حياة فريق العمـــــل *****
عدد الرسائل : 1546
الموقع : صهوة الشعر تعاليق : اللغة العربية اكثر الاختراعات عبقرية انها اجمل لغة على الارض تاريخ التسجيل : 23/02/2009 وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 10
| | مفارقات التنمية وفق النموذج الغربي | |
هل حلت نهاية العقائد (الأيديولوجيا) كما يدعي الغرب؟بعد انهيار المعسكر الاشتراكي وتفكك الاتحاد السوفييتي حلا لأتباع الغرب بمدارسه المختلفة أن يعلنوا نهاية عصر العقائد، ولكن فضلا عما في هذا الحكم من تجاوز يغض النظر عن العقائد الغربية التي اكتسحت العالم كفكرة صراع الحضارات وفكرة نهاية التاريخ ومعتقدات المحافظين الجدد الذي تسلموا الحكم في الولايات المتحدة زمن بوش الابن[1]، فإن كبير اقتصاديي البنك الدولي السابق جوزيف ستيغليتز يؤكد في شهادته "خيبات العولمة" أنه حتى في المجال الاقتصادي كانت العقائد هي المنطلق في سياسات المؤسسات الاقتصادية الأبرز في الغرب وهي البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية كسياسة التقشف وسياسة التخصيص وسياسة تحرير الأسواق، وهي سياسات سماها قانون الإيمان ذا البنود المقدسة، وهي تسمية أكدها باحثون آخرون[2]، كما وصف هذه المؤسسات ب"التعصب الأعمى" لهذه المعتقدات الصالحة في نظرها لكل مكان في العالم رغم الكوارث التي نتجت عنها[3]، والتي لا يُكتفى بصرف النظر عن إخفاقاتها بل تقوم هذه المؤسسات بمزيد من الدفع للاستمرار في تطبيقها[4] فيما يشبه تماما التعصب الكهنوتي المخالف لحقائق الواقع، ويصف الظاهرة بقوله: "والأيديولوجيا تمثل موشورا يُرى العالم من خلاله، مجموعة من المعتقدات التي يتشبث المرء بها بقوة تجعله لا يبحث عن تأكيد حسي لها، والبراهين التي تناقضها تُرفض باختصار "وهو ما ينطبق على صندوق النقد وأمثاله[5] إلى درجة وصلت إلى الإيمان بالعصمة الذاتية[6]، ولهذا فقد وصف باحث من العالم الثالث المؤسسات الاقتصادية الدولية بالكهنوت العالمي الذي يعتقد بعناد بعصمة عقيدته الواحدة المستمدة من مبادئ إجماع أو توافق واشنطن[7] (اتفاق بين وزارة الخزانة الأمريكية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي على السياسات الاقتصادية التي يجب أن تتبعها الدول النامية)، ولأجل ذلك لم تعترف بالأخطاء ولم تحاول استنباط أفكار جديدة[8] وذلك على عكس ما سمي آلية التصحيح الذاتي في الأنظمة الديمقراطية واتخذت دليلا على مقدرتها على الاستمرار في النجاح، ولنا ألا نعجب من ذلك لأن الرأسمالية نفسها التي تعمل هذه المؤسسات وفقا لقواعدها كانت منذ البداية عقيدة مستقلة وقائمة بذاتها، وقد وصفها الخبير الاقتصادي الراحل يوسف صايغ بالعقائدية في رده على من تخوف من هذه الصفة وألصقها بالتجارب الاشتراكية العربية ونسب إليها سبب فشل التنمية في الستينات[9].ولم تقتصر النوازع العقائدية على كل ما سبق، فقد استخدمت الولايات المتحدة، ومازالت، العقيدة الصهيونية، الغارقة في الاعتماد على أساطير الماضي الدينية المنافية للعقل العلماني الذي يدعيه الغربيون، في عملية تحقيق مصالحها في الشرق العرب الإسلامي بواسطة الاستيلاء على فلسطين وتنميتها دون أهلها، كما جاء في دراسة سابقة (التنمية العربية على الطريقة الأمريكية/2).