في مشكلتيْ القبْلي واللامعقولالمناظرة مع ناتوربـ في الوضعيةلا تفلسف دون مناظرة صارمة مع الوضعية الروحية المستسلفة وغير المُمفهمة بعد،
فما هي الوضعية؟ هي مفهوم علائقي يعنون جهوية من الجهويات الدينامية للحياة العينية. تفرض الوضعية على الذات نسقاً من الأفكار، الأوضاع، الإحالات، والممارسات. من هنا تجد الذات نفسها أمام كثافة موصوفة من أشياء تحدث لها وتلقي عليها عبء تصييرها مفهومة. هذه المهمة تبقى متحركة ومفتوحة كون الذات تحتمل الخبرات المعيشة في وضعيات متلاحقة. محاضرة 1919 بصدد الجامعة والدراسة الأكاديمية تأخذ على عاتقها التملّك الفينومينولوجي لهذا المفهوم. إيضاح مفهوم الوضعية في سياق الكلام عن الجامعة بوصفها الهيئة الروحية الناظمة للبحث العلمي، يتصادى مع كلام هيدغر في تصدير
درس طوارئ الحرب حول العلم وإصلاح الجامعة حيث «الترابطات الحيّة للوعي العلمي تعبر موضوعياً عن نفسها في نشوء وتنظيم الأكاديميات والجامعات العلمية»
(61).
في تحليله البنيوي للخبرة
(62)، استحدث هيدغر تمييزاً أساسياً بين كل من التجرّي ( السيرورة ) والحدث
(63). عندما أدرس موضوعا محدداً بلغة نظرية، يكون وجود هذا الموضوع عبارة عن سيرورة تمرّ بإزاء ذات عارفة. هذه السيرورة تكون منزوعة المعيش En-leben، وفي التطرّق نحوها إوتجه إلى شيء غير متعولم، أي خارج الشبكيات التعبيرية الحيّة التي تعتلن الحياة نفسها من خلالها. الموضوع بما هو كذلك لا يلامسني في الخبرة النظرية، والأنا النظرية التي يجري تثبيتها ليست الأنا التي أكونها. ليست «أنا نفسي»، بل «أنا» تم تجريدها عن سياقاتها وسلخها عن وضعياتها المعهودة. أما الخبرة المعيشة فلها طابع الحدث الخاصيّ Ereignis فالخبرات المعيشة ليست سيرورات تجري بإزاء الأنا العارفة، بل هي أحداث أتملكها؛ أجعلُها ملكي، أُصيّرها لي، ولهذا فهي ليست شيئاً أو موضوعاً لأنها لا تندرج في سيرورة تجعلها تتخذ مسارات يمكن لي أن أنتظمها على نحو إجرائي. الأحداث الخاصيّة لا أتملكها من خارج، لا أمارس عليها إكراهات التوضيع لأصيّرها لي لأنها ليست أعياناً خارجية ولا سيرورات نفسية، إنها على تخوم الداخل والخارج. الخبرات المعيشة أحداث خاصيّة، حدثان يكون لي أو قل حدثان نمط وجوده أنه يكون لي. من هنا تبرز الضرورة الداخلية للشروع في الإستصلاح الفينومينولوجي لمقولة الملك وهي واحدة من المقولات الأرسطية العشر التي تمثل الأجناس العليا للموجود بما هو كذلك التي يثمّرها هيدغر هنا في إطار التنبيه إلى ضرورة تملك الوضعية التي يلقى التفلسف نفسه منبثّاً فيها، وذلك إذا أرادت الفلسفة أن تلتقط زمنها الكايروس الذي يخصها، أي اللحظة المؤاتية للنقاش. لماذا على الفلسفة أن تتملّك وضعيتها؟ ولماذا على الفهم أن يتجذّر دائماًً في وضعية بعينها؟ لأن الوضعية تمتلك نوعاً من الانغلاق النسبي على مكوناتها في الوقت الذي لا تكون فيه الأنا متمايزة عن الوضعية، أو لنقل أن نمط وجود الأنا في وضعية بعينها يتّسم باللاتمايز والسيّانية الفائضة عن الهوية (اللاشرطية، أن تكون الذات أو الموضوع). التطرق النظري ينجم عنه تفجير الوضعية من داخل، انحلال السياق التي تشتغل فيه، تلاشي الأنا الوضعية بل ونزع الأرخنة عنها
(64).
