خربشات سورية (5) – ستيف جوبز الجندلي أحزنني
كما أحزن الكثيرين نبأ وفاة ستيف جوبز، والذي تصدّر عناوين الأنباء وصفحات
تويتر وفايس بوك منذ صباح الأمس. لن ينسى عالم التقنية هذا الرجل
والإنجازات الكبيرة التي حقّقتها شركته والتي ساهمت إلى حدٍّ بعيد في
تغيير وجه التقنية في القرن الجديد.
يرجع حزني هذا إلى خسارة شخص كان وراء إنجازات أستمتع ببعضها أيّما
استمتاع، لا سيّما جهاز الآيبود الذي كلّما استعملته أدعو لستيف جوبز
وشركة آبل اللذان مكنناني من الاحتفاظ بمكتبة موسيقية تتجاوز الـ 500
أسطوانة في قطعة إليكترونية لا يتجاوز حجمها راحة اليد. لا علاقة لحزني
إذاً بالأسباب الشوفينية التي دفعت الكثيرين للتذكر بأنّ والد ستيف حوبز
البيولوجي هو الدكتور السوري عبد الفتاح الجندلي الذي أنجبه إبان دراسته
في أمريكا وعرضه للتبني وووو…
في الواقع شهد الفايس بوك أمس ما يشبه الانفجار في التعازي والتعليقات على نبأ وفاة جوبز، ولربما
كنت لأساهم بنصيب فيها لولا أن ما يجري في وطني يجعل كل نبأ آخر على
أهميته أمراً سخيفاً وتافهاً في مقابل عشرات الأرواح التي تسفك يومياً على
مذابح السلطة والعنف والتطرف. إلا أنني لم أتمالك نفسي وأنا أقرأ العديد
من التعليقات التي جعلني بعضها أضحك، وبعضها الآخر جعلني أبكي. إذ كانت
تلك التعليقات مناسبة جديدة عكست الانقسام الذي يعانيه حالياً مجتمعنا
السوريّ، لا بل والأمرّ من ذلك هو أنها عكست النظرة العنصرية التي يتمتع
بها الكثيرون تجاه باقي فئات الشعب السوري، إذ رأى أحدهم من جماعة
“شعبنا ما بتلبقلو الديموقراطية”في أحد تعليقاته أن سرّ إبداع ستيف جوبز يكمن في تبنّيه من قبل أسرة
أمريكية، وإلا فإنه لو عاد إلى سوريا لكان بائع شاورما أو صبي بويا…
وكأنما كل السوريين من هذين الفئتين. وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على
نظرة استعلائية مقيتة نكنها بعضنا لبعض، ورائجة هذه الأيام إلى حد يدعو
إلى الذهول!
على المقلب الآخر ثمّة من اتخذ حالة جوبز ليرد على أنصار النظرية
الاستعلائية السابقة، مجادلاً بأنه دليل على أن البذرة السورية غير مضروبة
جينياً! وأنها عندما تلقى الرعاية والاهتمام والبيئة المناسبة تنمو
موهبتها وتتفتح عن ثمار مذهلة…
وعلى مبدأ
“العنزة القرعة بتفتخر بشعر جارتا” كما يقول المثل الشعبي، جعل الكثيرون من الرجل مادة للمفاخرة بالتفوق السوري وإبداعه!
لا أخفيكم أني أدهش كلما رأيت نموذجاً من المفاخرة في وسائل الإعلام
بإنجازات أحد المغتربين العرب سواء من الجيل الأول أو الثاني أو الثالث،
واتخاذها دليلاً على عظمة اللبنانيين أو المصريين أو السوريين أو غيرهم!
لم يعن هذا النوع من المفاخرة الجوفاء لي شيئاً، فما فائدة التفاخر بدور
الجينات في إنجاز تم في بيئة غير بيئتنا وبشروط غير شروطنا وظروف غير
ظروفنا وتربية غير التربية التي تتم في مدارسنا؟!
منذ يوم البارحة أفكر في أنني لو أردت التفاخر بأحد أبناء بلدي فلن
يكون ستيف جوبز الجندلي أحدهم بالتأكيد، إذ لا فضل لبلدي عليه بنكلة!
وإنما ورد في خاطري نموذجان يستحقان أن أفاخر بهما: “
غياث مطر ويحيى الشربجي”. شابان من بلدي، شربا من حليب البلد ومائه وتحديا كل الظروف التي رافقت نشأتهما ليصيرا علمين من أعلام النضال السلمي في سوريا.
