خربشات سورية (4) – ما الذي ينقصنا؟ أصابتني
الأنباء الواردة من سوريا باكتئاب شديد، كنت قد أعددت مجموعة من المقالات
للنشر، أحاول فيها أن أناقش وبشكل موضوعي بعض قضايا الأزمة السورية
لأستكمل خربشاتي السورية. لكن الدم ومشاهد الإصابات الناجمة عن القصف
الهمجي على بعض أحياء حماة البارحة جعلاني أعزف عن هذه الخطوة. فما فائدة
الكلمات اليوم والدم يجري أنهاراً، ما فائدة الكلمات وما زال بعض السوريين
يتبجحون بمولاتهم للنظام، يتبجحون بأن الجيش إنما يقوم بواجبه الوطني وقد
نسوا أو تناسوا أن العدو هو على الحدود الجنوبية لا وسط المدن والأحياء
السورية؟! ما نفع الكلمات وبعض السوريين لا يرى حرجاً في قتل مئات
السوريين والتنكيل بهم في يوم واحد ما دام ذلك بحجة حماية استقرارهم
المزعوم؟؟
نعم يصيبني الاكتئاب عندما أكتشف أن أشخاصاً وأصدقاء أحب، ولي معهم
ذكريات من أيام الطفولة يفكرون بهذه الطريقة، ويطالبون بالقصف والسحل
وتربية العاصين! يا حيف.
لا أعرف كيف أصف سوداوية المشاعر التي أعيشها، أعرف أنني حوالي الساعة
الحادية عشرة إلا ربع صباحاً حينما صحوت من أفكاري، وقررت إغلاق
الكومبيوتر والنزول من غرفتي في الفندق لأتوجه إلى الكاتدرائية في
لويولا، سمعت بعض الهتافات خارجاً، فأسرعت بالنزول، مع الكاميرا بالطبع.
لويولا هي إحدى قرى إقليم الباسك شمال إسبانيا والذي لدى البعض من
أبنائه كما يعرف الجميع طموحات انفصالية، تمادى البعض فيها إلى حد تنفيذ
عمليات إرهابية. في الواقع تقع هذه القرية الصغيرة في واد جميل يضم عدداً
من المدن الصغيرة، ولكنها تكتسب أهميتها من كونها قرية القديس “إغناطيوس
دو لويولا” مؤسس الرهبنة اليسوعية، الرهبنة الأكبر والأوسع انتشاراً في
الكنيسة الكاثوليكية. من هنا فإن
الاحتفالات بعيد هذا القديس وهو يوم 31 تموز، يكتسب اهتماماً
استثنائياً لدى أهل المنطقة، ليصبح محل فخر قومي، على اعتبار أن هذا
القديس الباسكي أسّس رهبنة عالمية. لذلك فقد تحول هذا العيد إلى ما يشابه
العيد الوطني، قداديس، كرنفالات، ألعاب نارية، حفلات موسيقية…
وقد كان من المقرر أن تنتهي الاحتفالات اليوم في 1 آب، بقداس احتفالي
كبير في الساعة الحادية عشرة في كاتدرائية لويولا، يحضره الأسقف والحكومة
المحلية، وأعداد غفيرة من الناس. وقد كان هذا الموعد المناسبة الأنسب التي
استغلتها مجموعة من الناشطين للقيام بمظاهرة!
نعم مظاهرة أما الكاتدرائية الكبرى في لويولا. غريب، أليس كذلك؟! يبدو
أننا في الشرق الأوسط لسنا الوحيدين الذين نستغل مراكز العبادة والتجمعات
فيها للتعبير عن مواقف سياسية!!!
كما ترون في الصورة فقد تجمع هؤلاء المعتصمون على درج الفندق وعلى بعد
مئة متر من مدخل الكاتدرائية بشكل حضاري وسلمي رافعين اللافتات التي تعبر
عن مطالبهم وهاتفين بشكل متواصل بشعاراتهم.
