوحيدة لجعله معاصرا لنفسه لإعادة التاريخية إليه". (22)
أما مشكلة الاستمرارية في مشروع نقد العقل العربي، فهي، بالأساس، مشكل وصل القارئ بالمقروء؛أي "المعاصرة المتبادلة لتحقق الاستمرارية: استمرارية تقدم الوعي من خلال البحث عن الحقيقة"(23). ويتولد عن هذا ممارسة النقد ونقد النقد عن طريق عملية الانفصال عن التراث " من أجل تحديد الاتصال به، والاتصال به كان من أجل تحديد الانفصال عنه".(24)
وهكذا، فقد تصور الجابري لتاريخ الفكر أنه ينطلق من اعتباره وحدة إشكالية؛ وهذا يعني أن جميع أشكال الفكر وألوانه وتجلياته وتياراته تلج إشكالية واحدة كلية. وهذا هو التحليل البنيوي. فضلا عن ذلك، أن علاقة المعرفي بالإيدولوجي في مشروع الجابري، يعني ضرورة التمييز- من الناحية المنهجية- بين المادة المعرفية(جهاز،مفاهيم،تصورات...) وبين الوظيفة الإيديولوجية التي يتطلع إليها الفارابي أو ابن سينا أو الغزالي.. من جراء تلك المادة المعرفية.(25) فـ"المحتوى المعرفي والمضمون الإيديولوجي اللذان يجمعهما فكر واحد ليس من الضروري أن يكونا متساوقين، أي على درجة واحدة من التطور، بل غالبا ما يكون أحدهما متقدما والآخر متخلفا، بعبارة أخرى أن الانتماء إلى نفس الإشكالية وإلى نفس الحقل المعرفي لا يعنى بالضرورة الانخراط في نفس الإيدولوجيا. ولا توظيف المادة المعرفية التي يقدمها ذلك الحقل في أغراض أيديولوجية واحدة، بل ما يجعل في كثير من الأحيان ما تحمله المنظومة الواحدة، بل الفكرة الواحدة، مضامين إيديولوجية مختلفة".(26)
من هنا، فإن لحظة" الاتصال" تنجلي في سياق الاستمرارية؛ حيث يصبح التراث" معاصرا لنا، أي إعادة وصله بنا".(27) بالرغم من أن الجابري قد وضح في أكثر من مناسبة أن "لحظة الاتصال أو الوصل لم تبدأ بعد. وآية ذلك، أنها لحظة إبداع لا لحظة استهلاك، هي لحظة تجديد لا لحظة التقليد الأعمى، إذ ليس أدهى من الوقوع في تقليد التقليد وشراك التبعية. والمطلوب هو العمل بمبدأ لا وجود لحداثة مبدعة مع وجود التقليد.
وعلى الجملة، نقول إن عملية الانتظام النقدي في التراث الإسلامي العربي هي الخطوة المركزية في بناء مشروع نقد العقل العربي عن طريق جدل الانفصال والاتصال، وإن كانت لحظة الفصل قد تم تحقيقها وإنجاز معظم عملياتها وخطواتها، بيد أن لحظة الوصل هي لحظة الإبداع والانخراط في بناء المشروع النهضوي العربي عن طريق تحقيق " الاستقلال التاريخي للذات العربية" وتوسيع الكتلة التاريخية بين الفرقاء من أهل السياسة والإيديلوجيا والفكر لمحصلة الأمة العربية ووجودها الثقافي والحضاري.
ثانيا- العقلانية النهضوية:تفاعل المعرفي بالإيديولوجي
لا مراء، في أن معركة التراث في الفكر العربي هي معركة النهضة؛ لذلك كان السؤال النهضوي هو سؤال إيديولوجي مشروع.(28) ألم تر أن نهضة الأمم والحضارات عبر التاريخ في حاجة ماسة إلى نظام إيديولوجي، يضخ الآمال والأحلام في الوجدان العربي.