عندما كان النموذج الغربي هو الطريق الوحيد إلى التنمية؟ضمن رؤية الغرب القائمة على تفوقه على غيره والتي تعود إلى عصر الاستعمار والهيمنة، كانت النظريات الاقتصادية تؤكد أن للتطور طريقا واحدا لا شريك له هو الطريق الذي اتبعه الغرب فوصل به إلى قمة الهرم البشري في التقدم، وحتى النظرية الماركسية التي سعت إلى إزالة الرأسمالية جعلت من نموذج التاريخ الأوروبي كما تصورته نموذجا عالميا على جميع المجتمعات أن تمر فيه - وربما تخضع لرأسماليته- قبل أن تصل النهاية السعيدة المنشودة التي أصبحت فيما بعد هي النموذج الرأسمالي في الاستهلاك، وأصبح المطروح أمام دول العالم الثالث التي خرجت من مرحلة الاستعمار طريقين هما في الحقيقة ترجمتان لنص غربي واحد يقيس التقدم بمقياس كمي[10].وقد دعم انهيار المعسكر الاشتراكي الرؤية الرأسمالية التي أعلنت الوصول إلى النهاية السعيدة بانتصار الليبرالية طريقا وحيدا للتقدم، ولكن التاريخ رفض إعلان نهايته فقدم حقائق دامغة على حيويته وتجدده مما جعل سدنة إعلان وفاته يرتدون فيما بعد عن عقيدتهم[11]، وقد احتوى هذا النموذج الغربي في التطور على تناقضات جعلت تكراره مستحيلا أو مدمرا وهو على كل حال ليس الفردوس الأرضي الموعود.نفاق التغريب الاقتصادييطالب الغرب عموما والولايات المتحدة خصوصا دول العالم بتحرير التجارة وكف يد الدولة عن التدخل في الاقتصاد بصفة ذلك وصفة للنمو الاقتصادي والطريق نحو الازدهار[12]، وهذه وصفة لا تقتصر على إغفال تاريخ النمو الغربي إذ أدت الدولة دورا محوريا في دعم الاقتصاد الوطني[13]، بل إنها تنكر على الآخرين في يومها هذا ما تشرعه لأصحابها[14]، فالدول الغربية التي ما انفكت تطالب بتحرير التجارة وإزالة الحماية الجمركية، تمارس هي اليوم هذه الحماية ضد صادرات العالم النامي التي تهدد صناعاتها ويشرع هذا الأمر بقوانين غريبة[15]، ولا يتردد البنك الدولي مثلا في انتهاك قواعد السوق الحرة وذلك حين يتدخل بالمليارات لإنقاذ المستثمرين والدائنين الدوليين في بلاد كإندونيسيا وتايلند ملقيا العبء على المواطن المحلي العادي، ولهذا ليس من العجيب ألا ينجز تحرير التجارة وعود الرخاء التي قطعها والتي لا يملك الضعفاء إلا تصديقها بل اعتناقها وإلا تعرضوا للنبذ الدولي، ومع ذلك لا تكون النتيجة إلا مزيدا من البطالة المتفشية والفقر الكارثي وزيادة البعد عن التحول إلى رأسماليات صناعية حديثة[16]، وهذه هي نتيجة التغريب الاقتصادي الذي لا يعامل الآخر - الذي صدعونا بدروسهم المملة عن قبوله- كما يعامل النفس[17] ولا يأمره بما هو صالح له بل بما يحقق مصالح الغربيين وحدهم، وغاية التجارة الحرة لم تكن مساعدة البلاد المتخلفة في التنمية بل البحث عن الزبائن[18]، كما أن البلاد الوحيدة التي تمكنت من الهروب من التخلف هي البلدان التي مارست فيها الدولة تدخلا لصالح رأسمالييها مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة وتايوان[19]، وهذه هي قصتنا مع التغريب عموما منذ البداية، فلم نصب خيرا من اتباع أوامره يوما.