شات سورية (3) – عن الخلط بين الدين والسياسة في
خضمّ المناقشات العديدة التي شهدتها الشهور الأخيرة من الأزمة الوطنية في
سوريا، لا يمكن للمرء إلا أن يتوقّف عند ملاحظة في غاية الأهميّة، ألا وهي
الضعف الواضح في الثقافة السياسية والوطنية لدى عددٍ كبيرٍ من الشباب
الذين يلتقيهم المرء ويحاورهم، وعدم وضوح لديهم في المفاهيم المتعلقة بها.
يبدو ذلك مفهوماً في ظل غياب أي شكل من أشكال الحياة السياسية الحقيقية في
بلدنا طيلة الخمسين عاماً المنصرمة. ولعل المفهوم الأبرز الملتبس لدى
الكثير من الشباب هو عن
علاقة الدين بالسياسة.
فكثير من الشباب الذين أعرفهم والذين ينتمون إلى ما اصطلح على تسميته اليوم بالـ “
أقليات”
المتنوّعة ضمن فسيفساء المجتمع السوري، يعلنون صراحة عن توجّسهم من بروز
بعض رجال الدين في الحركة الاحتجاجية التي يشهدها الوطن، كما يتوجّسون من
استخدام بعض الشعارات الدينية، لا سيّما انتشار استعمال المتظاهرين في
إعلانهم تأييدهم للانتفاضة، لهتاف التكبير “الله أكبر” من على شرفات
المنازل وأسطح البيوت في كثير من المناطق والقرى والمدن، معتقدين أن هذا
التوظيف للدين ما هو إلا دليل واضح على أن الحركة ذاتُ طابعٍ “إسلاميّ –
سنّي” إن جاز التعبير، الأمر الذي يبرّر برأيهم خوف الأقليات على
مستقبلها، وإحجام غالبية أبنائها عن المشاركة في حراك قد يأتي بأحزاب
دينية متشددة كالإخوان المسلمين، تهدّد نمط حياتها، وتقلّص من حرياتها.
ومن جهة أخرى يعتبر كثير من هؤلاء الشباب أنه من غير
المقبول تدخل رجال الدين في السياسة، وأن واجبهم ينحصر في أمور الدين،
وبالتالي يجب عليهم سواء أكانوا مسلمين ام مسيحيين أن يظلوا على الحياد في
الصراع الدائر.
العلمانية وفصل الدين عن الدولةفي الواقع، لا يمكن القول سوى أن المبدأ السابق (عدم
تدخل رجال الدين في السياسة) صحيح تماماً، ومطلوب الآن أكثر من أي وقت
مضى، خاصة لتطمين القلقين من أبناء الوطن. ففي أي دولة مدنية يرفض رفضاً
قاطعاً الخلط ما بين الدين والسياسة، أو تدخل رجال الدين في السياسة.
ولعلّ هذا المبدأ القادم
من مبادئ العلمانية الأوروبية، والناجمة بدورها عن
تجربة مريرة تأتّت من تسلّط رجال الدين وسيطرتهم على الحياة السياسية
لعقود طويلة، قادت إلى حروب دينية واقتتال مرير (حروب الكاثوليك والهراطقة
في فرنسا، حروب الكاثوليك والبروتستانت في بريطانيا وألمانيا، وما يسمى
خطأ بالحروب الصليبية…)، الأمر الذي دفع الأوروبيين إلى استخلاص نتيجة
مفادها:
ضرورة إبعاد رجال الدين عن السياسة، واستنباط نظام حكم علمانيّ لا يكون للدين علاقة فيه، كوسيلة
لوقف الاقتتال والحروب الدينية. ولكن إن كان ذلك صحيحاً بشكلٍ مطلق كما قد
يظن البعض، فما السرّ وراء وجود كلمة مسيحيّ في تسمية عددٍ من الأحزاب
السياسية في أوروبا لا سيّما في ألمانيا والنمسا على سبيل المثال، وهل
تعني علمانية الدولة أن يكون السياسيّ مجرّداً من أيّ إيمان حتى يتمكّن من
دخول معترك السياسة؟؟
الأخلاق السياسيةالواقع أنه لحل هذا الالتباس لا بد من توضيح مصطلح قد يبدو جديداً لكثيرين في منطقتنا، وهو ما اصطلح على تسميته
بالخلق السياسي. وهو بعيد تماماً عن التوظيف السياسي للدين. فما هو هذا الخلق أو الأخلاق السياسية؟
لشرح هذا المصطلح، أقتبس المقطع التالي للأب
ميشيل آلار اليسوعي من محاضرة بعنوان “المنهج العلمي وروح النقد”*، يقول فيها:
إن السياسة بالنسبة إلى المؤمن أياً كان دينه، يجب أن تخضع
إلى مبادئ الدين. ولكن الدين لا يحدّد سوى مبادئ الخلق السياسيّ العامة،
فهو لا يفرض هذا الشكل أو ذاك من أشكال الحكم، وبالتالي لا يحدّد السياسة
الخاصة بحزب من الأحزاب.