من المؤكد أن نظام الأيديولوجيا هو نظام مفعم بالتناقضات والتحايلات ،وهو أمر من طبيعة التشكلات الإيديولوجية. فضلا عن ذلك،أن "قد تعرض نفسها في صورة غير إيديولوجية،علمية مثلا، والعلموية مثال ذلك،فهي إيديولوجيا بامتياز. كما أن مناهج تحليل الخطاب الحديث تطلعنا على الكيفيات المختلفة التي تتمظهر بها الايدولوجيا وتخادع بها العقل الواعي".(29) لهذا، فان التحرر من وطأة الأيديولوجيا وهيمنتها هو الوعي بها وعدم" الاستسلام لها استسلاما كليا".(30) ويترتب عن هذا،أن الجابري في قراءته التشخيصة قد اعتبر أن التناقض من عيوب الخطاب النهضوي العربي العام، وهو الأمر الذي يجافي تطور العلوم الإنسانية ومناهج الفكر الفلسفي المعاصر؛حيث صار التناقض من صميم العقل العلمي والايبيستيمولوجي المناهض لمبادئ المنظومة الأرسطية الكلاسيكية.
وبهذا الاعتبار،كانت العقلانية النهضوية في فكر الجابري هي معاودات مطردة لإعادة بناء الفكر العربي في ضوء الواقع العربي وتحولاته المشهودة. من هنا تتفاعل العلاقة بين المعرفي والإيديولوجي في المشروع النهضوي العربي. وكان هذا الأخير مشروعا غير مكتمل بلغة هابرماس؛ فانظر مليا كيف أسهم ويسهم مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت من فتح سجالات فكرية واقتصادية وإيديولوجية رفيعة المستوى الأكاديمي والعلمي من أجل ترسيخ الأهداف الستة:التجديد الحضاري- الوحدة- الديمقراطية-التنمية المستقلة- العدالة الاجتماعية- الاستقلال الوطني والقومي.(31)
ومن البين، أن عودة مركز دراسات من جديد إلى صياغة مشروع النهضة العربية والحرص على مشاركة جميع الأطياف السياسية والقوى الوطنية والفكرية لشاهد على أن بناء قضايا الفكر العربي، يستلزم حضور المستجد الإيديولوجي والمعرفي على الدوام. يقول الجابري في هذا المعرض:"إعادة تأسيس الفكر القومي على مبدأي الديمقراطية والعقلانية بدل مبدأ العلمانية وإحلال الإسلام المكانة التي يجب أن يحتلها في النظرية والممارسة. تلك من جملة الأسس التي يجب أن ننطلق منها عملية إعادة بناء الفكر القومي العربي"(32).
وينتج عن هذا عملية الوعي العميق للجابري بمقتضى التداول الإيديولوجي العربي القائم، بالرغم من انتقادات كمال عبد اللطيف في كل مرة وحين بأن الأمر هنا، يتم من خلال عقل التوافق لا نقد العقل مادام في نهاية المطاف أن الديمقراطية هي ثابت من ثوابت العلمنة.