وقد استخدمت دول الشمال الغنية إمكاناتها المالية الضخمة لدعم صادراتها إلى دول الجنوب المستورِدة بطرق تناقض ما ترضاه لأنفسها أيضا، فقدمت لها معونات غذائية حولت متلقيها تدريجيا إلى الاستيراد المنتظم ومارست بتوسع سياسة الإغراق (أي بيع المنتجات بأقل من قيمتها في البلد المستورد) مما ترفضه الدول الكبرى داخل حدودها ولكنه يشجع إنتاجها عند ممارسته في الخارج ويضع العوائق أمام التنمية الزراعية لدول الاستيراد، وكل ذلك بإسم المعونة الإنسانية التي لو وزنت بهذا المعيار فإنها تكون جزءا بسيطا فقط من تلك المعونات الكبيرة"من أجل السلام"![20]وبعدما قلت أهمية المعونات الغذائية في نهاية الثمانينات حل محلها الدعم المالي لأجل التصدير وهي ممارسة تلقى ترحيبا من الدول المتلقية ولكنها تترك آثارا مدمرة على الإنتاج المحلي[21] ولعلنا نعاين هذه الآثار في البلاد العربية التي كانت سلالا للغذاء فتحولت مع المعونات إلى أسيرات للدول الكبرى.وفي الوقت الذي تطالب الرأسماليات الكبرى بحرية التجارة ورفع الحواجز أمام انتقال رؤوس الأموال حين يوافق مصالحها، فإنها تضع الحواجز المقننة أمام الهجرة بحثا عن العمل، كما لا تسمح القوى الغربية الكبرى بانتقال التقنية بقوانين صارمة لحماية الملكية الفكرية[22]، أي أنها تفصل حرية الساحة الاقتصادية العالمية على المقاس الضيق لمصالحها، وتتناسى مثلا الدور المحوري الذي أدته الهجرة الحرة من قارة أوروبا في دخولها العالم المعاصر وذلك حين غادرها أكثر من ستين مليونا من سكانها في غضون قرن تقريبا إلى قارات العالم دون تأشيرات دخول إليها مما أنزل عن كاهل الغرب عبئا سكانيا ضخما تحمل الآخرون وزره[23]، كما لم تقف في وجه التقدم الأوروبي عوائق الملكيات الفكرية، ولهذا علقت الباحثة صوفي بيسيس على هذه المفارقات بالقول إن سياسة فرض الليبرالية تسمح للقوى التجارية العظمى بإزالة العقبات التي تعيق التوسع في صادراتها إلى العالم وتمكنها من الاحتفاظ لأنفسها بإمكانية إجراء مناورات حمائية عندما لا تكون متأكدة من أن حرية التجارة مواتية لها تماما[24].من أين جاء الضرر؟يقول جوزيف ستيغليتز إن صندوق النقد الدولي لم يقصد قط أن يؤذي الفقراء وكان يظن أن سياسته ستكون في النهاية مفيدة لهم[25]، وربما نستطيع تعميم هذا الحكم على بقية المؤسسات الاقتصادية الغربية، ولكن من يقول إن الأخطاء البشرية ترتكب بنية الأذى نحو الآخرين؟ إننا لو بحثنا في كبرى الجرائم التاريخية سنجد أن فاعليها ادعوا أنها مفيدة لهم وللضحايا في نفس الوقت: الحروب الكبرى والاستعباد والعنصرية والاستعمار بل حتى الإبادة بررت أحيانا بإنقاذ الضحية أو بأنها ضرر غير مقصود حدث في سياق هدفه المنفعة العامة، "فمن النادر أن نرى في النقاش السياسي العلني، أناسا يبررون مواقفهم صراحة بالحرص على مصالحهم الشخصية، فكل شيء يُعرض بكلام عن المصلحة العامة"[26] كما يقول بنفسه دون أن يصل إلى النهاية المنطقية بفضح الخطيئة في هذه الازدواجية التي لا تجهل نتائج أفعالها وتصر على غض النظر عن أخطائها كما سبق الاقتباس عنه.