م. هَيْدِغِّر (1889–1976)
هو
مارتن هيدغِّر، الذي، بعد أن درس علم اللاهوت،
تخلَّى عن تطلعه لأن يصير كاهنًا، فكرَّس
نفسه للرياضيات والعلوم الطبيعية، وأخيرًا
للفلسفة. وفي العام 1916، قام بتقديم أطروحته
حول مذهب الأنواع ومعانيه عند دونز سكوتوس.
وما بين العامين 1920 و1923، عمل كمساعد لهوسِّرل
في جامعة فريبورغ، ثم حلَّ محله في العام 1928.
اعتزل الحياة العامة في العام 1934؛ لكنه عاد
إلى تدريس الفلسفة في العام 1945، فكتب مقالته
الشهيرة رسالة حول المذهب الإنساني لجان
بوفريه (1947). وتابع يكتب بغزارة حتى تقاعده (1957)،
الذي لم يكن عائقًا حال دون تقديم المحاضرات
وعقد الحلقات الدراسية.
وفي
حين اعتبره بعضهم "أعظم فلاسفة زمانه" (ج.
لاكروا)، فقد شكَّك فيه البعض الآخر لأسباب
سياسية (حيث انتقدوه لأنه ظل مدة ستة أشهر
رئيسًا للجامعة في العهد النازي، ولأنه كتب
بعض المقالات والخطب المؤيدة للنازية، على
حدِّ زعمهم*)،
أو لأسباب تتعلق بفقه اللغة (حيث يبدو مؤلَّفه
حول أصول الاصطلاحات اليونانية واشتقاقاتها
محيرًا، وذلك على الرغم من تأكيده على ضرورة
أن يكون للمتفلسف "أذنًا يونانية")، أو
لأسباب فلسفية: فما كان يقدِّمه هيدغر كان
فكرًا صارمًا جدًّا، ذا مقاربة أقل ما يمكن
القول فيها إنها في منتهى الحساسية – فكر
لقي، بشكل خاص، على الرغم من صعوبته، قبولاً
واسعًا في الولايات المتحدة وفي اليابان –
حيث، إن لم يكن في وسعنا أن نؤكد أنه صار صاحب
طريقة فلسفية، فإن ما في وسعنا القطع فيه هو
أنه أصبح له شركاء ضالعون، كجان بوفريه مثلاً.
ركَّز
فكر هيدغِّر بشكل عام على مسألة وحيدة هي:
مسألة الوجود. ففي الوقت
الذي كانت أولى سنواته الفلسفية في ألمانيا
تنبسط وسط أجواء تتصارع فيها تيارات الوضعية
وفلسفة الحياة (ف.
ديلتاي) الكانطية الجديدة،
كان أستاذه هوسِّرل أكثر من
أثَّر فيه، وذلك حتى صدور مؤلَّفه الشهير الوجود
والزمن Sein
und Zeit (1927) – هذا المؤلَّف الذي
جعل من دراسة الظواهر (أو الفينومينولوجيا
phenomenology)
طريقًا غير سُنِّي فلسفيًّا للترقِّي إلى الأونطولوجيا
(علم الوجود). فمن خلال تأكيده الجذري على
التمايز بين الوجود être
والموجود étant،
حكم هيدغر بالفناء على الميتافيزياء
الغربية التي نسيته، معيدًا من جديد طرح
مسألة الوجود، سواء في حدِّ
ذاته، أو من خلال موجوده،
ومعيدًا، في الوقت نفسه، أصالته إلى كلٍّ من
الفكر والوجود. فالوجود يفترض فَرْزَ الإنسان
من بين جميع الكائنات كـ"راعٍ" له، بحكم
كونه يمتلك القدرة على الكلام أو اللغة.
وهكذا، كمنادى عليه من قبله، يصبح الإنسان
ملكًا له، من جهة، ومحرومًا منه، من جهة أخرى
– مما يولد هذا "القلق" الذي لا يمكن
اعتباره قلقًا نفسيًّا بمقدار ما هو
أنطولوجي؛ الأمر الذي يعني انقطاع تطور غير
مكتمل، أو لنقل تطور منقوص للوجود في حدِّ
ذاته. وهذا القلق – إن لم نقل هذا الإخفاء لما
هو منكشف في الوقت نفسه – يفتح الزمن
والتاريخ، ويُلزم المرء على
فهم البحث عن الحقيقة كتوجُّه لا ينتهي. ويصبح
الإنسان الحقيقي من هذا المنظور ذلك الذي
يرفض غفلة الـ"نحن"، فيقبل المخاطرة
والتفكير في حالته الفردية الخاصة، معيدًا
التساؤل حول ما تعنيه بالنسبة للوجود والعالم
والآخرين، متسائلاً من جديد عن ماهية عالمه
الذي يبدو وكأنه موجود منذ الأزل، يستخلص
النتائج الناجمة عن تساؤلاته.
