كتابة الرواية تشبه الوقوع في الحب! !
ترجمة: لطفية الدليمي
لا نعرف الكثير عن كاتبات أميركا اللاتينية باستثناء إيزابيل
الليندي لصالح الكتّاب الرجال وذوي العلاقات العامة والجوائز، و لويزا
فالنسويلا هي ابنة الكاتبة الأرجنتينية المعروفة (لويزا مرسيدس ليفنسون) ،
ولدت لويزا الابنة سنة 1938 في بوينس آيريس، وكان بيت الكاتبة الأم آنئذ
مقراً لـ (جماعة الأدب الأرجنتيني)التي ضمت إضافة إلى لويزا مرسيدس أسماء
بارزة مثل خورخي لويس بورخيس وارنستو ساباتو وخوليو كورتازار، فنشأت الابنة
في جو ثقافي بين كبار كتّاب بلدها، وتحولت منذ صباها إلى قارئة نهمة،
وبدأت الكتابة في أوائل عشريناتها فنشرت مجموعتها القصصية الأولى (إيسي
كانتو) أي (تلك الأغنية) سنة 1958، وتزوجت في العام ذاته من بحار فرنسي
وانتقلت للعيش في باريس و لتعمل مراسلة لجريدة (الموندو - العالم)
الأرجنتينية، وفي باريس أنجبت ابنتها (مارجيكا). .
عادت سنة 1961 إلى
بوينس آيريس، وانتقلت للعمل في صحيفة (لاناسيون – الأمة) لتقوم بجولات في
الأرجنتين وتكتب سلسلة مقالات عن أقاليم بلادها بعنوان (صور من أعماق
الأرجنتين) ، أنجزت روايتها الأولى (لك أن تبتسم) التي نشرت في 1966، وفي
السنة التالية ظهرت لها مجموعتها القصصية (المهرطقون) التي ترجمت إلى
الإنجليزية تحت عنوان (كلارا- رواية وثلاثون قصة) وفي السنة ذاتها حصلت على
منحة من مؤسسة (فولبرايت)للمشاركة في برنامج (كتّاب من العالم) في جامعة
إيوا. .
نشرت فصولا من روايتها (القطة –و- وميتاتها التسع) ثم أمضت عاما
في المكسيك وعاما آخر في برشلونة، وتعلّق فالنسويلا على ذلك :( أترحل في
كل الأنحاء لأنني غجرية حقيقية) في 1974 عادت إلى بوينس آيريس وهي سنة
وفاة(خوان بيرون) الذي أورث رئاسة الجمهورية لزوجته الثالثة إيزابيلا بيرون
. . نشرت فالنسويلا مجموعتها القصصية الثانية (شيء غريب حدث هنا) سنة
1975، وتدهور الوضع السياسي في الأرجنتين بعد الانقلاب العسكري سنة 1976
لتتفشى عمليات القمع الفكري وملاحقة المثقفين والكتّاب، نجت أعمال
فلانسويلا من غضبة العسكر لكن روايتها الثانية (كما في الحرب) حظرتها
الرقابة وغادرت إثر ذلك إلى نيويورك سنة 1978 لتمضي عشر سنوات فيها وتقوم
بالتدريس في جامعة كولومبيا وجامعة نيويورك وعادت لتستقر نهائيا في
الأرجنتين سنة 1989..
* متى بدأت الكتابة؟
- نشرت أول قصة لي وأنا في
العشرين من عمري، وكانت تدور حول فكرة الموت ، فالموت – واحسرتاه - وليس
الحب - هو اللغز النهائي، ومن هذا المنطلق يبدو الموت أشد إغراء ليكون
موضوعا للقصص، ولطالما كنا نحاول الإمساك بالكلمة الأخيرة التي تتحكم
بنهاياتنا. .