الاثنان لمن لا يعرفهما هما من تنسيقية داريا التي قادت مظاهرات داريا منذ بدء الثورة السوري
ة
وحرصت على سلميتها. كان غياث من خرج بفكرة إعطاء رجال الأمن في المظاهرات
زجاجات المياه مع وردة ولصاقة تحوي عبارات تدعو الأمن إلى عدم قتل
المتظاهرين. دفع غياث حياته ثمناً لسلميته مقتولاً تحت التعذيب في أقبية
المخابرات التي حرصت منذ اليوم الأول للثورة على إفراغ الشارع من العقلاء
وتركه مترعاً للمتطرفين. غياث يعمل منجّداً، لربما هي مهنة لدى البعض من
جماعة “شعبنا ما بتلبقلو الديموقراطية” تعادل بياع الشاورما التي
يستخدمونها لتعيير الناس. إلا أن هذه الخلفية “المتواضعة” لغياث ورفاقه في
تنسيقية داريا إحدى البلدات المحيطة بدمشق لم تمنعهم من أن يكونوا أكثر
وعياً وإنسانية من سوريين كثر لقوا من التعليم أفضل نصيب.
لم يكن لغياث قبل الثورة نشاطات سياسية أو اجتماعية بعكس يحيى الذي ذاق
مرارة سجن صيدنايا السيء الصيت بسبب انتمائه إلى ما اتفق على تسميته
بمجموعة شباب داريا بين عامي 1989 و 2003 وهي مجموعة شباب مسلم لاعنفي سعى
لحل مشكلات مجتمعه من خلال تفعيل دوره في كافة قطاعات الحياة، شملت
نشاطاته دراسات فقهية حملت أفكارا تجديدية في الفقه والعقيدة، ترافقت فيما
بعد بنشاطات اجتماعية وأهلية مثل حملات توعية ضد الرشوة والتدخين وحملات
لتنظيف الشوارع… بحسب ما ورد في
سيرته على الفايس بوك.
يحيى شخص مرهف الحسّ وهو برغم تأييده الثورة وقيادته للمظاهرات فقد كان
حريصاً على الخيار السلمي، لا بل أنه كان متأثراً بوجود مواطنين يلقبون
بالشبيحة ويقومون بالاعتداء على المتظاهرين وهو كتب إلى صديقة له في محطة
راديو بكندا قائلاً:
منذ أول مظاهرة في داريا اعتدنا أن نحمل الزهور في وجه
رجال المخابرات و الشبيحة و الحقيقة أنني كنت أرى أن هذه الزهور موجهة
لداخل الناس قبل أن تكون موجهة للطرف الآخر من الامن والشبيحة و أن
فائدتها تعود على تغببر الناس من داخلها قبل أن تسهم في تغيير موقف من
يحمل السلاح لقتلنا و قمعنا و لهذا كنا مصرين على الزهور و كنا نلحظ أن
لها تأثيرا على الناس. الحقيقة الاخرى أنني مصدوم لدرجة لا توصف أنه كيف
استطاع هذا النظام و بماذا ساعدناه حتى استطاع أن يشوه بعض البشر ممن حوله
ليصبحو شبيحة يتمتعون بقدرة على قتل أبناء وطنهم بدم بارد , ياترى بماذا
أسهمنا نحن حتى استطاع أن يزرع في قلوبهم الخوف و الكراهية لنا إلى هذا
الحد.
غياث ويحيى من داريا هما بطلان من بلدي أفاخر بهما من دون شك.
بطلان لم يدخلا في لعبة العنف والطائفية. بطلان أحبا وطنهما وناضلا
لتغييره بالطرق ىالسلمية. بطلان دافعا عن مبدأ ومضيا فيه حتى النهاية.
بطلان دفع أحدهما حياته تحت التعذيب فيما يقبع الآخر في السجن حتى الآن…
ونحن نتجادل في أن شعبنا لا يستحق الديموقراطية!في الختام ليس لي إلا أن أورد أحد التعليقات على الفايس بوك والذي يقول صاحبه:
إن أردتم المزيد من ستيف جوبز توقفوا عن قتل أطفال السوريين
وأنا أقول توقفوا عن قتل واعتقال نشطائنا السلميين.
لمعرفة المزيد عن غياث مطر وشباب داريا يمكن قراءة المقال التالي لياسين الحاج صالح في جريدة الحياة بعنوان:
“غياث مطر… من داريا”.كما أنصحكم بمشاهدة مقطع الفيديو التالي ليحيى الشربجي متحدثاً في
المركز الثقافي بداريا في الأيام الأولى لللثورة حينما أوحت الحكومة بأنها
راغبة باتاحة الفرصة للحوار. في هذا الفيديو يعبر يحيى بكلمات بسيطة
وواضحة وفي منتهى التحضر عن مطالبه ومطالب الآلالف من السوريين في
التغيير: كيف ولماذا؟