مشكلة الإنسان منذ بدء الخليقة ليست تعمده الإضرار بغيره بلا سبب، فلا أحد يعتدي على غيره بلا مصلحة إلا المرضى وهؤلاء لا حكم لهم إلا عند الأطباء، معضلة الإنسان هي كيف يهذب أهواءه بطريقة تمنعها من العدوان حين تقتضيه مصالحه، وهنا يكون الفارق بين الصالح والطالح، وكما يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري لا يكون الحكم على النازية في طوكيو مثلا حيث تبدو مجرد فكرة تدافع عن حقوق الألمان وتراثهم، بل يكون الحكم عليها في البلاد التي اعتدت عليها حيث الإبادة والتشريد والاغتصاب والنهب والدمار وغير ذلك مما اقتضته المصالح كما شخصها هتلر، وكذلك لا يبرأ المؤسسات الاقتصادية الدولية أنها لم تنو الإضرار بالفقراء، فهدف النازية أيضا لم يكن إحداث الضرر بل الوصول إلى المجتمع الألفي السعيد، وما يدينها أنها سعت لخدمة مصالح الآريين دون اهتمام بغير المصطفين عندها، وكذلك المؤسسات الاقتصادية الدولية حين ركزت الاهتمام على المصالح التجارية والمالية للأسرة المالية المكونة من أوساط محددة داخل الدول الصناعية المتقدمة كما يقول ستيغليتز نفسه، وغضت هذه المؤسسات النظر عن كل النتائج الوخيمة التي ترتبت على سياساتها الضارة بالفقراء وذلك استجابة لإيمانها بأولوية مصالح الدائنين[27]، والشر ليس أكثر من هذه الأنانية: إهمال الآخرين، أو جعل مصالحهم ملحقة، حين تدعو مصالح الذات لذلك.والفرق بين الغرب وبقية الحضارات التي سبقته أنه شرع المنفعة وأعطاها أولوية شرعية على القيم والمثل، وذلك رغم كل مساحيق التجميل التي صورت الأمر بأنه المنفعة العامة فما استقر السلوك الاجتماعي عليه هو المنفعة الذاتية بلا رادع سوى القانون الذي لا يكون رادعا في العلاقات الدولية وذلك لعدم توفر هيئة تنفيذية فوق الدول، فأصبح الإنسان فيه حرا طليقا في "البحث عن السعادة"ولو على حساب أية قيمة أو مثل أعلى وهو ما كان في السابق من الأخطاء مهما تعمد الإنسان الانتهاك وغلا في العدوان إذ ظل الميزان سليما يدين الهوى أما في حضارة الغرب فقد أصبح الهوى هو الميزان أي الخصم هو الحكم فمن أين يأتي رادع بعد ذلك خارج إطار عصا القانون عندما يغيب فرضه بالقوة كما يحدث على الساحة الدولية مثلا؟ماذا تبقى من الديمقراطية في ظل الأرستقراطية الاقتصادية الجديدة؟رغم الصراخ المستمر الذي يصم الآذان عن ضرورة الديمقراطية وحقوق الشعوب في المشاركة والرقابة على حكوماتها، فإن النظام الدولي الذي صنعه الغرب لم يبق شيئا ملموسا من جوهر الديمقراطية التي اكتسحتنا جيوشه لفرضها علينا، فالشركات متعددة الجنسيات أصبحت تمتلك قوة متزايدة في تقرير مصير كثير من القضايا التي كانت حتى الأمس القريب من اختصاص الحكومات كقيمة العملة وأسعار الطاقة والغذاء والمواد الأولية، وبات الأشخاص المجهولون غير المنتخبين يتحكمون في مفاصل الحياة اليومية دون أية مسئولية عليهم سواء في زيادة البطالة أو تخريب البيئة أو دعم الأنظمة القمعية، ولم يعد المواطنون يؤثرون في إدارة شئونهم لأن حكوماتهم عاجزة عن التغيير بل إنها تعمل وكلاء لصالح هذه الشركات العملاقة[28]، ولهذا أطلق عليها الباحث البيروفي أزوالدو دي ريفيرو لقب الأرستقراطية العالمية الجديدة.