* كانت والدتك (لويزا مرسيدس ليفنسون) روائية أرجنتينية مرموقة ، ماذا يعني لك أن تنشأي وأنت محاطة بشخصيات أدبية مشهورة ؟
-
في وقت ما كانت والدتي وخورخي لويس بورخس يشتركان في كتابة قصة وكنت أسمع
الضحكات تتناهى إلي من الغرفة التي يعملان فيها، كان اسم القصة (شقيقة
إلويزا) ونشرت سنة 1955 لكن أيا منهما لم يحب القصة بعد نشرها ولم يعيدا
نشرها في أي من كتبهما، وقالت أمي إن هذه التجربة علمتها كيف تقوم بعملية
تحرير النص، كان بورخيس يخرج من غرفة الطعام حيث كانا يكتبان ويضحكان ويقول
: اليوم حققنا تقدما خطيرا فقد كتبنا سطرا كاملا! اليوم أشعر بامتنان لتلك
التجربة ،كانا سعيدين حقا بعملية الكتابة والنقاشات ويضحكان طوال الوقت
مما جعلني أعجب بفكرة أن الكتابة فعالية مبهجة وممتعة وهذا هو الجانب الأهم
فيها.
* كيف تصفين بورخيس؟
- كان يتبع نسقا فكريا معينا، وبوسعنا
معرفة الطريقة التي يعمل بها عقله ، كان يعرض الفكرة بكرم كبير وإن بطريقة
نرجسية متمركزة حول الذات، فهو لم يكن معنياً بالإصغاء للآخرين قط، ومع انه
كان شخصا مونولوجيا من طراز هزلي راق ،ويبدو مفرط الجدية والرصانة وهو شخص
باهر الذكاء والفطنة ويملك ذلك الجانب الماجن من الدعابة..
* كفتاة صغيرة، هل كنت تعرفين أو تبالين بعظمة بورخيس؟
-
ليس في حينه، فالأشخاص الذين كانوا يحيطون به – المجموعة التي كانت تزور
منزلنا في تلك السنوات – كانوا عظماء جميعا لم يكن بورخس مميزا عن أعضاء
المجموعة، كان مفرط الخجل، ما أذكره أكثر هي محاضراته -التي لم أتغيب عن
أية واحدة منها – كان يفاجئنا في بعض الأحيان ببرهة صمت طويلة ، يتوقف عن
الكلام، فيتململ الجمهور وفي ظنهم أنه فقد رأس الخيط الذي ينتظم محاضرته
،ولكنه كان يبحث عن مفردة ما ثم وخلال دقيقة ينطلق التعبير الدقيق من فمه
مثل جوهرة متأ..
* أكان حديثه عن الأدب؟
- أجل، كان ذلك في سنوات
الحكم البيروني ،وكان الجنرال بيرون يشعر بأنه مهدد من قبل المثقفين ،وجرى
نقل بورخيس من عمله المغمور في المكتبة إلى مفتش يفحص الدواجن في أسواق
البلدية !! وبما أن المثقفين كانوا بحاجة لكسب عيشهم – على العكس مما
يعتقده الناس العاديون – ظهرت منظمة تحت اسم (رعاة الفن) قامت بتنظيم
محاضرات ودورات في المنازل الخاصة مثل بيت والدتي ، وكان شعورنا مزيجا من
الزهو والخوف – فكل منا كان يشعر بأننا كالمتآمرين، وكنا نبقي النوافذ
مغلقة ونتكتم على تلك اللقاءات. .
* كيف تقارنين الحياة الثقافية المعاصرة في الأرجنتين الآن مع الحياة الثقافية في تلك الأعوام؟
-
كانت الحياة الثقافية أنئذٍ محتدمة عاطفية وجامحة، وكان الأدب بلا شك نشطا
وحيويا، يؤخذ على محمل الجد، سواء في الإعلام أو على الصعيد العام، أما
اليوم فنحن في سباق مع الزمن، بعد أن تفشت الفردانية والغرور بين الكتّاب،
فالإعلام اليوم يمنح اهتماما واسعا للسياسيين والنجوم الصغار والكوميديين
أكثر مما يمنحه للمثقفين. .