في
العام 1928، وضمن السياق نفسه، كتب هيدغر ما
هي الميتافيزياء؟ كاستمرارية لكتاب الوجود
والزمن. ثم كتب كانط ومسألة الميتافيزياء
(1930). لكن الأهمية التي أولاها للُّغة
وللتساؤل الأنطولوجي في حدِّ ذاته قاده إلى
تواطؤ استثنائي مع الشعراء، سواء كان الأمر
يتعلق بهولدرلِن (كما في
مؤلَّفه هولدرلِن وجوهر الشعر، 1936) أو مع
الشعراء ما قبل السقراطيين،
الذين كتب حولهم الكثير من المقالات وكرَّس
لهم العديد من حلقات البحث، متأملاً بلا كلل
في نصوصهم، محاولاً تلمس انعكاس فكري سابق للميتافيزياء
في حدِّ ذاتها، ومحاولاً إعادة إحياء هذا
الفكر. كان هيدغر ينظر إلى الشعر كـ"مخاطرة
جيدة" بالنسبة للمفكر، حيث قال: "كل فكر
يعرض معنًى هو شعر، بينما كلُّ شعر هو فكر.
فكلاهما ملك للآخر، وهما يسيران معًا بدءًا
من هذا القول الذي كرَّس نفسه منذ البداية
للامسمَّى." من هذا المنطلق، لا يعود
التعليق على شعر ريلكه أو تراكي أو موريكه (وبالأحرى
رونيه شار) مجرد تمرين أدبي، إنما يصبح طريقًا
لولوج الفكر من حيث أشكاله الأكثر تقدمًا
وحداثة، لأنه إن صح – كما يؤكد هيدغر – أننا
لم نعد نعرف ماهية التفكير (وقد
أقام حلقة بحث كاملة لمعالجة موضوع: "ماذا
نعني بالتفكير؟") فإن الكلام أيضًا – أي ما
يقال في سياق اللغة – كان شعرًا في بداياته،
والنثر (والفلسفي منه بشكل خاص) ما هو إلاَّ
صداه المنحط.
ونلاحظ
بأن مصاحبة هيدغر للشعر هي خاصية فريدة في
تاريخ الفلسفة – وهذا كافٍ في حدِّ ذاته
لتبيان مدى التباعُد بينه وبين وجودية
ج.ب. سارتر، وذلك على الرغم
من تأكيد سارتر على هذا
التقارب، وإنْ من خلال تفسيرات مغلوطة. كما
أنها تشكِّل نقطة انقطاع للمنقول العقلاني في
الفلسفة، الأمر الذي يفسِّر إلى حدٍّ كبير ما
لَقِيَه من مقاومة. كما يمكن أيضًا تفسير
العداء لهيدغر بموقفه اللامبالي من الماركسية
وعلم النفس والعلوم
الإنسانية، وبتفسيره للتكنولوجيا الحديثة،
لا كنتاج للعلم إنما، عبر ديكارت
ولايبنتس ونيتشه،
كنتاج للميتافيزياء
الغربية، معلنًا سيطرة الإنسان على الأرض
كلِّها. لكن يبقى أنه كان لهيدغر أثر متفاوت
على أعمال لاكان وأكسيلوس،
كما أنه أثَّر على أبحاث م.
ميرلو بونتي وج. دولوز وج.
ديريدا، كفكر ينبِّهنا تنبيهًا نهائيًّا
إلى ضرورة التحفظ على كلِّ فلسفة تدَّعي أنها
تقع في سياق خطٍّ تطوري متصاعد.
أعماله
الأساسية الأخرى: دروب لا تقود إلى أيِّ
مكان (1950)، مدخل إلى الميتافيزياء (1953)، ما
هي الفلسفة؟ (1956)، التماثل والتخالف (1957)،
توجه نحو الكلام (1959)، حول نيتشه (1961)، مقالات
ومحاضرات (1962).
ملاحظة:
تم تعريب هذه المادة عن قاموس ناثان الفلسفي،
تأليف جيرار دوروزوي وأندريه روسيل.
تعريب:
أكرم أنطاكي
مراجعة:
ديمتري أفييرينوس
***
مواد مرتبطة:
بين الكون والكائن: 30
عامًا على رحيل هيدغِّر
نصوص
مختارة