التحوير الذي يدخله الموقف النظري على الخبرات المعيشة يتفاوت بين علوم التفسير وعلوم الفهم. في الأولى نكون أمام نظرنة عالية تؤدي إلى اخماد تام للوضعية (ثيمة سيستعيدها هوسرل بقوة في أزمة العلوم الأوربية /1936!)، أما في الثانية فيوجد سعي للحفاظ قدر الإمكان على الوضعية التي ينبغي جعلها مشفّة كشرط لكل مجهود فلسفي تأسيسي.
ـ تملّك المشكلية في وضعيتها الخاصةللخروج من الوضعية المشكلة، لا بد لنا أن نكون قد تحدثنا طويلاً بلغتها؛ لغة الوضعية التي نبتت فيها المشكلة ولم تشفّ بعد أسسها ومنطلقاتها. ينبه هيدغر إلى أن استخدام مصطلح الحياة في الإتجاهين السالفيْ الذكر يبقى، وبفعل تأرجحاته الدلالية، عند حدود دلّ صوري لا يشير إلى المعنى النهائي بقدر ما يومئ إلى الأفق الواجب أو الممكن سلوكه باتجاهه وهذا تقريباً معنى أو دلالة المعنى كما يستخدمها هيدغر في الوجود والزمان، ذلك أن المعنى النهائي للحياة إنما يرتبط بتخريج مازال مأمولاً ومؤجلاً بانتظار إعادة إنتاج مشكلية الفلسفة نفسها.
إن التفكيك بما هو وقوف على قبْليات مضمرة لظاهرة بعينها أو إرجاع جملة من المنطوقات والمفاهيم إلى سياق نشوئها وتشكلها العيني التاريخي، إنما هو مستغرق سلفاً في فهم ما، بمعنى أن للتفكيك أيضاًً خيوطاً هادية يكون انتظامها مشروطاً بما لم يجر مفهمته بعد، ولهذا فإن الجهد النقدي التفكيكي الذي يسبق الجهد البنائي المنتج للفلسفة إنما يبقى من طبيعة تمهيدية تحضيرية؛ إنه مرتبط بفهم بدْوي ذي طبيعة استباقية وحاملة لخبرة فلسفية بالعالم تعوزها الأصالة.
من هنا ينبّه هيدغر في درس «
المشاكل الأساسية للفينومينولوجيا» (1919ـ1920)، إلى أن استخدام مفاهيم من قبيل الحياة، الخبرة المعيشة، الفلسفة.. ينطوي على خطر الموضعة ما لم يتم التعامل على نحو يقظ معها بوصفها إشارات أو دوال صورية على فينومينات عينية. تنبيه سيستعاد على نحو أوفى في درس «
فينومينولوجيا الحدس والعبارة» (صيف 1920)، حيث سيبسط هيدغر على نحو ثيمي أوضح فهمه للفينومينولوجيا، ولدور التفكيك في المقاربة الفينومينولوجية. لقد جرى فهم الفينومينولوجيا بوصفها العلم الذي يتولى شرح المفاهيم والمصطلحات عن طريق تقديم وصف دقيق يقصي التناقض، التشوش، النقص، الإشتراك اللفظي.. ويقوم بتثبيت المعنى المتواطئ للمفهوم أو الماهية والذي تضطلع به العبارة المنطقية. هذا الفهم تعزّز مع اعتبار الفينومينولوجيا علماً أساسياً للفلسفة تكون مهمته الإيضاح الماهوي للمفاهيم القصوى في المنطق، وهو أمر يكون مقبولاً إذا كانت الفينومينولوجيا محصورة ضمن فرع وصفي، لكنه يتحوّل إلى مسألة خلافية عندما يحين وقت طرح السؤال حول مجال العلم الأساسي، السياق البنيوي الذي ينبغي إرساء الأسس فيه، ووفقاً لأي خطوط هادية سيجري تطوير هذا العلم. لا يمكن الإجابة على هذه الأسئلة دون التوفر على فهم جذري للفلسفة «الصعوبة ليست فيما إذا كان الفهم والتوجيه ‹الواقعي› أو ‹المثالي› قادر على الإثبات أو الإحتفاظ بنفسه بإزاء الآخر، ولكن فيما إذا كان من المسموح على مستوى المبدأ أن نضع/نجعل الفينومينولوجيا كعلم أساسي للفلسفة دون أن تمتلك مفهوماً جذرياً عن الفلسفة»