*عشت سنوات خارج الأرجنتين ، ماهو تصورك لفكرة الوطن؟
-
عشت أكثر من ثلاث سنوات في باريس وسنة في النورماندي ثم عدت إلى باريس،
وفعلياً عشت سنة في برشلونة وبعدها عشر سنوات رائعة في نيويورك ومنها
انتقلت إلى المكسيك، وفي الأقل كنت أعود مرة واحدة كل عام إلى بيتي في
بوينس آيريس مع مخاوفي، فلم افتقد أي شيء لا الناس ولا الأمكنة. .
يقول
بعض الكتّاب إن اللغة وطنهم الحقيقي، أنا مع هذه الفكرة بشكل مطلق، خلال
الحكم الديكتاتوري العسكري الأخير في الأرجنتين كان يقال إن الكتّاب الذين
غادروا البلاد سوف ينأون أو يتخلون بالتدريج عن جذورهم حتى ليصبحوا ذات يوم
كتّاباً غير أرجنتينيين، إنها طريقة لطمس أصوات المعارضين ومنتقدي النظام،
أما أنا فلا أحتاج قط لأمدّ جذوري في الأرض، فأنا أحمل جذوري معي مثل
الهوائي (الاريال) الذي نوصله للأرض فيلتقط الإذاعة. .وعلى أية حال فأنت
عندما تعودين لمدينة فارقتها- لاتعودين حقيقة إلى مدينتك نفسها لان بوينس
آيريس تغيرت كثيرا، حتى أنها لم تعد مدينتي، إنها مكان ملائم للصمت والتكتم
والكتابة وقد غدت اللغة الأم محسومة بالنسبة لي، و اكتشفت أمرا واحدا حين
عودتي إلى الوطن وهو محاولة أقلمة شخصيتي مع المستجدات وجعلها خلفية للضجيج
المتفاقم في بوينس آيريس، تركت نيويورك عندما بدأت أحلم باللغة الانكليزية
وأتحدث إلى نفسي بالانكليزية وأفكر بالانكليزية، اللغة الإسبانية وطني ولا
أعتزم فقدانها..
* كيف تأثرت هويتك ككاتبة بكونك تملكين بيوتا في كل من نيويورك والأرجنتين؟
-
أكتب دائما وأنا واقفة على هذا الجسر الممتد بين الأمكنة ، و أجد الانزياح
وعدم التمركز على منظور أحادي أمراً ضرورياً للكاتب، فغالباً ما أكتب عن
بوينس آيريس عندما أغادرها، وأعرف بالتأكيد أن روايتي (كلارا) انبثقت
وتشكلت لأنني كنت أفتقد بوينس آيرس على نحو كبير، فهذه الرواية هي بوينس
آيريس الأربعينيات فقد ألهمتني حياة القاع والعاهرات والقوادين والكرنفالات
منظورا جيدا للمدينة، وأجدني الآن سعيدة للكتابة عن نيويورك وأنا في بوينس
آيريس، إنها طريقة للكينونة في مكانين مختلفين في الوقت ذاته، فالوجود
المطلق في اللامكان غدا اليوم من بين أكبر أحلامي في الحياة.