ويشير الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله إلى أن هذه الشركات عابرة القارات هي أهم آليات العولمة، ولكن لا يُشار إلى أن غالبيتها العظمى غربية الانتماء[29] ومعظمها أمريكية مركزها واشنطن، وعالميتها تعني انتشار فروعها في أنحاء العالم حيث ساحة عملها وليس هويتها[30]، ولهذا لم يكن من الغريب أن تتحول الحكومات الغربية إلى وكلاء عن هذه الشركات[31] رغم التزامها معايير الربح والمنفعة التي لا تؤدي دائما إلى المصالح العامة لدولها[32]، مما يؤدي إلى اعتراض النقابات - التي ما تفتأ تعلن تضامنها مع عمال العالم- على إجراءات نقل مواقع العمل إلى بلدان العالم الثالث نقلا يؤدي إلى رفع مستوى العمل فيها وتحمل هذه النقابات هذه البلدان مسئولية البطالة في بلدان الشمال الثرية[33] في الوقت الذي لا تدعم فيه الحقائق والإحصائيات هذه الدعوى[34]، هذا بالإضافة إلى أن تاريخ الغرب يؤكد أنه هو الذي حرم الآخرين من التصنيع حين فكك صناعات الصين والهند وغيرهما لصالح صناعاته وليس العكس هو الذي حدث أو يحدث، ومع ذلك يستنكر الغربيون أن يحدث لهم ما سبق أن فعلوه بالآخرين[35].وماذا تبقى من بقية الديمقراطية في ظل ثيوقراطية الكهنوت الجديد؟مر فيما سبق أن المنظمات الاقتصادية الدولية تسير وفق سياسات عقائدية رأسمالية وتفرضها على الدول المدينة دون أن تتحمل مسئولية أمام أحد، ولهذا تقوم الحكومات المتخلفة بالخضوع لهذا الكهنوت - وفق تسمية دي ريفيرو- وتمرر سياساته التي تتحكم في حياة مواطنيها دون موافقتهم ودون تحقيق نتائج إيجابية أيضا سوى الدمار الاجتماعي والفشل في التحديث[36]، وذلك رغم "الطاعة العمياء" التي تبديها هذه الحكومات، ولم تساعد هذه السياسات إلا في زيادة الطلب على منتجات الشركات متعددة الجنسيات[37]، فيما نراه تحالفا جديدا بين الأرستقراطية والكهنوت العلمانيين الجديدين.ويسلم جوزيف ستيغليتز بمناقضة هذا الوجه العولمي لمبادئ الديمقراطية عندما يفرض على الدول سياسات لم تخترها، ويشجع هذه الدول على رفض الانصياع بقوله إن البلدان التي رفضت مطالب صندوق النقد الدولي تمكنت من تحقيق نمو أسرع وإنه على الدول أن تقرر الحد الذي لا تقبل بعده بالخضوع لأسواق الرساميل الدولية التي تمثل الديكتاتورية المالية العالمية التي حلت محل النخب الديكتاتورية المحلية[38].وتجمل الباحثة بيسيس توزيع السلطة في عالمنا المعاصر بين الدول العظمى وبعض دول الجنوب الناهض وكبرى الشركات عابرة القارات والمؤسسات المالية الدولية المهمة ثم تعيد معظم الأمر إلى الدول العظمى بالقول إنها هي التي أملت على المؤسسات المالية والتجارية السياسات المتبعة تجاه الجنوب الفقير في حقول الديون وحرية التجارة وغيرها[39].