10 يناير 2014 بقلم
محمد نور الدين أفاية قسم:
الدين وقضايا المجتمع الراهنة حجم الخط
-18
+ للنشر:عندما تتعرض ثقافة ما إلى إرادة للقوة تستهدف الاعتداء على مقوماتها واحتقار رموزها وصورها، فإن هذه الثقافة تجد نفسها مضطرة للعودة إلى الأسس العميقة المكونة لها، والرجوع إلى العلامات الأكثر تعبيرا عن هويتها وتميزها. وفي هذه الحالة، يتفجر رد فعل لاعقلاني ضد الظلم من طرف هذه الثقافة. لذلك، فإن معايير وقواعد جديدة للحوار مطلوبة لتكسير الصور النمطية، ومحاربة إرادات التشويه وتأسيس تواصل تثاقفي واقعي وأخلاق فعلية للمناقشة. وبمقدار ما نجد في أوروبا مثلا، من يدعو إلى الصراع والاحتقار، فإننا نعثر أيضا على أصوات تنشد الحوار واحترام المسلمين وغيرهم. كما أنه لا يوجد فقط إلا المتعصبين في العالم العربي، لأن المشهد الثقافي العربي الإسلامي عبارة عن فسيفساء حقيقية من الخطابات والمواقف والأحكام. وحده تثاقف متكافئ، عادل وإنساني يمكنه نزع الطابع الأسطوري عن الأحكام المسبقة، والصور النمطية الخاطئة. لذلك، فإن اعترافا واقعيا بين أوروبا والعالم العربي الإسلامي يبدو مطلبا دائما، طالما أن الإسلام أصبح له حضور لافت، ومعطى سوسيولوجيا وثقافيا، لا يمكن تجاهله في أوروبا (هناك ما بين اثني عشر وخمسة عشر مليون مسلم في القارة الأوروبية). كما أن الغرب يحتل -مهما كانت المقاومات- مكانة ذات أهمية بالغة في الحياة العربية الإسلامية، سواء من حيث أنماط التسيير والتواصل واللباس، أو على صعيد الفكر والنظر.
وللاقتراب من الأسس الخطابية لمسألة التنوع، يتعين تجاوز النزعة المانوية السائدة، التي توهم بأن هناك حركتين اثنتين تطبع زمن العالم؛ تفرز الأولى مقومات نفي الآخر والعنف، بينما تنتج الثانية الغيرية والتبادل، والوقوف على بعض أشكال الانزلاقات الممكنة للمطالب التي تعبر عن ذاتها باسم الهوية أو باسم الاختلاف؛ أي أن الحديث عن القيم – أو عن الثقافة عامة- يفترض الكشف عن الحدود المنزاحة، والمتحركة دوما التي تنتجها معادلات الهوية والاختلاف، الماضي والحاضر، والذات والآخر. ذلك أنه بإغفال، أو استبعاد الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي للتنوع، قد ننسى بأن خطاب التسامح نتاج تاريخي للذين يسيطرون، كيفما كانت طبيعة ودرجة هذه السيطرة؛ كما أنه لا مناص " لمعالجة "التنوع الثقافي" من وضعه في سياق المصالح المختلفة، لمن ينطق باسمه أو يدافع عنه"
[1]. ذلك أن خطاب التنوع، كما هو الشأن بالنسبة للاختلاف، بتأكيده على خصوصيات الآخر، يمكن أن يضعه في إطار علاقة برانية والنظر إليه بوصفه غريبا، وتثبيته بالتالي، ضمن فهم اختزالي لـ "هوية مفتعلة". والحال أن عملية تثبيت الآخر في خصوصية ما، والدعوة إلى احترام الاختلافات يعملان، بأشكال لا واعية، على المشاركة في منع اللقاء بين أنماط الوعي، والتفاعل الحي بين القيم؛ إذن فالغيرية ليست هي الاختلاف واحترام الاختلافات. وبعيدًا عن كونه شرطا مسبقا للقاء مع الآخر وللحوار، يمكن أن يمثل السلب الفعلي للغيرية.
من جهة أخرى، يمكن للتفكير في الثقافة أو القيم، انطلاقا من التنوع، إخفاء التفاوتات الصارخة في توزيع الخيرات الثقافية، كما يمكن أن يتستر على إرادة للهيمنة تحت عنوان عملية ديمقراطية أو سياسية وقائية.