*هل بوسعك القول إن الكتّاب الأرجنتينيين –كتاّب أميركا اللاتينية عامة – لديهم اتجاه مغاير في الكتابة عن نظرائهم الاميركيين؟
-
أوه، نعم فإنني أستاء جدا عندما ينعت مراجعو الكتب الأمريكان في صفحات
عروض الكتب - رواياتي بأنها سوريالية بينما أعتبرها شخصيا مفرطة في
واقعيتها ،ويعتقد كتاب أميركا اللاتينية أن الواقعية هي في اتساع منظورها،
كل ما في الأمر إننا اكتشفنا الجانب المعتم والخفي منها. . غير أن الفارق
الحقيقي يتأتى غالبا من أصول اللغة ومنشئها، فقواعد اللغة الإسبانية تختلف
عن قواعد الانكليزية، وهذا يعني إن لدينا مقاربة مختلفة ليس للعالم حسب بل
للكلمة أيضا ،في الوقت الذي تكون هناك ثوابت فثمة الكثير من الانغمار
الجريء في المجهول، تباين بناء العبارة يخلق فارقا بين اللغتين فقد عمد
جويس الى تفجير اللغة ليظهر جانبها السحري الماورائي، إما كورتازار فقد لعب
حول الكلمات الإسبانية وقواعدها للغاية ذاتها، لغتنا أكثر مرونة في النحو
أما الانكليزية فهي لغة تسمّي الأشياء والأفعال بمحاكاة أصواتها بدقة
فاتنة، ومن جهة أخرى فالإسبانية أكثر باروكية وزخرفة وتتسع للغموض
والاستعارة، وتتيح لنا تركيبة الجملة مجالا لتخمينات القارىء ، أهي شخصية
الراوي أم الشخصية ذاتها ؟!
* ما رأيك بفكرة لغة النساء؟
- أقولها
بشكل صريح: أنا أقاتل من أجل هذه الفكرة، وأعتقد أن هناك شحنة مختلفة في
الكلمات النسوية - فقد جاءت المرأة من منطقة لغوية وعرة، وهي تعرف الكثير
عن الازدواجية والغموض وهو ما أراه أمرا جيدا، ففي الأرجنتين يرفضون كتابات
النساء السياسية الحاذقة لأنهم يتوقعون من المرأة الكاتبة أن تقدم السلوى
والمتعة في نصوصها ولا تشوّش القراء وتربكهم بأفكارها.
* هل تعتبرين نفسك (نسوية) من الفيمنست؟
-
أظنني شخصا ولد ليكون(نسوياً) لكني لاأحبذ التمذهب (ايزم) فيمنزم أو
ماشابهه ، ولاأريد أن أكون ملتزمة إزاء أي شيء، أنا أكره التسميات، لكني
كنت -منذ يفاعتي وأنا بنت صغيرة- أقاتل بطريقتي الخاصة كامرأة، لقد شهدت
الظلم والاضطهاد منذ سن مبكرة وكنت ضحية هذه الحرب، وأتحمل مسؤولية جراحي
بفخر، مع ذلك أتجنب التلويح بالشعارات والرايات.
* بدأت حياتك كصحفية، هل تعتقدين أن الصحافة أسهمت في تكوينك الروائي؟
-
ليس بالضرورة فكلا العالمين كانا يسيران بشكل متواز ٍبالنسبة لي لكنهما لن
يلتقيا يوما، علمتني الصحافة أن أكون دقيقة ومهتمة بالتفاصيل، وأن أوجز
وأختصر ،وأكون يقظة ومتنبهة لاستخداماتي اللغوية و عندما عملت في جريدة (لا
ناسيون) كان رئيسي أمبروسيو فيشينو رجلا مهتما بالأدب ومعلما حقيقيا وكان
صديقا حميما لكورتازار خلال دراستهما الجامعية، سوى أن الصحافة تتطلب نظرة
أفقية وهي بلا ريب عملية واقعية تماما.أما الرواية فإنها تتطلب نظرة عمودية
والخوض عميقا في ما وراء الواقع وفي منطقة اللاوعي وملكوت الخيال، وهاتان
طريقتان مختلفتان جدا لرؤية العالم.
الرواية بالنسبة لي في الأقل –
الطريقة الفضلى لقول الأشياء و يكون ذهني أشد صفاء ووضوحا عندما أتيح
لمخيلتي أن تقودني فلا أفقد مقاليد الأمور وأعتقد أن ذلك سيحدث إذا كنت
محظوظا فسوف تتوغل في اللاوعي خلال العمل الروائي – في حالتي تنبثق تفاصيل
الفكرة بأسلوب منظم، الرواية تعني لي (كتابة مالا تعرفه عما تعرفه) وهذا
اقتباس من غريس بالي.