التنمية على الطريقة الغربية حلم خرافيفي عالم اليوم يملك 20% من سكان العالم، وهم سكان الشمال الغني، أكثر من 80% من موارده، في الوقت الذي يملك 60% من سكان العالم، في الجنوب الفقير، 6% من هذه الموارد فقط، بل إن الخمس الأفقر من سكان العالم يمتلكون أقل من واحد ونصف في المائة من الموارد[40]، ومن الطبيعي أن يكون هذا النموذج الاستهلاكي الغربي غير قابل للتعميم على سكان الكرة الأرضية خلافا لما تروجه وسائل الإعلام من أحلام مستحيلة إلا في حالة وجود عدة كواكب أخرى مماثلة لتزويدنا بموارد إضافية بالإضافة إلى كواكب أخرى للتخلص من النفايات[41]، وكان الاتحاد السوفييتي بكل إمكاناته الضخمة قد حاول اللحاق بمستوى الاستهلاك الغربي، في انحراف عن الفكر الاشتراكي، فكانت النتيجة أن استُنزفت إمكاناته ووصل إلى طريق مسدود انتهى بتفككه وزواله[42]، فكيف يكون الحال مع الدول الفقيرة التي دخلت هي الأخرى بالفعل في دوامة اللحاق بالنموذج الغربي الذي لم يكن أمامها بديل عنه فشجعها على خوض التجربة حزمة المعونات الضئيلة ثم الديون الضخمة التي حصلت عليها فلم تجن هي غير تخريب المصالح الذي أصاب ثلاثة أرباع العالم بالتبعية عن طريق هذه المعونات واستفحال الديون التي أدخلتها بدورها في برامج التكيف الهيكلي التي فرضت عليها إجراءات لا تقبل بها أية حكومة غربية لنفسها (مثل تخفيض ميزانيات الصحة والتعليم وإلغاء دعم المواد الاستهلاكية الأساسية من الغذاء والطاقة) واستفادت من هذه الإجراءات نخب محلية فاسدة في الوقت الذي كانت فيه هذه الديون تعود على الدائنين بمليارات تحوّل من البلاد الفقيرة رغم الزعم أنها لا تسدد ما عليها، كما كانت هذه البرامج التنموية "منجما من الفرص"للغرب سواء في مواقع العمل التي افتتحتها المعونات والديون التي صدّرت مشاريع لا جدوى منها للسكان المحليين على طريقة تسليم المفتاح[43]- أي بناء المشروع بخبرات أجنبية دون أن يكون له صلة بالمجتمع المحلي الذي يتسلمه جاهزا للتشغيل دون استيعاب مكوناته- أو بشراء معدات عسكرية باهظة الأثمان أو بتعزيز الصادرات التي لم يعد لها مشتر في الغرب أو بسداد الديون التي استنزفت المدينين، وبالجملة فقد أهملت هذه المحاولات "المحاكاتية" تاريخ النموذج الغربي والظروف التي أحاطت بنشوئه (داخليا حيث مرت فترات طويلة من التراكم الرأسمالي الذي دعمته تجارة وزراعة مزدهرتان وخارجيا حيث سيطر الغرب على العالم الذي امتص فائضه السكاني ووفر له ثروات طائلة من المواد الخام والأسواق والمواقع الهامة)، أي أن هذه المحاكاة اهتمت بترقيعات وإسقاطات لم تغير واقع التخلف وعززت التبعية للغرب وزادت من الهوة بين الشمال الغني والجنوب الفقير[44].ولو كانت التنمية الغربية ممكنة فهي نموذج مدمِّر1- لأنه نخبوي يشبع الأقلية الثرية ويغوي ثم يحبط الأكثرية المحرومة: إذ أننا نعيش على هذا الكوكب ولا نملك غيره، ولهذا فإن الرفاهية التي يتمتع بها خمس العالم تتحقق على حساب بقية السكان مما يؤدي إلى تهميشهم وإقصائهم، وأرقام الفقر في هذا المجال مخيفة كما مر، ومن تفاصيلها أنه في عام 2000 كان أكثر من مليار وربع من سكان العالم يعيشون دون مستوى خط الفقر المحدد بدولار يوميا، في