عبر مختلف مراحل التاريخ: الشفاهي منه والمدوَّن، كانت الفلسفة تمارس دور القاتل لمجمل الذين احترفوها أو عايشوها. لم تكن تتردد في تقرير المصير المأسوي للمعنى بها وهو الذي يهبها كامل وقته غاضَّاً الطرف كثيراً عما يمكن أن يحصل له. لقد كانت بطريقتها تلك تظهِر ولا تزال، الحقيقة الكبرى لها وهي أنها : قاتلة، ولا مناص من أن تقتل أو تكون سبباً لهذا الذي يريد أن يكون فيلسوفاً، ولعلها بالطريقة هذه كانت مخلصة لاسمها، فقتلها لم يكن ولن يكون جريمة بحق المجتمع الذي يعيش فيه، إنما هو قصاص المأهول بالفلسفة، والذي كان يتناسب بعنفه وما كان يأتي على يديه من اختلاف.
ربما من هذا المنظور، يتم التعامل مع الفلسفة بوصفها آثمة، أو محرّضة على ارتكاب الموبقات والعصيان. ولعل الذين عايشوا هذا النوع الاستثنائي من “القتل” كانوا مدرِكين لحقيقة الموضوع: القضية، لأن الخطأ كان البذرة الأولى للبحث عن الحقيقة، إن انطلقنا من التصور الديني للإنسان: الاقتراب من الشجرة “الطوطم” الإلهي، وتناول ثمرتها، كما لو أن المعرفة لا تتم دون تثبيت “جريمة ما”، وأن الخطأ ذاك هو الذي أعلَم مرتكبه نوعية المسافة بينه وبين المفارق له إلهياً، بقدر ما قرَّبه من مفهوم الشجرة الدالة على الحياة وما تخفيه، ولولا النسَب الشجري للإنسان لما رغب فيها.
جنسانية الفلسفة
هل أكون ممهّداً لجنوح ما، إن أنا قلت: إن الفلسفة في أصلها امرأة؟ امرأة جميلة، باهرة، قادرة على الإغواء دون أن تمكّن أحداً من أن يراودها عن نفسها بسهولة . قد يكون ذلك مدعاة للطرافة أو الضحك. ليكن ذلك ! أوليس الضحك هو المدخل إلى الوجود ؟ أن نضحك هو أن نمضي على وجودنا ونؤكّد تنوعنا، إن لكل منا ضحكته الخاصة، وعبر هذا الضحك يمكننا التفاعل. فمنزوع الضحك شبيه القمقم، ولا أخالني بعيداً عن الصواب إن اعتبرت ما قامت به حوّاء كان تمهيداً لتاريخ الفلسفة: معاينتها للشجرة وما تعنيه الثمرة لها، ومن ثم قطافها وتذوقها من قبلها، والدفع بآدم: الرجل، أن يشاطرها هذا “الإثم” الجميل، إنها ملهمة الضحك، مساره، بدعته. ولا أدري نوع الإقدام الذي تميَّزت به، وهي تضحك في مواجهة الجهامة للإله اللامرئي، ونوع التردد والتخوف الذي عرِف به آدم، والمتخوف من الضحك كثيراً، سوى أن الذي أشدّد عليه هو أن “أمنا” حواء هي المدشنة الأولى للفلسفة: لقد أدهشتها صورة الشجرة الإلهية، فدفعتها الرغبة لأن تعيش لحظة ارتكاب الإثم الأول والذي يحمل دمغتها، لتكون هي ذاتها الشجرة والثمرة: دالة الحياة.
إن المفهوم “الأمّي” للفلسفة يرقى بها إلى المستوى الذي تحنو على كل “أبنائها” في الوقت الذي لا يكف “الأب” عن الانسياق وراء نزواته أو شهواته الخاصة. إن الفيلسوف يطارد في كتابته شبح الأب المتردد والمتقاعس لأنه لم يشأ أن يجعل من نفسه – على الأقل- شريكاً فعلياً للمرأة الأولى في ارتكاب الإثم، وليسمّي الحقيقة بطريقته.
الفيلسوف يضحك استجابة لبذرة حوائية، يضحك لأن ثمة محفزاً حياتياً، والضحك اقتصاد الوفرة في محاورة الآخر.