(65)، بحيث أن شعار الفينومينولوجيا الشهير: نحو الأشياء ذاتها ينبغي فهمه بوصفه انتداباً لأنفسنا لمهمة غير منجزة بعد وهي ترهين وضعيتنا العينية الخاصة وتحضيرها نحو الأصالة، أو لنقلها بطريقة أخرى: إرجاع المشاكل الفلسفية إلى منشأ انتزاعها في السياق الحركي للحياة وجعلها مشفة لأصولها وخبراتها الأساسية التي صدرت عنها.
إذن تغدو الفينومينولوجيا مشكلة بالنسبة إلى نفسها طالما لا تمتلك مفهوماً عن الفلسفة يؤسس ما تقوم به من إيضاح للمفاهيم الفلسفية والمنطقية. إن الإستغراق في التعامل المجرّد مع المفاهيم يبقى غافلاً عن السياقات الحركية والوضعيات الخبروية التي تنتّجت عنها هذه المفاهيم. المطلوب تبعاً لـ هيدغر ليس إيضاح المفهوم، بل إيضاح الوضعية وتجلية السياق. إن «الغموض» الذي يحفّ بالأفكار والمفاهيم نتيجة المتنوع الدلالي الحاكم على تلقيها وفهمها لا يستدعي إزالته بواسطة تعريفات منطقية صارمة تبسط دلالة متواطئة لكل مفهوم بقدر ما يستلزم تملكاً لاتجاهات أو لترابطات المعنى، التي تُحيل إلى ميادين من الموضوعات، وإيضاح هذه الميادين من الموضوعات والمعاني إنما يفترض بعد إيضاحاً للوضعيات. المطلوب إذن الإبقاء على المفاهيم في حالة من اللاتعيّن، أي التعامل معها كما تنبثق في الحياة العينية والحفاظ على لاتعيّنها، لأن هذا ما يمنح المؤشر على ترابطاتها وتتبّع هذه الترابطات هو شرط أنطولوجي لإيضاح المفهوم.
ـ في الوضعية والفلك الإشكالييرى هيدغر أن الفينومين الأولي هو فينومين الحياة الذي يجعل من المشكلة الفلسفية مشكلة وضعية أو مسألة وضعية. معنى الحياة أو دلالتها ليس واضحاً ابتداءً، وهو يُترك كذلك بغية الظفر لاحقاً بإيضاح ملائم للوضعية التي تجد المسائل الفلسفية نفسها محكومة بها بوصفها الأرضية الوجودية أو القاع التاريخي للسؤال الفلسفي.
طبعا للحياة مدلولات بيولوجية ونفسانية حافة بمفهومها، وتشكّل لحظات متفرقة من أمثولها العام الذي ما فتئ يولّد مشكلات فلسفية يوزعها هيدغر على مستويين تنشعب لهما الحياة نفسها بما هي كذلك:
ـ على
المستوى الأول؛ تتخذ الحياة عناوين الوضعنة، التشكيل، الشرح الذاتي.. وتميل للتعبير عن نفسها ضمن تشكيلات ثابتة (القيم، المبادئ) يتمّ صياغتها على نحو يكفل لها الصلاح المطلق للأطر التي يتم إضفاؤها على متحركيات (بواعث) الحياة في المكان والزمان.