ولذلك، بقدر ما تستدعي المطالبة بالاختلاف درجة عالية من الحذر المستمر، تستوجب معالجة "التنوع الثقافي" يقظة ثقافية خاصة؛ قد تكون هذه المطالبة رد فعل على نزعة أحادية جارفة تواكب العولمة النيوليبرالية، كما قد تترجم شعار مناهضي العولمة لإدانة تحويل الخيرات الثقافية إلى سلع، بقدر ما يمكن أن يعبر التنوع عن ذاته من خلال مفردات متشددة وعنيفة، باسم الدين أو اللغة أو الجهة.
هذا ما أدى بـ "بول راس" إلى الملاحظة "بأن التاريخ يعلمنا كون ضحايا الحداثة، والشعوب المهملة، والفلاحين المستغلين، والعمال المطرودين، أو الذين تضاءلت قيمة عملهم بسبب التقدم التقني، والتجار الصغار المفلسين، كل هؤلاء يلجأون إلى بناء نماذج هوياتية سكيزوفرينية، ويعمدون إلى فبركة ثقافة ترجع إلى هويات أولية، تعاد صياغتها في المتخيل اعتمادا على أرض الأجداد ونقاء الدم، واللغة الأصلية، والماضي الموهوم".
[2]وهكذا، فإن تفكك كيان "وطني" باسم الحق في الاختلاف، أو المطالبة بالتنوع مهما كانت مشروعيتهما، وتفتت الأسس المشتركة لبلد ما قد ينتج عنه فتح باب جهنم، وتفجير نزوعات الموت. في هذه الحالة قد تبدو معرضة للاهتزاز والتدمير كل الحدود، كما يتوقع تعريض مقومات العيش المشترك إلى الخطر والتهديد. ومن تم يمكن للتشنج الهوياتي باسم تنوع ما، أن يولد أسباب الخصومة، والفتنة والمحنة.
ومع ذلك، فالتأكيد على اعتبار التنوع الثقافي محرك الإنسانية تأكيد صائب، وهو ما يمنح المعنى لمختلف أشكال التبادل بين الناس، غير أنه، وكما يرى "موريس ميرلوبونتي" "أن مجموع الكائنات التي تعرف باسم الإنسان، المحددة بالصفات الفيزيائية التي نعرف، تمتلك أيضا، بشكل مشترك، نورا طبيعيا، وانفتاحا على الوجود يجعل من مكتسبات الثقافة قابلة لأن تصل إلى الجميع. غير أن هذا الإشراق الذي نجده في كل نظرة موسومة بالإنسانية، يمكن أن نعثر فيه على أكثر أشكال السادية قسوة".
[3]ولعل البلاغة السائدة حول التنوع تفضح حتى أولئك الذين رفعوها في وجه تسليع العقول، لأنهم كلما ذهبوا بها بعيدا، كلما تبين لهم بأن أسس الدولة/الأمة، والسيادة، والحدود المعترف بها أصبحت معرضة للتهديد والهشاشة. وإذا كان التنوع فعل اعتراف عظيم، فإنه يمكن أن يتحول إلى فخ حقيقي، خصوصا وأنه "أصبح لازمة مضللة تنسحب على وقائع ومواقف متناقضة، جاهزة لكل التوافقات المرحلية".
[4]ويبدو، اعتبارا لما سبق، أننا نشهد على تحولات دلالية واستخدامات خادعة لمفردات -نبيلة في ذاتها-، وعلى تغيرات تحصل في الثقافة بسبب مفعولات التواصل، حيث تحولت الشعوب إلى فئات من "الجمهور"، وتم اختزال المواطنين إلى مستهلكين. بل إننا نشهد، أكثر من ذلك، على تنامي محموم للعدوانية، ولا سيما تلك التي تتخذ من العالم العربي موضوعا لها.
كيف يمكن مقاومة الفكر الوحيد والتفكير في التعدد؟ ثم كيف يمكن محاصرة ما هو تراجيدي والانخراط في التواصل؟
الجواب عن هذه الأسئلة يكثف، في تصوري، الرهان الحقيقي لبيداغوجيا التسامح ولسؤال القيم. ويبدو أنه رهان صعب في زمن تزداد فيه "أصولية السوق" تشددا وشراسة، بل وأصبحت تفرض ذاتها بكثير من التجبر والغطرسة، لا تترك للثقافات الأخرى أي هامش آخر للتعبير عن اختلافها، سوى الارتكاس إلى أصولها العتيقة، والعودة إلى ما يشكل ذاتيتها الدفينة. ويظهر أنه على الرغم من هذا الاحتقان الثقافي الحاد، فإن التفكير فيما هو إنساني حاجة وجودية وانفتاح ممكن، بدون سلب درامي للذات، أو تماه وهمي مع الآخر، وبدون استجداء ثقافي أو رفض عصابي للآخر.