إذا كانت المعرفة لا تظهر إلا في حقل التعبير بالحركة أو بالصوت، فلا بدّ
من الإشارة إلى رؤية جان جاك روسو لأصل اللغات،(1) وهي أقرب إلى حدس
عبقريّ، إذ رأى أنّ التعبير بالحركة كان متعلّقاً بالحاجات والمطالب
المادية(2)، بما فيها الحاجة الجنسية، في مستواها الطبيعيّ، أمّا التعبير
بالصوت فكان متعلّقاً بالأهواء والعواطف والمشاعر والأحاسيس والرغبات،
ولذلك كان المجاز أسبق من الحقيقة. والمجاز هنا ليس مجرّد تحويل الكلمة عن
معناها الحقيقي إلى معنى آخر، بل تعبير أوّليّ وأصيل عن إمكانية الخلق
والإبداع، أي عن اللاعقل. أجل، المجاز أسبق من الحقيقة لأنه أدنى إلى
الحرية التي تسبق المعرفة والتي هي شرط المعرفة. فإنّ أولوية الإحساس على
التفكير وأولية المجاز على الحقيقة تعينان مدخلاً لفهم علاقة المعرفة
بالحرية. (وتجب الإشارة أيضاً إلى أنّ الكتابة هي العامل الرئيس في توحيد
اللهجات، التي لا تستمرّ لغةً إلا لدى من لا يعرفون القراءة والكتابة، أو
رطانةً لدى من يقرؤون قليلاً ولا يكتبون، وإلى ذلك فإنّ النغم في الكلام
الذي يوافق تدفّق العاطفة (تغيّر طبقات الصوت) أسبق من النبر الذي يجري على
طبقة واحدة شدّة وليناً ليوافق الحقيقة، والتنغيم إرهاص بإمكانية تخلّي
الأصوات عن الكلمات ودلالاتها المباشرة، ونشوء الموسيقا بعد الغناء، وهذا
ما يؤكّده اليوم عمل الملّحن، ناهيك عن مؤلّف الموسيقى) على هذا النحو يجب
التفكير في النصوص القديمة، ولا سيما المقدّسة منها، فالمجاز والتصوير
والتخييل والقص والحكاية كلّها آثار ممّا قبل العقل وما قبل الحقيقة.
المجاز ميدان الحرية، والشكل الذي يتّخذه المجاز شكل مرن أو مفتوح غير
مقيّد بروابط وحدود منطقية وعقلية، ومن هنا تتأتّى قابليته للتأويل، هنا
ينبغي الاعتراض على التأويلية بالقول إنّ التأويل لا يؤتي ثماره إلا في
النصوص الإبداعية والتاريخية والميتافيزيقية، بالمعنى الشائع للكلمة،
والنصوص التي نقلت مشافهة قبل أن تكتب والتي ترنّم بها المنشدون وتزيَّد
فيها الرواة. (يقول روسو: "إن عبقرية اللغات الشرقية، وهي أقدم اللغات
المعروفة، تكذّب تكذيباً مطلقاً ما نتخيّله عن تكوّنها كتدرّج في التعلم،
فليست هذه اللغات من المنهج والمعقول في شيء، إنّها لغات شعراء لا لغات
مهندسين" أو علماء) وأساطير سائر الأمم والشعوب تؤكّد ذلك.
"فلمّا كانت الأسباب الأولى التي دفعت الإنسان إلى التكلّم هي العواطف،
فإنّ تعابيرها الأولى كانت استعارات. لقد كانت اللغة المجازية هي أوّل ما
تولد أما الدلالة الحقيقة فكانت آخر ما اهتدي إليه، فإنّ الأشياء لم تسمّ
باسمائها الحقيقية إلا بعد أن تمّت رؤيتها في شكلها الحقيقي، ففي البداية
لم يتكلّم الناس إلا شعراً، ولم يفكّروا إلا بعد زمن طويل" (3). جميع
اللغات التي بدأت على هذا النحو ثمّ نمت وتطوّرت كانت تتضاءل قوّتها
الإبداعية ليزداد وضوحها واتساقها المنطقي، بقدر ما كان يتحسّن نحوها
وصرفها وتخضع لحدود المنطق وقيوده. يقول روسو: "يكفي لكي نجعل لغة ما باردة
ورتيبة أن نقيم أكاديمية للشعب الذي يتكلّمها.
ولكنّ الإنسان إذ طوّر اللغة على هذا النحو المدهش لم يهمل الحركة، بل
ارتقى بها إلى مستوى اللغة، فباتت ملامح الوجه ابتساماً أو عبوساً ودرجة
بريق العينين وحركات سائر الجسد رديفة للّغة تكملها وتغنيها وتزيدها
وضوحاً، وتكشف عمّا تسكت اللغة عنه. وصار الرقص لغة قائمة بذاتها هي لغة
الجسد بصفته كثيف الروح. الرقص لغة الجسد وقد تجرّدت من ثقالة الحاجات
الطبيعية الخالصة، مثلما تجرّد الصوت من اللغة ودلالاتها المباشرة في
الموسيقى، فلا عجب أن تدفعنا الموسيقى إلى الرقص وأن يستدعي الرقص
الموسيقى، فيتكامل الصوت والحركة وينتقل كل منهما إلى الآخر، فتغدو
الموسيقى رقصاً والرقص موسيقى، ويشفان معاً عن شعر لم يقل بعد وأساطير لم
تنسج بعد. الرقص موسيقى الجسد تصدح في معبد ديونيس.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن العواطف الإنسانية تنمو وترتقي طرداً بنمو
المعرفة والاستنارة العقلية، فإن هوى الموضوعوية والعلموية الذي أصاب بعضنا
كان ولا يزال عاملاً من عوامل فتور قوة الإبداع والخلق والتجديد، ولم يخطر
في بال أحدنا أن الفارق بين الفنان والعالم أو الفيلسوف يكاد لا يرى.