ـ على
المستوى الثاني؛ تلوح الحياة كتيار متدفق أو كسيولة مطلقة من المعيشات والخبرات التي تستعصي على الإفراغ في كليات ثابتة. هذه المعيشات يصعب إدراجها في عمليات المفهمة التي ينجزها الفكر بصدد الأفكار.
كل واحد من المستويين يطرح إحراجاً على الفلسفة؛ فالمستوى الأول يطرح مشكلة القبْلي، أي مشكلة التعاطي مع الحياة كموضوع أو لنقل توضيع الحياة بما هو تقرير لصلاح جملة من المبادئ والمثل. أما المستوى الثاني فيطرح مشكلة المعيش بما هي مشكلة اللامعقول أي عدم قابلية الحياة في غرابتها وتدفقها على منح نفسها عبر أفاهيم فكرية شفافة ومشفّة.
لقد نُظر دائماًً إلى التشكيلات الثقافية القصوى بوصفها أثراً لسريان الروح في التاريخ. فلسفة هيغل تمثّل نموذجاً ساطعاً على هذه الرؤيا. تتجسد الروح عبر أطر ثلاثة ناظمة تاريخياً للوجود الإنساني وهي: النظري، العملي، والجمالي أو العلم، الأخلاق، والفن مع الإلتباس في تعيين مرتبة الديني لأنه «إما يُطرح بوصفه قطاعاً ثقافياً مضافاً أو منفصلاً.. أو يُشكّكُ فيما إذا يمكن اعتباره إبداعاً ثقافياً على الإطلاق. ولهذا يبقى إشكالياً إرجاعه إلى شكل مستقل من أشكال انتشار الروح وكيفية الإرتباط بينه وبين الدين وقطاعات الثقافة»
(66). يُنظر دائماًً للقبْلي على أنه عنوان للمطلق أو اللامشروط الناظم للمتغيرات الفاعلة في الحياة الروحية والثقافية لعصر ما. بيد أن القبْلي لا يظهر إلا على مسرح التاريخ، وبالتالي يكون هو نفسه ناتج سيرورة تاريخية أو تمثيلاً لمزاج عصر بعينه. إن القيم العليا والمبادئ القصوى تتغيّر بين نسق ثقافي وآخر سواء على مستوى معناها أو على مستوى موقعها الهرمي في الأنساق الثقافية. لهذا يتضايف المطلق على نحو حاد مع ما هو نسبي وعابر ومؤقت حيث «النسبية والفرادة الفريدة لكل تشكيل ثقافي تاريخي يقف قبالة الإطلاقية والعمومية الفوق زمانية لأمثول، قيمة، ومبدأ العقل»
(67). كيف يمكن للعقل المطلق، أن يظهر أو يتشكل في سياقات نسبوية؟ كيف لسيرورة تاريخية ذات طابع متحوّل أن تنتج السمات الإطلاقية الثابتة لمبدأ بعينه؟ هل الحديث عن المطلق وهم؟ أليس الحديث عن صلاح مطلق لقضية أو مبدأ هو تضخيم مبالغ فيه ،وابتسار ساذج ينجم عن توسعة غير مشروعة لوضعيات تاريخية يشوب عناوينها الكثير من الصدفوية؟ إن مشكلة القبْلي هي مشكلة نسبية القيم والأفكار، والتي إذا لم تُضبط حدودها تهدد كل فكر بأن يتحوّل إلى مجرّد مقاربة طارئة عابرة تنتهي مفاعيلها بانتهاء السياق الذي ولدت فيه.