* كيف تسير عملية الكتابة لديك –هل تعرفين على سبيل المثال عندما تشرعين في كتابة رواية أنها تتعارض مع القصة القصيرة؟
-
نعم، بلا ريب، باستثناء روايتي الأولى (كلارا) فآنذاك ،لم أفكرقط بأنني
أستطيع كتابة رواية، وعلى نحو غير متوقع، تفرعت ونمت فكرة قصة قصيرة كانت
بين يدي ،الفصل بين القصة القصيرة والرواية أمر واضح فأنت تقيم في ملكوت
مختلف عندما تكتب الرواية، إنه شيء يشبه الوقوع في الحب كذلك تكون (واقعا
في الرواية)، أحيانا تكون الحاجة إلى الرواية أمرا ضاغطا لايحتمل وفي هذه
الفترات لا أحب أن اكتب قصصا قصيرة و ينبغي لي أن أمسك بشرارة أو فكرة
القصة ،ثم أحتاج إلى قوة الإرادة الحاسمة لأشرع في سحب رأس الخيط، وأكون في
حالة من التوتر الصارم والتأني الدقيق وكأني أكتشف مايكمن وراء النظرة
الخاطفة، كان كورتازار يقول إنه عندما يمر بهذه اللحظات يهرع الى الآلة
الكاتبة ويسحب القصة خارج نفسه كمن يسحب مخلوقا زاحفا من أعماقه، وأشعر
أحيانا بالأمر ذاته.
* هل لديك برنامج محدد أو جدول للكتابة؟
- كل
عمل يجد الوقت الملائم له، لسنوات عديدة كنت أكتب في الليل، ثم بدأت أخاف
من الكتابة ليلا وفي حسباني ظهور الأشباح التي تستدعيها وأنت تكتب، عموما
عندما بدأت أتعامل مع موضوع التعذيب والألم والقضايا السياسية الكئيبة، عدت
إلى الكتابة ليلا منذ عهد قريب، فاستعدت اكتشاف متعة الصمت الشامل، غير
إني أبقى مستمتعة بالقفز من السرير نحو الكومبيوتر من الحلم إلى الكلمة
دونما تخلٍ عن عاداتي.
* كيف يبدأ الكتاب لديك؟
- على سبيل المثال
عندما كتبت روايتي (إل غاتو إيفيكاز) ما أن شرعت بالكتابة حتى انهمرت
الرواية من أعماقي، كانت تجربة كثيفة كنت أقيم في السكن الجامعي لبرنامج
الكتابة العالمي في جامعة آيوا وبعد شهرين بدأ هذا النص الغريب في التكوّن
بلغته الاستثنائية، اللعينة والمسعورة ، كانت الكلمات التي سردت بها هذه
القصة غير مألوفة لي إذ كتبتها لحظة انهمارها عليّ ،كنت أكتب وأنا في
المصاعد والشوارع ،كتب في أي مكان، في دفاتر ملاحظات صغيرة أو على قصاصات
أوراق في محاولة للقبض على كل عبارة. .
* كيف تتعاملين مع السياسة في أعمالك؟
-
عندما كنت يافعة وكانت تدور في بيتنا تلك النقاشات والحوارات الأدبية كانت
فكرة السياسة في الكتابة شيئا بغيضا، وحده أرنستو ساباتو كان يصر على انه
بوسعك التعامل مع السياسة في الرواية وبالمقابل كانت الكلمة تبدو بالنسبة
لبورخيس والمحيطين به محض قذارة فهم يؤمنون بهدف واحد : الفن للفن وكان
عليّ حينئذ أن لا أضع السياسة حيث يكون عقلي ووجداني و حيث تكون كتابتي.