بين اعتبار الفلسفة امرأة متجددة، هي حواء تعيد دورياً المغامرة الأولى في التحدي المرسوم، للدخول في نطاق التاريخ الإنساني أرضياً، ورجلاً لا يخفي حسده من جرأتها تلك، ومحاولته المستمرة حيازتها بصفته الأب، وما في ذلك من شقاقات وخلافات، تعيش الفلسفة تاريخها الخاص، أعني سيرتها الجامعية بين المرئي واللامرئي، لكنها، وهي في هذا المعتمَد السّيري، يصعب علينا تجاهل الدم المسفوك، باسم الحقيقة وبسببها، وفي كل عملية قتل، تنبعث صورة أو هيئة أو خاصية جديدة للفلسفة بسؤالها المتعدي للتاريخ، وهذا يذكّرنا بقلق نيتشه بصدد علاقة المرأة بالحقيقة، وهذه لا تنفصل عن تاريخ يستحيل الفصل بينه وبينها، أي استدعاء الحياة ( المرأة التي تعيش تحولات من الداخل، وكأنها الكائن اللامرئي، الكائن الشديد جاذبية وإغراء، ومن الداخل لا يُعرف عنها إلا القليل، والحقيقة التي لا تُعاين، إنما تكون متحولة ) (1).
وفي كل عملية قتل، تكون المرأة هي الحاضرة: الناحبة والصاخبة والفاعلة على البعث في المدوَّن عنها تاريخياً، ولعل اللحظة الفلسفية المعتبَرة هي في تتبع هذه الرعدة الفضائية والارتعاش الجغرافي التاريخي المنشأ.
إذ لا يعدو الفلاسفة أن يكونوا في جملتهم مأخوذين بحواء “الشهمة”، العتيدة“،” الصلبة “،” الطرية “، وعينهم على آدم وما فيه من تلبُّك، وتجاذب بين الاندفاع البطولي الحوائي والانخطاف الآدمي إزاء الممهَّد له حياتياً.
يمكن القول هنا أن لا زرادشت ولا كونفوشيوس ولا بوذا ببعيدين عن هذا التفاعل بين قطبي حركة: الأنثوي والذكري، وأن التركيز على الذكري يجد صداه في المفعَّل الأنثوي باعتباره المنطلق الداعم للعقيدة المتشكلة.
لقد كانوا مدركين لفذاذة الضحك من الأعماق، وقابلية الانفتاح على الكوني.
يمكن القول هنا، أن طاليس لم يراهن على الماء إلا لأن ثمة ما كان يلح عليه من جهة احتوائه الحوائي، والشغف الآدمي الضمني بذلك، فكان الغطاس والعائم، وأن هيراقليطس كان مزدحماً بنارها الحياتية، بقدر ما كانت عينه على آدم وهو يحاول الإحاطة بهذه النار، بقدر ما كان سقراط يحاول تجاهل رحابة حواء لأنه يرسم الحقيقة بمقاس آدمي، وأن أفلاطون لم يستطع التحرر من غواية حواء وهو يكتب” جمهوريته “وفق رغبة ذكورية، وما في ذلك من محفّز حيوي.
يمكن القول هنا أن ابن سينا كان يجد نفسه في طابعه المشرقي بين خصوبة الجسد الحوائي وصلابة عود آدم فيما كان يكتبه في مجالات شتى، وأن المعرّي كان يحمل في داخلة الصورة الأزهى لحواء باعتبارها المدخل إلى فهم الحياة، وأن ابن عربي لم يستطع التفكير ولا مرة واحدة بعيداً عن اللعبة المدهشة لحواء، ومهدت لنشوء حياة إنسانية، كما لو أن ملهم الكتابة الصوفية العرفانية هو الأصل الحوائي، وأن آدم المقيم فيه باحث عن حقيقة أدهشته بداية، وأن ابن رشد ما كان ينفك عن مخاطبة نفسه بمنشّط يصله بما هو أنثوي وهو المسكون بكينونة رجل كامل البنيان.