من هنا يسعى الجابري في سياق بناء الفكر العربي أو المشروع النهضوي العربي إلى نقد الأساس المعرفي؛ أي كيفية تصور المثقف العربي لفكرة الديمقراطية والعقلانية والشورى والدين والعروبة..وذلك حتى لا يقع في نقد إيديولوجي للايدولوجيا.(33)
إن الكتابة في شؤون التراث لا تخلو من الهاجس الإيديولوجي، مهما حضر البعد المعرفي بثقله الإجرائي والوظيفي.لذا لا نعجب من محاولة الجابري لبلورة موقف تركيبي، يجمع بين حسه المنهجي وبين موقفه الإيديولوجي المتزن، حينما ينخرط في تفكيك الخطاب ونقد المنتوج النهضوي العربي العام. ألم تر كيف انتقد الجابري مسألة العلمانية، باعتبارها مسألة مزيفة لأنها لا تتطابق مع حاجيات المجتمع.(34) ولعل المطلوب وفق الحاجة الإيديولوجية العربية هو تعويض العلمنة بشعاري "الديمقراطية والعقلانية"، "فهما اللذان يعبران تعبيرا مطابقا عن حاجات المجتمع العربي"(35) الايبيستيمولوجية، بأن الانتماء إلى نفس الإشكالية، نفس الحقل المعرفي لا يعني بالضرورة "الانخراط في نفس الإيديولوجي(...)، بل إن ما يحصل في كثير من الأحيان هو أن تحمل المنظومة المعرفية الواحدة، بل للفكرة الواحدة مضامين إيديولوجية مختلفة".(36)
لا يخفى على ذي بصيرة، أن استغراق المثقف الإيديولوجي العربي اليوم ضمن وحدة إشكالية، قد أضحى من الأمور غير الملائمة من أجل بناء عقلانية نهضوية متوازنة. بعبارة أدق، لقد استبد في الفكر العربي عملية التصنيف والمماثلة الخاطئة بين المثقف والمنظور الإشكالي الذي يقارب به الواقع:" إشكالية المثقف القومي هي الوحدة،وإشكالية داعية التاريخانية هي الثورة الإيديولوجية،وإشكالية السلفي هي الإصلاح..".(37)
ويتحصل من هذا، أن هناك إجماعا بين هؤلاء المثقفين العرب أن الواقع متردي ومتخلف عن مراكب النهضة وموجات الحداثة؛ فمتى علمنا أن المثقف العربي هو صدى لواقعه المأزق : سياسيا واقتصاديا وفكريا، فإن تبديد عملية المماثلة،كما قلنا،بين الإشكالية وطبيعة الرؤية الأيديولوجية، إنما يستلزم حتما، توسيع رقعة القراءة لمشاهد المجتمع وتطور الأفكار والتصورات.
إذ بهذا الاعتبار، صارت العقلانية النهضوية في فكر الجابري خطوة متقدمة لترسيخ ما نسميه " التعدد الإشكالي". وهذا معناه، قدرة المثقف القومي العربي اليوم على اشتكال أو استشكال المفهوم في علاقتها بالمفاهيم الأخرى؛ فالوحدوي لم يعد الآن محشورا في دائرة الوحدة ، وإن كانت هي الغاية والنهاية، بل أضحى يفكر في الوحدة من خلال الدولة القطرية كقوة دافعة لتحقيقها في أتون التجارب. يقول الجابري:" قيام الدولة القطرية العربية أولا ودخولها في مرحلة "التشبيع" من الذات ثانيا. ونحن نقصد ب"الشبع" من الذات الحاجة إلى تأكيد الذات والدخول في "التاريخ" من جهة، والشعور بالقصور الذاتي والعجز التاريخي من جهة أخرى".(38) واللازم من هذا، أن فكرة المماثلة المغلوطة بين التجزئة والوحدة، التي سادت في العقود الماضية عند القومي العربي لا مقتضى لها اليوم، إذ استجدت ديناميات اجتماعية وفكرية وسياسية داخل نظام الفكر والواقع أسهم في هذا التحول التصالح الإشكالي، إن صح التعبير، ما بين الدولة القطرية والوحدة العربية..