كيف للفلسفة أن تُـمَفْهم تاريخها الخاص في ضوء استشكال جذري لمسألة القبْلي؟ لقد شهد تاريخ الفلسفة، ومنذ أفلاطون، ظهور الكثير من الأنساق التي أضفت على رؤيتها للعالم طابع الكونية والكلية ثم ما لبثت أن انسحبت من المسرح الفلسفي مفسحة في المجال أمام ظهور أنساق جديدة اتخذت لنفسها الزعم إياه بإنتاج معرفة نهائية بالمطلق. من هنا نشهد التاريخ الفلسفي بوصفه تاريخ ثنائيات: المطلق/النسبي، الطبيعي/الثقافي، المادي/الروحي، الزمني/فوق الزمني، الذاتي/الموضوعي، الحسي/العقلي.. ثنائيات هي أمارات على فكر لم يرجع بعد إلى خبراته الآصلة بما يكفي.
يضرب هيدغر مثلاً من اللاهوت البروتستانتي الحديث بما هو براديغم من ضمنه يمكن ظهور سؤال من قبيل: هل المسيحية مطلقة؟ هل المضامين العقْدية، التي أسست الإجماع الروحي حول شخص المسيح لدى الجماعات المسيحية الأولى، تبقى على صلاحها الكوني مع تنامي الوعي بالتاريخ في فترة الأنوار؟ لقد ظهر في هذه الحقبة القول بالدين الطبيعي للعقل والذي لا يستطيع أن يجسد مضمونه كاملاً، أي دين تاريخي بعينه فـ «العنصر المطلق للدين لا يمكن أن يتحقق في دين تاريخي واحد»
(68).
في المعرفة النظرية يكون القبْلي مناط صلاح القضايا المكوِّنة لمطلق ميدان نظري حيث ميادين النظري تتوسع داخليا نحو إرساء ناموسية قبْلية للعقل أو سيستام قبْلي من القيم، ولكن إذا التفتنا قليلاً صوب ما هو تاريخي أي نحو الحياة في تحولاتها، فثمّة توتّر ينتصب قبالتنا بالضرورة؛ من ناحية نجد القبْلي ومعايير الصلاح، ومن ناحية أخرى النسبية التاريخية للإقرار والنفي أو لنقل الفرادات الهشة للصواب والخطأ. ماذا يعني المطلق للفريد التاريخي؟ هل ثمة إمكان للنفاذ من هذا الإنفصام بغية تحرير الفلسفي من توتره الداخلي؟ هل ثمة إمكان لنسخ التصالب بين هذه المتعارضات؟ إن في هكذا طرح للمشكلة عودة إلى أفلاطون «إنها المشكلة الأفلاطونية القديمة، وقد تثوّرت وتعقدت في فينومين الحياة التاريخية»
(69). هذه الثنائيات تضع الفكر من جديد على طريق الجدل الهيغلي حيث تطالعنا معطيات من قبيل منطق الحركة، الصيرورة، الدينامية التاريخية، تضايف النقائض وانتساخها، وفرادات تاريخية لا تمثل مصداقاً لأفكارنا أو معاييرنا القبْلية. إن في هذا التوتر الذي تعكسه مشكلة القبْلي (بما هي أيضاً مشكلة صلاح المعايير) متحركيّة قوية تدفع باتجاه فلسفة في الجدل. متحسساً ما في هذا من دفع باتجاه نمط جدلي للفلسفة لا يجد هيدغر في هذه المرحلة سوى الإقرار بأن طرح المشكلة لا يزال غامضاً وينقصه الإيضاح الكافي. ما يملكه فقط هو أن يشكك في كفائية الجدل والفلسفة الترسندالية وحول ما إذا كان إطارهما ملائماً وكافياً لـ «إنجاز شيء ما على الإطلاق».
التصالب الحاد بين مشكلتي القبْلي واللامعقول (المعيش ) يعود إلى الخطر الذي يمثله كلٌ واحد على الآخر. صلاحية القبْلي المفارقة كما تظهر في المنطق والرياضيات مثلاً تكون مهددة حين توضع على محك نشوئية القيم والمعايير كلية الصلاح في التاريخ وفي سياقات ما، تشهد تقاطعات وتعرجات وتتبدى دائماًً كما لو أنها مسرحٌ للتشكيكية والنسبوية.. من جهة أخرى نجد أن الحياة العينية تخضع للتشوه والانزياح حينما تتم نمْذجتها وأقنمتها ضمن قوالب تفكرية تكون مقولاتها في غالب الأحيان غريبة عن تدفق الحياة وجريانها وتحولاتها..