يمكن القول هنا، أن ديكارت استمد” الكوجيتو “من مرجع أنثوي، جهة الإحالة على الذات وتبينها في عمقها، وأن كانط رغم كل صلابته واعتداده بنفسه، ما كان بوسعه تجاهل المغذّي الأنثوي للكتابة بوصفها دفق طاقة أنثوية، وأن نيتشه في كل ما سعى إليه، كان يقبل على المرأة باعتبارها أس الفلسفة، طالما أنها تبحث عن الحقيقة، وهذه تشير إليها كثيراً(2).
نيتشه تحدث عن الماء الطاليسي والنار الهراقليطسية، وهما عنصران لهما نسب أنثوي في القيمة والانتثار، بقدر ما حاول هيدجر الوقوف على حقيقة الفلسفة من موقع الدهشة مستعيداً دمغتها اليونانية، ومن الصعب تخيل الدهشة بعيداً عن حالة حواء إزاء شجرة الحياة ( إن الدهشة باعتبارها انفعالاً هي أصل الفلسفة.) (3).
لكن، أليست الدهشة في أس مكوّنها قائمة على ضحك ما، يهيئ لاكتشاف حقيقة المدهِش ؟
ولعل مسعى دولوز الأخير هو في كيفية الربط بين الباطن والظاهر، هو في الوصل بين الأفقي والعمودي، استجابة لنداء الفلسفة الحار، كمدعّم أنثوي، وهو يطرح خاصية الفلسفة بمعناها التضاريسي، إذ يدخِل الصحراء والماء والسطح وحتى الغابة، عبر مفهوم شجري” الجذمور “النبتة التي تستحيل شجرة من قلب شجرة، كما لو أن ثمة ولادة مغفلة من الاسم، وليكون المفهوم في أقصى تجلياته المعرفية بطابعه الفلسفي حواء ما، جهة التكاثر الضمني، وما على الفيلسوف، ولكي يكون فيلسوفاً، إلا أن يستوعب أنثوية المعطى داخله قبل خارجه( إن الفيلسوف صديق المفهوم، إنه بالقوة مفهوم. إن الفلسفة، بتدقيق أكبر، هي الحقل المعرفي القائم على إبداع المفاهيم ..)(4).
حول المفهوم أو بصدده يصعد الخلاف، كما يتنوع، ويندفع الداخلون في الرواق الفلسفي أو على أرض الفلسفة إلى النقطة التي يواجه فيها كل منهم الآخر، حيث لا كأس ولا تصفيق أو احتفاء بالمنتصر، حيث إن كل فيلسوف فعلي هو مشروع شهيد رمزي طبعاً، وتكون شهادته ذاتية، لأن تكليفه لأن يكون محارباً فلسفياً كان بوازع فلسفي، وهي حالة نادرة بالتأكيد، ومن الصعب تماماً معرفة هذا النوع من الشهداء في أي مجتمع، إذ إن الذي يلهِم المرء في أن يخرج إلى العالم: الداخلي والخارجي، هو ما يكتشفه ذاتياً، ويكون له عالمه، أي بحثه عن حقيقة حواء وآدم، ليكون ذلك الطفل الذي يتنفس العالم ويقبل على كل شيء حاضناً إياه وملاعبه وهو ناضج قوي العود، ليكون هذا الاستثناء في التفكير الحر القادر على لفت الأنظار إلى أن ثمة شيئاً في العالم وفي الحياة يجب التنبه له، وهو الوجود الذي يلتقي فيه الجميع.
يكون المتحدَّث باسم الفلسفة وعنها كائناً من نوع آخر، ولكنه في الوقت نفسه ينبّه من حوله أن ثمة ما يستحق السؤال عنه ليكون في مستوى كينونته، أو إنسانيته المختلفة، ليكتشف خاصيته، باعتباره الفيلسوف أساساً، سوى أنه مبتعد عن ذلك الكائن الذي يستقر في أعماقه وينتظر منه إطلاق سراحه ليلعب بأشياء العالم، ويطلق عليها أسماءه الخاصة، أي ليكون لكل منا هذا التنوع الهائل والجليل في حواء” أكثر من لون وقامة وهيئة “وآدم” أكثر من قيافة وشكل وملمح كذلك“.