الآن أدرك الأمر على نحو مختلف، مع أن الطريقة الوحيدة للتعامل مع السياسة
في الأدب هي في تجنب الخطابية مهما كلف الأمر، دون أن يدعي الكاتب الصلاح
أو يصدر الأحكام على الآخرين. .تعلمت هذا الأمر على نحو تصادفي وعفوي حين
كتبت كتابي (أشياء غريبة حدثت هنا). سنة 1975 عدت من رحلات استغرقت عامين
فواجهت مقدار العنف في بوينس آيريس الذي لم أعهده فيها من قبل، فقررت أن
أفضل وسيلة لاستيعاب الأمور - أو في الأقل الشعور بالا نتماء – هي الكتابة،
وقررت كتابة قصة كل يوم، وصرت أقصد المقاهي المحلية حيث يتجلى الإحساس
بجنون العظمة على نحو صريح لدى الناس وكل عبارة منهم أنجح في التقاطها
ستمنح القصة إثارة وتراجيدية ، وغالباً كانت العبارات التي اًسمعها مصادفة
لاتمثّل أو تعني مايقصده أولئك الناس في الحقيقة.
* أتعنين أنك كنت لاتسمعينهم جيداً أم أن كلامهم كان مشفراً بطريقة ما؟
-
كلا الأمرين ، فالفكرة الأساسية هنا هي العمل حول مالايقال هناك حتى الآن ،
لكنه ينبض في المكان، القبض على مايكمن تحت جنون العظمة (البارانويا) عادة
قد لا أسمع العبارات ، لكن في الحقيقة إن كل شيء كان سياسيا قلّ أو كثُر
وكان يقال بشكل موجز أو في سياق ملغز ومرمز ،ومهما يكن من أمر فما كان مهما
لي هو الكلمات العشوائية التي تثير مخيلتي ،الفكاهة السوداء، التنافر،
السخط اللغوي، وتدبرت وصف رعب الإحساس بالظلم والاضطهاد، والتنكيل والتعذيب
،واندمجت فعلياً في بيئتي الواقعية حيث نعيش جميعا، كتبت ثلاثين قصة
قصيرة، في شهر واحد، وخلال سير العمل تعلمت كيف أكتب السياسة دون توظيف
رسالة ما. .
* ما رأيك بما يدّعيه الشاعر (جوزيف برودسكي) بأن الشعر الجيد لايمكن أن يكتب إلا في ظروف الكبت والقمع السياسي؟
-
كنت قد تشاجرت مع برودسكي حول هذا الادعاء، فقال برودسكي ،بصوته العميق
(إن الرقابة سيئة للكاتب ومفيدة للأدب)، وهذا ما أغضبني ، كان الأمرحقيقيا
بالنسبة للاتحاد السوفييتي السابق، حيث كانت الرقابة تنظم الأمور، وليس في
بلدان مثل الأرجنتين حيث الرقابة عشوائية، ولانعرف ماالذي يرضي ضابطا دون
آخر ،وإذا حدث وأزعج نص ما احدهم فإنه سيعمد إلى قتل والديك وأطفالك، وحتى
أصدقائك، وعلي أن أكون مستعدة لأقامر من أجل أفكاري، وليس من أجل أي أحد،
وقال برودسكي: إن الكاتب الذي يعجز عن وضع حيوات الآخرين في المخاطرة ليس
بكاتب يستحق اسمه، ولذا فان الرقابة ستدفعك لابتكار الاستعارات الدقيقة
وأعتقد أن الكاتب الذي لايستطيع إيجاد الاستعارات الصحيحة غير جدير باسمه،
إن كان تحت نظام ديكتاتوري أو نظام ديموقراطي على حد سواء.
