تسميم الطبخة
عزت القمحاوي
2011-12-02
قلة
تفهم هي التي تعرف سر الأمان والانضباط اللذين مرت بهما الانتخابات
البرلمانية المصرية. الإعلام المخادع والإعلام المخدوع اعتبر الظاهرة
تصميمًا من الشعب على إنجاز تحوله الديمقراطي.
ليس في الأمر جديد؛
فمديح الشعب هو الرشوة التي تقدم عادة لذلك الهلام الذي يضم العلماء
والأميين الأذكياء ومدعي العلم الذين يسكنون الدرك الأسفل من الوعي، كما
يضم الرهبان مع البلطجية والثوار مع الشرطة.
مديح الهلام المتعدد هو
أساس الحكم في الأنظمة المستبدة العائشة في الكلام ولا تريد أن تعطي شيئًا.
حتى عندما تمدح هذا الهلام المتعدد فإنها لا تكون قد أعطت شيئًا.
وامتداح
الشعب المصري على حسن سير الانتخابات ـ بتجاوزات عادية ـ ليس فيه أي مديح،
لأنه امتداح للبلطجية مع الثوار؛ فكيف آخت الانتخابات بين الحمل والذئب،
وجعلت بلطجية وثوار مصر يتفقون على هدف واحد هو إنجاز التقدم الديمقراطي!
مديح
تافه لا ينطلي على عقل تافه. أين البلطجية الذين أوقعوا عشرات الشهداء في
التحرير حتى عشية الانتخابات؟ وكيف تحولت الشرطة في ليلة واحدة من صورة
ميليشيا خارجة على القانون إلى جهاز دولة ملتزم في اليوم التالي، يقف
لتأمين الانتخابات؟
وقوى الجيش التي تقاسمت تأمين الانتخابات مع الشرطة
الأضعف، كيف لم تردعها وتوقف حربها مع الثوار حول ميدان التحرير وتركت
للوساطات الأهلية مهمة فض النزاع بين طرفين لا يراهما المجلس العسكري ولا
يهمه أمرهما؟
يجب أن تكون هناك إجابات لهذه الأسئلة ويجب أن تكون هناك
ذاكرة لنتذكر أن مصر لم تشهد أيامًا آمنة منذ الإطاحة بمبارك إلا في يوم
الاستفتاء وأيام الانتخابات، فهل علينا أن نجعل السنة كلها انتخابات، لأن
الجوهر الأصيل للشعب العريق لا يتجلى إلا في الطوابير أمام لجان التصويت؟!
عمليًا
الأمر غير ممكن؛ فطوابير الانتخابات الآمنة ستعطل عجلة الإنتاج التي يحرص
الحاكم العسكري على دورانها بأكثر مما تعطلها اعتصامات ميدان التحرير. وهذا
التبسيط لا ينطلي على طفل؛ فالهلام غير المتجانس لا يصبح عظيمًا ومتحضرًا
فجأة.
المنطقي أن هناك يدا قادرة هي التي تضبط الأمن في الانتخابات وبالتالي فإنها هي نفسها التي تفلته في أيام الاحتجاج.
' ' '
الأمن
الانتخابي هو باختصار جواب لغز البلطجة في بقية أيام السنة. وهو في
الحقيقة لم يكن لغزًا عند القلة التي تفهم، والقلة التي رأت بأم أعينها ما
رأت أثناء الثورة.
تسامح الثوار وتناسوا المحاولة الأخيرة لذبحهم وإنهاء
الثورة، في ليلة الحصار الرهيب التي انهمر فيها رصاص ومولوتوف البلطجية
تحت بصر الدبابات الهامدة من الثالثة عصر أربعاء الجمل حتى السابعة من صباح
الخميس.
عبرت مصر فوق تلك الأيام، وستعبر كذلك هذه الأيام السوداء
بكلفة عالية جدًا، لكنها لن تكون كما أرادها المستبد البليد المستريح على
محفته تاركًا إرادته تعمل من خلال مجلس عسكري فعل المستحيل من أجل أن تستمر
مسيرة الاستبداد الظافرة.
مبارك لم يكن ينتوي الترشح لرئاسة جديدة،
هكذا قال الصنم قبل أن ينتقل من صدارة الخشبة إلى خلف الكواليس في ثورة
يناير. والجيش لم يكن ينتوي البقاء في السلطة؛ هكذا قال حسين طنطاوي في
مواجهة ثورة نوفمبر.
مبارك تحدث عن نفسه، وطنطاوي يصر على الحديث عن
'الجيش' بينما الجيش جيش الشعب العظيم المصطف في طوابير الانتخاب، فهو ليس
جيش احترافيين فقط، ولكنه مؤسسة يمر بها كل مصري سليم البدن، والمجلس
العسكري الذي يتولى دورًا مدنيًا هو مجرد ثلاثة عشر ضابطًا يجب أن تحسب
أفعالهم عليهم وحدهم وليس على جيش مصر.
وبعيدًا عن إصرار المجلس العسكري
على التمسك بالتماهي مع الجيش؛ فإننا لم نصدق مبارك في ادعائه الزهد في
الرئاسة مثلما لم نكن نصدقه في نفي التوريث بينما كان ابنه يحكم بالفعل.
ولكننا في المقابل نصدق طنطاوي بأن الجيش لم يعد يطمع في رئاسة البلاد.
ولكن القلة التي تفهم تعرف أن تسميم الطبخة هو أقل ما يجب أن يفعله الرجل الطبيعي عندما يؤمر بالطبخ لحفل عرس حبيبته.
' ' '
العسكر
الذين كان عليهم الطبخ في حفل زفاف مصر إلى جمال مبارك كتموا غيرتهم، حتى
جاءتهم ثورة الشعب فطبخوا للعريس بمساندتهم الثورة بعد تلكؤ، ولكنهم لم
يتخلصوا من ابن مبارك حتى بدأت غيرتهم على مصر من جديد.
سمموا حفل
الزفاف الديمقراطي في طبخة استفتاء معيب، ثم وضعوا ما تبقى من السم في
طنجرة لجنة الأحزاب التي صرحت لأحزاب دينية، ليس فقط لجماعة الإخوان
السياسية، بل للسلفيين الخارجين بالكامل على قواعد العقد الاجتماعي ولا
يمكن قبولهم في أية ديمقراطية.
لا يمكن للخطاب الوحشي الذي تابعناه من مرشحي حزب النور السلفي أن يكون مقبولاً في فرنسا أو ألمانيا أو اليابان.
الجماعات
الرافضة لمبادىء المشاركة على أساس المواطنة تربت على يد الصنم المتناوم
ووزير داخليته، لكن حبيب العادلي كان يدعوهم للموت عندما يسهل لهم تفجير
كنيسة، بينما دعاهم طنطاوي للمنادمة وترك لهم مهمة تفجير الديمقراطية.
ولكن الكثرة التي صارت تفهم ستقبل التحدي، وستدفع الثمن الذي أجبرها عليه مسممو الطبخة.