المقدمة النظرية، التي يعقدها هيدغر في درس
فينومينولوجيا الحدس والعبارة، بفقراتها الست، كانت تروم الوقوف على وضعية التفلسف الراهنة وانقسام المشهد الفلسفي تبعاً لتفاوت المقاربة للفينومين الأصلي للحياة
(70) بين فلسفة الحياة الديلتائية وفلسفة الثقافة (الكانطية المحدثة). بعد تشخيص الوضعية، والظفر بصياغة أولية للفلك الإشكالي يغدو ضرورياً إيضاح التفكيك بما هو تجلية للفهم البدْوي المضمر خلف هذه المقاربات والثاوي على نحو غفْل يستدعي إرجاع المعطى الفلسفي إلى سياقاته التي غفل عنها بغية إعادة إنتاج هذه السياقات على ضوء الأمثول (الفكرة) الهادي لها وهو ما سيبلغ ترجمته القصوى في إيضاح التقوّم (constitution) بوصفه الفهم البدْوي الهادي
(71) في سياق المناظرة المطولة التي سيعقدها مع ناتورب.
ـ في حاجبية المعرفة واللغة لأمثول الفلسفةتبرز، وبعيداً عن القوالب والأطر الرمزية التي يدرج الثقافي فيها الحياة، الأخيرة بوصفها اختباراً يتمتع بالإمتلاء، الحميمية، الغموض والإمكانات المفتوحة، ما يجعل من تشابك الاتجاهين تقاطعاً يثوي به بعد «معنى أساسي» من شأنه متى ما تم رئيانه أن يغيّر المشكلية من رأسها..
تدفق صور الحياة ووضعياتها، وقد جرى توسعتها بواسطة الوعي التاريخي “يضاعف من انفتاح وكفاءة الشعور” بالإمكانات المتنوعة للحياة. وهذا ما نجده متجسّداً عبر مروحة هائلة الاتساع، من المواقف واتجاهات الرأي ما يجعل من الفضاء العمومي حقلاً لتواترات سريعة الظهور والاختفاء.
هذا يدفع بالموقف النظري إلى التقهقر والتراجع حين يفترض لقوله مرتبة أعلى من الأقوال السائدة، ويتشبّث بالإتيان بقضاياه مضغوطة ومكثفة في صياغات نظرية عالية، بيد أن المعيش يضرب بجذوره في أرضية ماقبل نظرية تفرض على النظري حدوده الذي بتجاوزه لها لا يهدد إمكانيات الحياة فقط، بل يحدث تأثيراً على مشكلية الفلسفة نفسها حيث أن «خطر سطوة النظري على التنوير الحيوي والمشتد لإمكانيات الحياة المختلفة لا يترك على المدى الطويل بنية المشكلية الفلسفية بمنأى عن التأثير»
(72).
إن الموقف النظري وإن كان يروم الوقوف على القبْليات الحاكمة على إبداعات الروح وإظهار مبادئها وميادين صلاحها، فإنه لا يمكن أن يعفي نفسه من لَحْظِ “اتجاهات الروح الخلاقة” التي تتعاضد بين بعضها البعض تبعاً لتفاوت مضامينها. هذه هي التي حتمت على الفلسفة الحديثة الرجوع إلى الذات أو الروح في التعيين البدئي لأنساقها.
السؤال الذي يُثار في هذا السياق هو، كيف للفلسفة بوصفها معرفة عقلية أن تقول عن الخبرات المعيشة المباشرة على نحو لا تجري معه تشويه هذه الخبرات؟ أن لا تعفي الفلسفة نفسها من هذا الإحراج يعني أن تتنبه إلى متحركيتين (باعثين)، أفهوم المعرفة وأفهوم اللغة.