ومن البين أن وثيقة المشروع النهضوي العربي التي أشرف عليها مركز دراسات الوحدة العربية، قد رسمت معالم رؤية رصينة في منأى عن انتظار الانتقال الديمقراطية للدول القطرية؛ حتى يتم طرح فكرة الوحدة كقضية مصيرية للوجود العربي..تقول الوثيقة:"لا نهضة للأمة من دون وحدتها القومية وهذا ليس مبدأ نظريا نستفيده بعملية استنباط ذهني،بقدرما هو ترجمة مادية،وحصيلة موضوعية للسيرورة التاريخية التي قطعتها مجتمعات وأمم في سبيل تحقيق نهضتها،التي أتى انجازها وحداتها القومية المدخل إليه والرافعة السياسية التي عليها قام". (39)
إذن، فالديمقراطية في عقلانية الجابري النهضوية هي الشرط أو بلغة المناطقة، المقوم الذاتي للوحدة. وبهذا، فان الديمقراطية هي الرهان في "الاعتراف بجميع الدول العربية بحق مساو في هذه الوحدة مادامت الوحدة لم تتطور إلى مرحلتها الأخيرة مرحلة إلغاء الدولة القطرية"،(40) وهذا بطبيعة الحال، وهذا لا يفوت الجابري، من إعادة التفكير في الوحدة والعروبة ذاتها، إذ من غير المعقول مطالبة الدولة القطرية بالتحول الديمقراطي من دون التفكير في جوهر المشروع النهضوي العربي هو الوحدة. وبالتالي، فالمراجعة هي مراجعة مزدوجة. ولعل هذا الهاجس في المراجعة النقدية هو ما عبر عنه بلقزيز حينما اصدر كتابه: "نقد الخطاب القومي" (منشورات مركز دراسات الوحدة العربية/2010). فالعروبة في الفكر العربي المعاصر، لم تعد تتأسس على رابطة العرق والدم، بل امتدت إلى المعنى الحضاري من حيث هو" رابطة ثقافية- لغوية- اجتماعية صهرت العرب وغير العرب في شخصية حضارية جديدة".(41)
فانظر كيف ينفض الواقع العربي المعاصر عن ذاته غبار الاستبداد والاهانة والتهميش والإقصاء عن طريق الثورات والانتفاضات الشعبية من أجل التجديد الحضاري- الوحدة- الديمقراطية-التنمية المستقلة-العدالة الاجتماعية، وهي جوهر العقلانية النهضوية العربية. ويتحصل من جميع ما تقدم،أن مشروع نقد العقل العربي لمحمد عابد الجابري يميز بين مراتب من العقلانية، وهما: العقلانية الايبيستيمولوجية والعقلانية النهضوية.
وأما الأولى، فتتمحور في الجانب المنهجي والأداتي أو قل منطلقات الرؤية وخطوات المنهج التي تم تحديد معالمها البارزة منذ مؤلفه الأساس: "نحن والتراث". وأما العقلانية النهضوية أو ثقافة النهوض، فهي التي تتمثل في انخراط الجابري في إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر، وهي عقلانية مطبقة على حد تعبير غاستون باشلار. وذلك لأنها تتوسل بالعقلانية المنهجية (الايبيستمولوجية) في مراجعة مفاهيم: الوحدة والديمقراطية والدين والدولة والمسألة الاجتماعية.. وهي أمور تستلزم تفاعل المعرفي بالإيديولوجي بصورة كبيرة.وبهذا الاعتبار،فإن العقلانية النهضوية العربية في فكر الجابري هي "لحظة الاتصال" على وجه التدقيق من حيث هي عملية الإبداع والتجديد وفق مقتضى التحولات الاجتماعية والفكرية والسياسية العربية المشهودة. ولعل مشروع النهوض العربي يحتاج إلى تجريح تصورات خلاقة وصوغ مقولات مثمرة، كلما حصلت ديناميات تنم عن مراحل الانتقال والتحول.
من المعلوم أيضا، أن العقلانيتين أعلاه،عقلانية واحدة بالذات ومتعددة بالاعتبار، أو قل هي عقلانية واحدة لها استعمالان. من ثمة، كان الجابري يحلم بكتابة تاريخنا الثقافي العربي بصورة عقلانية وبروح نقدية نابعة من صلب التراث العربي الإسلامي، وهواجس الأمة العربية وآمالها.
وبكلمة، إن العقلانية عند ناقد العقل العربي تتأرجح بين هدفين كبيرين، هما:"التراث ومشكلة المنهج" و"النهضة ومشكلة العقلانية".
*يوسف بن عدي أستاذ باحث في شؤون الفلسفة – المغرب