الوقت الذي يملك فيه أقل من مليارين فقط من البشر البالغ عددهم آنذاك ستة مليارات نسمة وسائل استهلاك المنتجات والخدمات العالمية، هذا ونجد قريبا من ثلاثة مليارات من البشر لا يملكون سوى التفرج على واجهات المحلات إذ يعيشون بأقل من دولارين في اليوم، ويساوي دخلهم جميعا وهم يؤلفون 45% من سكان الأرض دخل 300 ملياردير فقط في العالم[45]، أي أن الفقر هو القاعدة في عالم تسوده حضارة الغرب، حتى في البلاد التي يشار إلى إنجازاتها التنموية كالصين والهند والبرازيل فضلا عما يسمى بالنمور الآسيوية الحديثة، إذ أن الزيادة في الناتج القومي الإجمالي لا تصنع شيئا لتحسين مستوى معيشة غالبية السكان[46]، وقد قدر الفيلسوف الراحل روجيه غارودي نسبة المستفيدين من سكان دول المعجزات التنموية بما بين 2- 3% [47]، وإذا كانت نقطة ضعف الاقتصاد الغربي المسيطر على العالم هي فقر العالم الثالث وعدم قدرته على الشراء، رغم سيطرة أحلام الثراء والاستهلاك على معظم فقرائه، فقد تكيف هذا النظام معها لأنه لا يستهدف الوصول إلى جميع السكان في البلدان المتخلفة بل يقتصر على الأقليات ذوات القدرة الشرائية، ومن بين مليار هندي مثلا، يستهدف السوق الغربي الخمس الأغنى منهم القادر على دفع الثمن، وهو أمر كاف له حاليا، ويستمد هذا السوق قوة حضوره من شدة إغواء الاستهلاك الذي لا يبدي أحد من الأغنياء أو الفقراء في العالم نيته بالتخلي عنه أو عن الحلم به[48] ولهذا يندفع الجميع نحو الوصول إلى مستويات عالية فيه رغم أن القلة هي التي تتمكن من ذلك فعلا وربما كثيرا ما رأينا مظاهر الاختلال في أولويات الإنفاق عند الفقراء في سعيهم للوصول إلى هذه الجنة الحصرية مثل مشهد طفل حافي القدمين يحمل هاتفا نقالا أو بيت متداع يحمل سطحه عددا كبيرا من الصحون اللاقطة، وإذا كان هذا الإغواء المؤدي إلى الشعور بالحرمان ومن ثم الاختلال الاجتماعي ضارا بالاستقرار الذي يبحث الغرب عنه للوصول بأمان إلى مصالحه، فمؤسسات العولمة الغربية لا تبحث عن الاستقرار المؤدي إلى النمو ولا تهتم بالرأسمال الاجتماعي وتتغلب فيها المصالح الخاصة على الأهداف الوطنية والعالمية باعتراف كبير اقتصاديي البنك الدولي سابقا[49] رغم أن "النقمة التي تولدها هذه الأساليب هي أكبر بكثير من كل ما قد تعود به على الولايات المتحدة" كما يقول بنفسه من موقع خبرته[50]، وسيشير فيما بعد بمعالجة هذه "المشكلة الأساسية" بصفتها أفضل طريق للنمو كما سيأتي بعد قليل، ولكن زعماء الدول الكبرى ورؤساء الشركات متعددة الجنسيات والقائمين على المؤسسات الاقتصادية الدولية لا يشعرون بالتهديد الذي يمثله الفقر والاضطراب الاجتماعي لأنهم لا يشعرون بتأثيراتها التي يعاني منها معظم سكان العالم، ولهذا كان تشخيص الاستقرار المطلوب لا ينطبق مع النظرة بعيدة المدى ويفضل الانتقائية في تشخيص الأخطار حسب قربها من الغرب[51]، في الوقت الذي تزداد الفجوة بين الفقراء والأغنياء في العالم كله[52].