تبعاً للمتحركية الأولى نجد أن الفلسفة الكانطية تعتبر المعرفة تشكيلاً لمادة معطاة عبر الحساسية بواسطة تلقائية الفاهمة وهذا التشكيل نفسه يخضع لجملة من المبادئ والقواعد المتأتية من العقل المحض والتي من دونها لا يتم تأمين صلاحية المعرفة وموضوعيتها. معنى هذا أن ما يعطى مباشرة لا بد من إعادة انتاجه تبعاً للفاعلية التفكرية للفاهمة، وفي هذا الأمر قضاء على مباشريته، ولا موسوطيّة الخبرات المعيشة التي تتجاوز انتظام وصرامة حقول المعايير المحضة، حيث، مدفوعةً بفاعليتها الخاصة وبما تنطوي عليه حركيتها من محتويات معنى، تتشكل الحياة من خارج الأطر المعرفية والمتعالية.
إن ما نخلُص إليه من الإلتفات إلى مفهوم المعرفة الترنسندالي هو عدم ملاءمة هكذا طريقة في التفكير لمقاربة الخبرات الحية نظراً لكون الأخيرة ستنتهي تحت تصنيف «اللامعقول البلاتوسطي»، في الوقت الذي تكون فيه هي حاملة لمعقوليتها الخاصة..
المتحركية الثانية تتصل بمفهوم اللغة والوظيفة المزدوجة التي تلعبها، فهي كاشفة حيناً ومعيقة للكشف عن الظواهرحيناً آخر. يستدعي هيدغر في هذا السياق الأطروحة التي قدمها برغسون في كتابه (المعطيات المباشرة للوعي) حول كون اللغة مصوغة لتتلاءم مع الخصائص المكانية للعالم الخارجي “معنى كل من المفاهيم والكلمات يعود إلى المكان، كل منطق هو منطق المكان”. تبعاً لطبيعتها المكانية وتحت ضغط طبيعتها التواصلية ستجعل اللغة الظواهر النفسية والخبرات المعيشة أشياءً مشابهةً في مقوماتها وخصائصها لأشياء العالم الخارجي التي تعطى لنا مقطعة ومنفصلة عن بعضها البعض، وهذا يعارض خاصية “تلاحم الحياة” أو التشابك الذي هو سمة أساس للمعيشات..
إذاً، كما تطرح مشكلة القبْلي التعارض بين صلاح القبْلي والنسبية التاريخية، تطرح مشكلة المعيش التعارض بين المعقول واللامعقول وهذا يجعلنا أمام زمرتين من المشكلات؛ مشكلة القبْلي ومشكلة المعيش. في هذا الموضع يستحضر هيدغر الديالكتيك الهيغلي وأفهوم النسخ (Aufhebung) لأن النسق الهيغلي تحرك بشكل أو بآخر ضمن هاتين المشكلتين المطلق/النسبي والمعقول/اللامعقول.
وجود هكذا تعارضات يقتضي ضرباً من التوحيد بينهما كي لا يبقى الفكر منقسماً على نفسه، والفلسفة بوصفها فيمناناً من فينومينات الحياة والتي تتوفر دائماًً على الفاعلية التأسيسية (منح الأسس أو تجليتها وتفسيرها) تجد نفسها أمام مهمة اجتلاب التعارضات إلى ضرب من الوحدة الموسوطة في المعرفة الفلسفية الكونية المطلقة التي توحد وتنسخ ضمن نفسها وفرة الصور
(73).