تغدو الفلسفة التي لا تكف عن التضحية بكل الذين يتحدثون أو يكتبون باسمها فعلياً، المترجمة الأمينة للسان يجاور الحقيقة بقدر ما يمتلك أسراراً عنها، وهي انسكانها الحوائي، كما لو أن سلسلة الجرائم الكبرى التي ترتكبها البشرية، أو تتفعل عبر الحروب وغيرها هنا وهناك، ليس أكثر من تشويه النص الأصلي، لأن ثمة حواء واحدة وآدم واحداً، وأن كل مولود يمثّل بعداً من أبعادهما، وهو في طفولته أقدر على معايشة الحياة وإبراز بدعتها.
ولأن ثمة مناسبة عالمية للفلسفة، صار في الوسع السؤال عن هذا الانزياح الفلسفي، إذ يطاح بالفلسفة في هذه الجهة أو تلك، وهذه الإطاحة لا تعني سوى التالي: حذار من الحديث، أي حديث، عن حواء أو آدم، ومن بينهما من الأبناء، لأن ثمة حواء واحدة وآدم واحداً، وثمة قابيل في الوسط، ولا يجوز التعرض لهم إلا من خلال ما هو مدوَّن في نصوص محروسة حتى اللحظة، وما في ذلك من وجود حالة التعبئة العامة والحائلة دون ظهور أي مولود فلسفي، ليكون هذا المعطى تعبيراً عن الفلسفة التي لا يرحَّب بها، ليس لأنها ترتبط بالقتل، قتل رمزي، وإنما لأنها لا تفعل ذلك في المجمل، لأن هناك صنوف قتل أخرى، تبلبل وعي كل من يفكّر كما يجب في الفلسفة، ويكون من دعاتها والعاملين في حقلها.
ليكون ثمة سؤال مطروح بقوة: ما الذي يحفّزنا على هذه الكتابة، في الوقت الذي تظهر الأرض ناطقة بلغات أخرى، ومحتفى بها في لغات أخرى، ويحضَّر لها في يومها التاريخي في مجتمعات أخرى، وفي الوقت الذي نكون نحن، بصورة ما، الأمثلة الحية على استمرار القتل الآخر والذي يمنع من طرح السؤال ذي النسَب الفلسفي، فنكون موضوع شماتة الآخرين ذوي التاريخ الفلسفي والمعرَّفين به، وليس رثاءهم، لأن الرثاء يعني وجود من يرثي بلغة المرثي غالباً.
إن الطفولة المستباحة في مجتمعاتنا هي علامة الفلسفة المعكوسة، واعتبار الفعلية في حكم الإرجاء إلى أجل غير مسمى.
لكن لا بد من الحديث عن اليوم العالمي للفلسفة، فإذا كنا محرومين من المشاركة الفعلية فيه، علينا على الأقل، أن نتهجاها، وأن نذكّر بها، لئلا يتشجع” قتلتها “على التعتيم علينا وتبكيمنا أكثر مما نحن عليه !
لنضحك، ولو في صمت، لنؤكد صلتنا بحياة نهفو إليها، نحن الذين نعتقد أن نفي الفلسفة هو حجْر على الحياة فينا بالكامل!
الهوامش:
1- ينظَر تقديمي لكتاب جاك دريدا: المهماز” أساليب نيتشه "، ترجمة : عزيز توما، دار الحوار، ط1/2010، ص44.
2- من المستحيل قراءة أي كتاب لنيتشه دون معايشة هذا الحضور أو الزخم اللافت للمرأة داخله، كما لو أنه المرأة داخلاً والمندفع كرجل خارجاً، كما لو أنه القاتل والمقتول بين الاثنين( هكذا تكلم زرادشت- العلم المرح- أفول الأصنام..الخ)، ويمكن الرجوع للتوضيح أكثر، إلى كتاب جاك دريدا السالف الذكر، ص 103 ، وما بعد .
3- ينظر، هيدجر: ما هي الفلسفة ؟ في مجلة ( العرب والفكر العالمي )، بيروت، ع 4/ 1988، ص31.
4- دولوز، جيل- غتّاري، فليكس: ما هي الفلسفة، ترجمة ومراجعة وتقديم : مطاع صفدي وفريق مركز الإنماء القومي، مركز الإنماء القومي، بيروت، ط1/ 1997، ص 30 .
الإثنين فبراير 10, 2014 4:32 am من طرف سميح القاسم