* هل جربت المنفى قط ؟
-
مرة واحدة وعلى مدى شهر ونصف الشهر لم يكن زمنا طويلا، الآن أظنه شيئا
لايحتمل، في 1979 ذهبت إلى نيو يورك، لإطلاق حملة دعاية لكتابي المكتوب
بالانجليزية (أشياء غريبة حدثت هنا) وبعد يومين من مغادرتي بوينس آيريس،
داهم البوليس شقتي وكانت ابنتي وحدها مع صديقها هناك كانا في عشرينياتهما،
وفتش البوليس كل شيء، كانوا يبحثون عني، كنت أناضل من اجل حقوق الإنسان
والأشخاص المختفين المعرضين للخطر وتلقيت إشارة من أصدقائي أن أبقى خارج
البلاد، ولحسن الحظ كان البوليس من أتى يبحث عني وليس السلطات العسكرية،
كانوا يهددون لكنهم لم يحتجزوا الشابين ولم يؤذوهما،ونصحوني أن أبقى بعيدة
عن البلاد، وأمضيت الليل بطولهِ ألعب بمكعب (روبيك) وأحاول دون جدوى أن أحل
اللغز، وكأنني أعتزم إعادة حياتي إلى مكانها، وفي النهاية تمكنت من العودة
إلى بوينس آيريس، فقط من أجل أن أغادرها ثانية ولكن هذه المرة بقرار شخصي
فأصبحت مغتربة لا منفية. .
* ظهر لديك مشهد مماثل في روايتك (النسخة الرابعة) عندما تغادر البطلة (بيلا) بلادها لتقدم عرضها المونودرامي.
-
أجل، كنت أسرق من حياتي في بعض الأحيان ،وفي هذا المشهد، تتلقى (بيلا)
مكالمة هاتفية بما معناه أن ثمة أحدا يلاحقها للنيل منها وعليها أن لاتعود
لبلدها، وثقل عليها الاعتراف بالعجز فقررت العودة إلى بوينس آيريس حيث
العنف ، وأخيرا سلمت بأهمية عملها وقررت العودة إلى قسوة بوينس آيريس
لتقاتل بأسلحتها الخاصة فلا تسمح للخوف أن يشل قواها كما فعل بسواها. .
*
قد يكون العكس فتتخطى الشخصيات الروائية الحدود وتنتهك الواقع، فروايتك
(بيد سايد مانر) على سبيل المثال تنبأت عن غير قصد بتمرد عسكري حقيقي.
- كانت تلك مصادفة مروّعة فقد حدثت انتفاضة الجيش بعد يوم من إطلاق الكتاب، فادعى أصدقائي بأنني تعمدت إصدار الكتاب للترويج له حينه.
* هل فكرت بكتابة مذكراتك؟
-
إلى حد ما ،ليس مذكراتي الأدبية، لكني كنت أكتب يومياتي في السنوات العشر
الأخيرة، وكنت دائما أتخيل أنني سأكتب تفاصيل رحلاتي غير أن السفر كان
يستنفد قواي فلا أكتب، وأخشى أيضا أن تكون كتابة اليوميات طريقة لتفادي
كتابة الرواية، ولذا عندما أكون مستغرقة في كتابة الرواية أو أجزاء من قصص
أمتنع عن تدوين اليوميات / وأعتقد أن حياتي حياة أدبية تميزها الجرأة
والكشوف على نحو ما، وأحب تدوينها فيما إذا نجحت في اجتياز عتبة السرد
المباشر الذي يضجرني إلى ابعد الحدود بخاصة وإنا اعرف الخاتمة، حيث لا
تتبقى أية دهشة أو مفاجأة ،فالإصرار على الحقائق مثير للاهتمام لكنه لايتيح
لي استخدام المجاز أو الاستعارة، لاستنتاج ما يكمن في الأعماق. رواية
(الرحلة) التي أنجزتها ، كانت في البدء نوعا من سيرة ذاتية ملفقة لاتنسب
إليّ، وبعد فصلين قمت بتحويل الموضوع من خطاب للشخص الأول إلى خطاب الشخص
الثالث – بطل الرواية وبدا الأمر في غاية المكر إذا تعاملنا بأمانة مع
ذواتنا، وبعدها تخليت عن ادعاء كتابة سيرة ذاتية.