المهم في نهاية التوصيف الهيدغري للوضعية المعاصرة بمشكلتيها الأساسيتين أنه يربط بينهما وبين مشكلة الفلسفة تبعاً لأصولها وبُناها الأساسية وطريقتها”
(74). ثمة مشكلة وضعية problem situation ومعالجتها لا تتم بمزيد من الصياغات الصارمة للأفاهيم، أو بإعادة تعديل الترسيمات السالفة. على العكس، فالمطلوب هو أن يتم تحرير الوضعية من الترسيمة الطاغية عليها بغية إفساح المجال في الدفع مجدداً نحو أمثول الفلسفة، ولهذا فليس الحل هو الإتيان بسستام جديد بقدر ما يمكث المطلوب في استرجاع الفلسفة إلى نفسها من اغترابها. وهذا ما سيحاول أن يتحصل عليه هيدغر عبر التفكيك الفينومينولوجي لمشكلتي القبْلي
(75) والمعيش
(76). أن يخلص في نهاية
فينومينولوجيا الحدس والعبارة وفي سياق المقارنة بين ناتورب وديلتاي
(77)، إلى ترسيم أولي لمهمة الفلسفة التي سيعكف في القسم الأول من
تأويلات فينومينولوجية لـ أرسطو (1921) على محاولة تعيين أمثولها تعييناً أولياً بعد تفكيكه للأفهومين الحاكمين على تعريفها المبدئي الذي تبنّاه
الموقف الإفراطي والعيني الذي تبنّاه الموقف
التفريطي..
ـ مشكلة القَبْليفي سياق تفكيكه لمشكلة القبْلي، يعرض هيدغر لمثال تطبيقي مفصّل عن كيفية تفكيك ظاهرة ما عبر نزع الترسيمات المحيطة بها من اشتراكات لفظية وأحكام مسبقة بغية إعادة إنتاجها ضمن سياق جديد. الطريقة الهيدغرية تتمثل هنا في انتقاء مفهوم والتقاط جملة من المعاني الحافة به، أي ترابطات المعنى المشكّلة لهذا المفهوم. المفهوم الذي يجري انتقاؤه هنا هو مفهوم التاريخ الذي سيرصد له هيدغر ستة معانٍ.
الخطة تقوم على التقاط هذه المعاني بطريقة عشوائية تجعلنا في المرحلة الأولى نعيد شرح هذه المعاني الغارقة في التباساتها ومن بعد أن يتم هذا يكون فينومين التاريخ معطى لنا على مستوى المحتوى. بعد هذا ينبغي إيضاح هذه المعاني تبعاً للمعنى الثاني للغياب، وهو معنى الصلة أو الإحالة والذي يكشف ارتباط هذه المعاني بجملة من أنماط الإقبال. ثم يجري في نهاية الأمر إعادة إنتاج هذه المعاني تبعاً لمعنى التزمين أو التنفيذ، وهو ما يحتاج إلى معيار على هدْيه يتم توجيه هذه المعاني وإجراء المفاضلة بينها تبعاً لمعيار أصيل.
قبل الدخول في تفاصيل المعالجة الهيدغرية لمفهوم التاريخ وإيراد الملامح العامة لهذه المعالجة يحسن أن نشير إلى أن حركية الفكر هنا تُقابلُ تماماً على المستوى النسقي مع حركية كتاب الوجود والزمان حيث معنى المحتوى سيبرز آنذاك في الفينومين الرئيسي وهو الوجود في العالم، في حين ستأخذ العناية دور معنى الإحالة الذي تسند إليه أنماط إقبال الهوذاك على شؤونه بعامة، أما معنى التزمين فسنجده في الزمانية (zeittlichkeit)، والتي من المفترض متى ما تم تجليتها والتكشيف عن فينومينها الأساس ووظيفتها أن تعيد إنتاج وجود الهوذاك على نحو مختلف.
الأمثلة الستة التي ينتقيها هيدغر هي
(78)،
1) صديقي يدرس التاريخ.
2) صديقي يعرف تاريخ الفلسفة.
3) ثمة شعب لا يملك تاريخاً.
4) التاريخ هو سيد (منشئ) الحياة.
5) هذا الرجل يمتلك تاريخاً مؤسفاً.
الخميس يوليو 09, 2015 4:55 pm من طرف يوسف هاشم