أما من هم هؤلاء؟ إنهم بعض من أهالي معتقلي حركة إيتا الباسكية
الانفصالية والمصنفة في أوروبا كمنظمة إرهابية. جاؤوا يتظاهرون لأن
أولادهم معتقلين في سجون إسبانية خارج إقليم الباسك الأمر الذي يجعل من
الصعب عليهم زيارتهم بشكل دوري، فجاؤوا يطالبون بنقلهم إلى سجون أقرب في
إقليم الباسك.
طبعاُ بالرغم من سلمية مظاهرتهم، فقد تسبب هؤلاء النشطاء بالإزعاج
للكثيرين إذ أفسدوا بهجة الاحتفال والمسيرة التي كانت متوجهة للكنيسة، بل
تسببوا أيضاً بتأخير القداس عن موعده المقرر. لكنني والحق يقال لم أجد أي
أحد يأتي ليهاجمهم أو يسبهم أو يتهمهم باتهامات كتلك التي نسمعها كل يوم
عن المتظاهرين في سوريا.
أما عن قوات الأمن؟ فقد وقفت بكل هدوء وتحضر حول المتظاهرين تراقبهم وتضمن سلامة تحركهم. علماً أنهم أهالي أشخاص أدينوا في
محاكمات عادلة لقيامهم بعمليات إرهابية.
بعد قليل أتى الحاكم المحلي والذي كان يتقدم المسيرة الاحتفالية
المتوجهة إلى الكنيسة، فترك المسيرة وتوجه إلى المتظاهرين ليتحاور معهم
ويعلمهم بأنه أخذ علماً بمطالبهم. طبعاً جرى كل ذلك على مرأى من الصحافة
ووسائل الإعلام…
شتان بين مظاهرة (اعتصام ) لويولا وبين ما يجري في سوريا.
ولكي لا نذهب بعيداً في المقارنات ويتهمني البعض بإجراء مقارنة ظالمة
بين اعتصام سلمي متحضر في أوروبا وبين المظاهرات العنيفة (بحسب قولهم) في
شوارعنا، فسأقارنها مع اعتصام وزارة الداخلية في آذار الماضي في دمشق،
والذي كان للغرض نفسه تضامنياً مع أهالي المعتقلين في سجوننا الذين أتوا
إلى وزارة الداخلية يستفسرون عن أبنائهم، والذي شاركت فيه عدد من الناشطات
(سهير الأتاسي ورفيقاتها) اللواتي لا يمكن إلا وأن يكن سلميات، لا سلفيات.
كيف تعاطت معهن أجهزة أمننا الموقرة بالضرب والشد من الشعر والاعتقال
لأكثر من 15 يوماً.
ولكن مثل هذه المقارنة واضحة فلم أكتب عنها؟في الواقع أكتب لأن أحد الأصدقاء علّق على بعض ما كتبته على الفايس بوك قائلاً
: ما الذي كان ينقصنا من قبل؟ أما اليوم فقد فقدنا الأمان.
حسناً يا صديقي بالتأكيد لو أرددت أن أعدد لك ما ينقصنا لاحتجت إلى أيام ولكنني سأكتفي بأن أقول لك ما ينقصنا في عبارة واحدة:
ما ينقصنا هو دولة تعامل مواطنيها كبشر.
ما ينقصنا هو دولة نحظى فيها باحترام لكرامتنا الإنسانية.
ما ينقصنا هو دولة يتنازل حاكمها ويقابل معارضيه ويحاورهم في الشارع
ويصغي لهم، ولا يعتبر نفسه الأحد الصمد الذي يأمر فيطاع يدعو إلى مؤتمرات
الحوار وبعد أيام يقصف مدنه بالمدافع والدبابات.
وبعد ما حدث في حماة البارحة، والتبريرات التي أسمعها، يبدو أن ما ينقصنا هو أن نكون بشراً حقاً.