خربشات سورية (2) – وأخيراً نزل المثقفون البحر أكتب
من أحد مقاهي بيروت البحرية، حيث لا تنفع المظلات المقامة في درء حرّ شمس
تموز اللاهبة، ولا يكفّ رواد المقهى عن التلويح بمراوحهم أو بقوائم
الطعام، علّها تصنع لهم بضع نسمات تسهم في التخفيف من وطأة القيظ الذي
يعانون منه.
أرفع نظري عن هؤلاء الزبائن لأتأمل قليلاً في البحر، فألمح على بعد عدة
أمتار، مجموعة من الصيادين تخوض في الأمواج المتلاطمة حتى ركابها. إنهم
قابعون في أماكنهم منذ الصباح الباكر لالتقاط ما يسد جوع الأفواه المفتوحة
في العش المنزلي البائس. أيديهم مشغولة بإمساك الصنارة، لذلك لا يملكون
رفاهية التلويح بالمراوح لدرء لهيب الشمس التي تصليهم دون هوادة منذ أن
انبثقت أشعتها الأولى عليهم وهم في وقفتهم هذه. لا شمسية فوق رؤوسهم
لتحميها، بل مجرّد قبعات صيد قديمة بالية ومهترئة من كثرة الاستعمال.
لا أنفك أفكر في هؤلاء، يا له من خيار صعب لتحصيل لقمة تكفيهم شر مد
اليد والاستعطاء! أو انتظار تحنن هذا المسؤول أو ذاك السياسيّ. لا بد أن
عدداً ممن هم في المقهى يتأملون المشهد دونما مبالاة، لا بل لربما يزعج
ذلك المظهر البعض الآخر، فصيادون بثياب مهترئة، بل بصدور عارية في بعض
الأحيان قد يشكلون منظراً غير لائق لبعض الناس ومسيء للاستقرار الذي
ينعمون به في كراسيهم الوثيرة في ذلك المقهى أو ذاك، بالرغم من أنهم
يتصببون عرقاً ويعانون جراء الحرّ دون أن يعترفوا بذلك.
لم أتمالك نفسي إزاء هذا المشهد عن مقارنته مع ما يجري في سوريا اليوم، قلة من الناس سعت وراء
كرامتها ومستقبل أفضل لها ولأولادها، مطلقة حركة احتجاجية واسعة تدخل
غداً شهرها الخامس، وقد غاصت في أمواج الخطر حتى ركابها: قمع امني لا
يطاق، اعتقالات بالجملة طاولت الآلاف، رصاص غادر حصد أرواح المئات،
واتهامات باطلة بالخيانة والعمالة والاندساس وتشويه سمعة البلد، والأهم
زعزعة الاستقرار.
حتى الآن اكتفى الكثيرون من الطبقة الوسطى في سوريا بموقف زبائن
المقهى البيروتي، منهم اللامبالي وكأن ما يحدث هو في كوكب آخر، ومنهم من
امتعض واشمئز منهم، مطالباً السلطات باقتلاعهم من الشوارع بغض النظر عن
الوسيلة لأنهم يفسدون عليهم جلستهم الصباحية الرائقة رغم أن العرق وصل إلى
أخمص أقدامهم!!! منهم من اكتفى مثلي بالتعاطف معهم والكتابة عنهم.
أمس فقط قررت مجموعة من المثقفين والفنانين أن لا تكتفي بموقف التعاطف
هذا، قررت أن تبلّ أقدامها هي الأخرى وتنزل إلى البحر الهائج لتتلقى شيئاً
من لطمات أمواجه. أمس قررت مجموعة منهم أن تتظاهر في منطقة الميدان بدمشق
لتقول لصيادي الحرية أولئك، والمنتظرين منذ أربعة شهور، ما تطلبونه في بحر
الاتهامات هذا هو مطلبنا جميعاً، كلنا نريد سمك الحرية لأولادنا، كلنا
نريد لقمة الكرامة لا الذل لعائلاتنا…
أخيراً نزل المثقفون إلى البحر، فهاجت الأمواج وماجت.
عسى أن تنضم فئات أخرى من المجتمع إلى الصيادين وتعاونهم على رفع الشبكة عوضاً عن الصنارة، فيكون الصيد وافراً.
* الصورة بعدستي منذ عدة شهور على شاطئ جبيل في لبنان