العلماء والفلاسفة فنّانون مبدعون، ومجانين في معظم الأحيان إن لم يكن في
جميعها. (نتحدّث عن الجنون بمعنى مختلف تماماً عن معناه الدارج لدى العوام،
أي بأنه تعبير عن اللاعقل، أو التفكير الحرّ الذي يهزأ بالثابت والمألوف
والمتعارف عليه، ممّا يسمى الرأي العام والعقل السليم. الفنان والعالم
والفيلسوف لا ينتمون إلى منظومة العقل السليم، أي ما يحكم عليه العامة
والعوام منهم خاصة بأنه سليم فالإيمان بالخوارق عند هؤلاء عقل سليم)
إن من أبرز أسباب الهمجية التي لا تزال آثارها ظاهرة هنا وهناك هو فقر
المعرفة وضيق الأفق وكراهية الاختلاف، فمن لا يرى إلا ما يحيط به مباشرة
ولا يهتم إلا به يجهل ما عدا ذلك ويكرهه، والإنسان عدوّ ما يجهل ومن يجهل،
فليس في ذهن الهمجي سوى صورة القريب (الأب والأم والأخ والأخت ..، لا صورة
الإنسان، فالغريب والدابة والغول عنده سواء، وليس الكون بأسره عنده سوى هو
وعائلته أو عشيرته أو طائفته. هذا أصل ما نلاحظه من مفارقات وتناقضات بين
الفطرة والتوحش، بين شراسة العادات ورقّة القلوب، وبين محبّة ذوي القربى
وكره النوع والجنس. إنّ مشاعر العداوة للعالم الذي يتعدّى المحيط الخاص
الضيق، الذي لا يراه الهمج ولا يعرفونه سببها عدم المعرفة وعدم الرؤية،
سببها الجهل، والجهل والتعصب صنوان.
ليست الغبطة أو الفرح أو السعادة أو اللذة جزاء الفضيلة "بل هي الفضيلة
نفسها"، فإن "انفعالات الفرح والحزن ترتبط بدرجة تأثّرنا بالعالم وتأثيرنا
فيه، ولكنّ أوجه انفعالاتنا تفوق في معظم الأحيان أوجه الفعل، كما أننا
ننسب إلى إرادتنا ما ينتسب في الواقع إلى سلسلة لا محدودة من السلاسل
اللامحدودة الأخرى التي تكون معاً الوجه الكلّي للكون"(4). فالمسألة لا
تتعلق ببداهة المعرفة (أنا أفكر إذاً أنا موجود) حسب ديكارت أو بأولويتها،
حسب فوكو، بل ببداهة الحياة، وهي عندي بداهة الحرية وأوليتها وبداهة
العواطف الإنسانية وأوليتها، أو بداهة اللاعقل وأوليته (أنا حر فأنا أفكر).
الانفعال ذو طابع مزدوج يتجلى ازدواجه في قبول السلطة والخضوع لها، فثمة
قبول ناجم عن الاختيار أو الحرية، وخضوع هو مظهر من مظاهر العبودية،
والعبودية في الحبّ بهيّة كالحرية، بتعبير طاغور شاعر الهند العظيم، وهذا
ما ذهبنا إليه لدى الإشارة إلى العبوديات المختارة، وقد أخذنا العبارة من
عنوان مقالة للدكتورة رجاء بن سلامة نشرت على موقع الأوان. والفعل كذلك ذو
طابع مزدوج، فهو ذاتي من حيث منشؤه ومصدره، وتبطنه الرغبة والهمّ أو
الاهتمام، وموضوعيّ من حيث مجراه وهدفه ومآله، بحسب ما - أو من- يتّجه نحوه
ويقع عليه. وفي كلا الحالين تلاحظ أولية الرغبة، الرغبة في الخضوع والرغبة
في السيطرة، وفي الحالين أيضاً تصادفنا أولية المجاز وقابلية التأويل.
والتأويل فعل حرية أساسه المجاز أو ما في حكمه من تطوّر الدلالة، أما
"الحقيقة أو التنزيل فسلطة غالباً ما تكون متعسفة ومستبدة. لولا العواطف
والأهواء ما كان مجاز، ولولا المجاز ما كان تأويل وما كانت الحاجة إلى
التأويل. الحقيقة باردة وجافة، والقلب هو ما يدفئ الدماغ أو الرأس ويرويه،
إذا اعتبرنا الدماغ أو الرأس معادلاً للعقل، وهو ليس كذلك إلا مجازاً.
المجاز مبنيّ شكلاً وغير مبنيّ مضموناً، إذ من طبيعة العواطف والمشاعر
والأهواء أنها غير مبنيّة وغير قابلة للبناء إلا في صيغ مجازية لا عقلية،
ومن هنا تنبع قابليتها للتأويل وعدم قابليتها للقياس، ويحسن أن نشير هنا
إلى العاطفة الدينية، بوصفها شكلاً من أشكال العواطف البشرية ودرجة من
درجاتها، ومن ثمّ فإنّ الدين عاطفة لاعقلية يعقلنها التفسير والفقه وعلم
الكلام وسائر ما يسمى علوم الدين أو علوم المعاد، وليست جميعاً من العلم في
شيء. بل هي محاولات هشة لتعقيل العواطف والأهواء البشرية وعقلنتها، ناهيك
عن كونها بطانة السلطة وظهير الاستبداد. وقد كانت السلطة ولا تزال هي
الدافع الرئيس لعقلنة هذه العاطفة، بل لتعقيلها.