من هذا الاقتباس نفهم أن الأخلاق السياسة هي مجموعة التصرّفات التي
يقوم بها السياسيّ في الشأن العام بتأثيرٍ من إيمانه. بعبارة أخرى هي
الأخلاقيات الإيمانية التي تقود عمله السياسي. ولكن هل تقتصر السياسة
والأخلاق السياسية بهذا المعنى على العاملين في الحقل السياسي وحدهم؟؟
في الواقع يمكن تعميم هذا المبدأ ليشمل المواطنين كافة على اختلاف
مشاربهم، بمعنى أنها الأخلاق الإيمانية التي تحكم مواقفهم من قضايا وطنية
معينة.
وهكذا عندما يعلن رجل دين موقفه من قضيّة وطنية، لا سيّما إن كانت
مرتبطة مباشرة بإيمانه فهذا لا يعتبر تدخلاً منه في السياسة. فلو كان
الجدل على سبيل المثال لا الحصر، يدور تحت قبّة البرلمان حول قضية سنّ
قوانين تتعلّق بالسماح بالإجهاض من عدمه، وأعلن رجل الدين المسيحي رفضه
لإقرار مثل هذا القانون انطلاقاً من إيمانه الذي يقدّس ويحترم الحياة
البشرية، فهل يعدّ ذلك تدخلاً منه بالسياسة؟؟ لا أعتقد أن شخصاَ سيدعي
ذلك، لأن الموقف من مثل هذه القضية يظهر بجلاء على أنه من صلب الإيمان
المسيحي أو الإسلامي أو غيره…
فكم بالحريّ إذاً إن كان الموضوع يتعلّق بحياة وحرية الآلاف من أبناء شعبه؟؟
ألا يعتبر سكوته والحالة هذه، خيانة لمبادئ إيمانه الأساسية؟!
وفي حال تكلّم لإدانة تصرفات عنفية من قبل رجال السلطة، أيمكن اعتبار
ذلك تدخلاً في السياسة، أم من صلب واجهه الذي يقتضي منه الدفاع عن كرامة
الإنسان؟
وهنا كمسيحي يمكنني الاستشهاد بكثير من المواقف ليسوع والتي أدان فيها السلطات القائمة (سياسية او دينية) لاضطهادها الإنسان.
توظيف الدين لأغراض سياسيةأما في حالة تدخل رجل الدين بشكل مباشر في حملةٍ انتخابية لصالح مرشح
دون غيره، أو تيّار سياسي بعينه دون سواه، فإن ذلك يعد بلا شك تدخلا
فاضحاً وغير مقبول في السياسية وخرج عن إطار الأخلاق السياسية التي تحدثت
عنها.
هكذا أميّز إذاً بين الأخلاق السياسية، وبين الاستغلال السياسي للدين،
أو محاولة جعل الدين مطية لفرض توجهات سياسية معينة وأتابع مع نص الأب
آلار:
وعليه فعندما يستمد حزب من القرآن والأصول نظريته السياسية
الخاصة به، فإنه لا يضع السياسة في خدمة الدين، بل يجعل الدين وسيلة لهدف
سياسي، في حين يجب أن تخضع كما ذكرناه للخلق الديني.
وهو هنا يوضح ما يرمي إليه من خلال حادثتين من التاريخ الإسلامي، تم فيهما استغلال الدين في مسائل سياسية:
- أولهما هو استغلال الأمويين لعقيدة الجبر في سبيل دعم حكمهم المطلق،
فاستخلصوا من القرآن كل الآيات التي تثبت بنظرهم أن الإنسان مجبر لا حرية
له بتاتاً، وأن الخليفة هو خليفة بأمر الله ولا حقّ للناس في الاعتراض
عليه.
- وثانيهما قيام الخلفاء العباسيين باستغلال نظرية خلق القرآن، وقيامهم
بامتحان العلماء (وأبرزهم ابن حنبل) لأسباب سياسية تمثلت في كسر شوكة
هؤلاء الذين كانوا يقودون المقاومة الشعبية لحكم العباسيين.
يشارك المفكر المغربي الكبير
محمد عابد الجابري**
موقف الأب آلار القائل بأن جوهر الأزمتين كان سياسياً تحت غطاء ديني. وأن
معارضة الحنابلة لنظرية خلق القرآن كانت سياسية أكثر منها دينية، لكونها
الوسيلة الوحيدة المتوفرة بين أيديهم لمعارضة الحكم العباسيّ بشكل موارب،
أي دون الإعلان عن ذلك صراحة والتسبب بقطع رقابهم.
في هذا الإطار يمكن فهم ظاهرة التكبير مثلاً، وما تشكّله من إعلان رمزي
عن معارضة القمع الأمني الذي يتعرّض له المحتجّون، وذلك في ظلّ غياب الأطر
المدنية السليمة التي يمكن أن تندرج فيها أي معارضة سياسية في سوريا حتى
لحظة كتابة هذه السطور. كذلك يمكن فهم السبب الذي يجعل بعض رجال الدين
المتشدّدين من أمثال السيد العرعور، يلقون أذناً صاغية لدى البعض من أفراد
شعبنا.
وبالعودة للحديث عن الأخلاق السياسية، أختم فأقول إنني كمواطن سوري مسيحي، لا يمكنني أن أشعر بأي امتعاض إزاء كون الشريعة الإسلامية
أحد مصادر التشريع في بلادنا، وأشدّد هنا على كلمة أحد، لا المصدر الوحيد، خاصة في بلدٍ ذي تركيبة دينية وعرقية متنوعة