من حقنا أن نقحم كبار الفلاسفة ضمن تاريخ الايديولوجيات، لكن، ليس من حقنا ألا نرى في كل فلسفة الا ايديولوجيا.
يفترض ذلك، بطبيعة الحال، تمييزا دقيقا بين التاريخين. فلكلّ منهما
أهداف يرمي اليها، وطريقة ينهجها، ومفاهيم يوظّفها. فاذا كان همّ التاريخ
الايديولوجيّ هو خلق الوحدات وتوليد التطابق وإقامة عائلات فكرية ورسم
تيارات ونظرات الى العالم، فإنّ سعي تاريخ الفلسفة هو توليد الفروق،
والوقوف عند النقاط التي قد تفجّر كلية متراصة ليكشف أنها فضائح تخرق
القانون وتشذّ عن القواعد.
أثر عن أحدهم قوله بأن ليس هناك كوجيطو ايديولوجي. فالنقد الايديولوجي
هو دوما نقد يوجّه أصابع الاتهام، لا الى الذات، وانما الى الآخر. ليس هناك
"أنا" ايديولوجي، الايديولوجي دوما هو "أنت". النقد الايديولوجي نقد
يتّهم، وهو دوما نقد مضادّ يصفّي حسابه مع مواقف أخرى.
أما النقد الفلسفي فهو لا يكون كذلك الا اذا كان يصدر عن "مواقف" لا تقف في موقع بعينه، مواقف منخورة من الداخل، مواقف لا داخل لها.
مؤرّخ الايديولوجيات يبحث عن قرابات، وينشغل بالتأثّرات والتأثيرات،
ويغرس شجرات أنساب، فيقيم عائلات شاعرا أنه ينتمي هو بدوره الى أسرة
"عريقة"، أمّا مؤرخ الفلسفة فهو كائن ريزوميّ يتسلّل بين الفجوات، ويسعى
جهده أن يرعى يتمه وفرادته.
لا يعني هذا بطبيعة الحال أنّ تاريخ الفلسفة أكثر أهمية من تاريخ
الايديولوجيات، كما لا يعني أنّ التاريخين يقومان في انفصال عن بعضهما.
فالفكر لا يكون فلسفة إلا بمقدار ما يقوم ضدّ تاريخ الحقيقة الذى تسعى
الايديولوجية أن تبنيه وتدافع عنه.
فاذا كانت استراتيجية الفلسفة استراتيجية تفكيكية مقوّضة، فما ذلك الا
مقابل الايديولوجية البنّاءة الموحّدة. فلا تقويض من غير بناء، ولا تفكيك
من غير التحام، ولا تعدّد من غير وحدة، ولا فروق من غير هويات.
الجمعة أكتوبر 19, 2012 12:52 pm من طرف نابغة