ومن مظاهر النخبوية في الحل الغربي أنه من بين أكثر من مائة وتسعين دولة في العالم لا يحقق شروط النمو الصناعي الحديث من بينها سوى أربعة وعشرين بلدا في مقدمتها الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي واليابان[53]، ومع أنها تحوي نسبة كبيرة من الفقراء يصل عددهم إلى مائة مليون، فإن الفقر في بقية دول العالم يزيد عن ذلك بأضعاف، ففي بداية التسعينات كان معدل "الفقر" في أمريكا وبريطانيا واليابان، والمحسوب بدخل أقل من 14 دولارا ونصف يوميا يصل إلى 10% من السكان، ومع ذلك الدخل المرتفع نسبيا فإن معدل الفقر في أمريكا اللاتينية وجنوب آسيا وإفريقيا، والذي يقل الدخل فيه كثيرا عن ذلك "الفقر" الغربي ويحسب بأقل من 1- 2 دولار يوميا، يصل إلى أكثر من 35% من السكان[54]، فكيف إذا حسبنا من يقل دخله عن 14 دولارا ونصف؟؟ وما زالت الهوة تتسع بين الغنى والفقر، فمن تفاوت في الدخل قدر بنسبة 1: 30 في سنة 1960، أصبحت النسبة 1: 80 في نهاية القرن العشرين[55]، وقد عد الاقتصادي المعروف جوزيف ستيغليتز آنف الذكر، عدم المساواة السائد في اقتصاد الولايات المتحدة السبب الرئيس للضعف الكامن في البنية الاقتصادية المتمثل في قلة الطلب، والعامل الذي يعيق الاقتصاد ومعالجته هي"أفضل وسيلة لتعزيز فرص العمل اليوم والنمو الاقتصادي المستدام في المستقبل"[56].2- وعدواني: هذا الثمن الباهظ من التضحية البشرية ليس وحيدا، فقد بنى الغرب الأوروبي والأمريكي نموه على إبادة سكان ثلاث قارات هي أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية وأستراليا واستعباد سكان الرابعة وهي إفريقيا واستعمار الخامسة وهي آسيا وتدمير حضاراتها الصينية والهندية والإسلامية، وتحويل العالم إلى مجرد سوق للصناعات الغربية ومصدّر للمواد الأولية ومصدر للعمالة الرخيصة، ودون هذا الثمن الباهظ جدا ما كان للغربيين أن يصلوا إلى ما وصلوا إليه اليوم من نمو ومستوى معيشة مرتفع مما جعل المفكر الراحل الدكتور عبد الوهاب المسيري ينفي مقولة التراكم الرأسمالي ويعدلها إلى التراكم الإمبريالي لأن رفاهية الغرب لم تأت من كده وحده بل بنيت على استغلال الآخرين وثرواتهم[57].3- وملوث: ولم يقتصر الأمر على الثمن البشري الذي دفعه ويدفعه العالم نتيجة النموذج الغربي في النمو، لأن الثمن البيئي والإضرار بالحياة باهظ أيضا، ويتساءل باحث من العالم الثالث عن حجم الضرر الذي سيلحق بالبيئة والحياة إذا عمم مستوى المعيشة الغربي على جميع سكان الأرض فأصبح كل فرد من سكان آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وهم ثلاثة أرباع العالم، يستهلك الواحد فيهم ما بين4- 7 أطنان من النفط ويطلق من الغازات الملوثة زيادة على ما أطلق منذ الثورة الصناعية لترتفع درجة الحرارة وتحدث تغيرات مناخية إضافية من جفاف وأمطار جارفة وذوبان الجليد وغير ذلك[58] مما سيؤدي إلى كارثة بيئية عالمية[59]، ولهذا رفض الفيلسوف الراحل روجيه غارودي تحميل مسئولية التلوث واستنفاد الموارد الطبيعية لزيادة سكان العالم الثالث وحدها "ذلك أن عشرة ملايين من الغربيين يستهلكون ويلوثون أكثر مما يفعل، على المستوى الحالي، أربعة مليارات من الفلاحين الهنود" | |
|