** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
الرئيسيةالرئيسية  الأحداثالأحداث  المنشوراتالمنشورات  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوع
 

 مصطفى عبد الرازق وتاريخ الفلسفة الإسلامية

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
سوسية
" ثـــــــــــــــــــــــــائــــــــــر "
مصطفى عبد الرازق وتاريخ الفلسفة الإسلامية Biere2
avatar


عدد الرسائل : 315

الموقع : ساحة الحرية
تعاليق : احب الحياة لانها حرة ومستعدة ان استشهد من اجلها لانها الحرية
تاريخ التسجيل : 05/12/2010
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 6

مصطفى عبد الرازق وتاريخ الفلسفة الإسلامية Empty
16072012
مُساهمةمصطفى عبد الرازق وتاريخ الفلسفة الإسلامية

زكي الميلاد

ـ 1 ـ
عبد الرازق والمكانة الفلسفية
مثَّل
الشيخ مصطفى عبد الرازق تجربة مهمة في تاريخ تطور الفكر الإسلامي الفلسفي
خلال النصف الأول من القرن العشرين، وهي التجربة التي توقَّف عندها، ورجع
إليها معظم الدارسين والباحثين الذين حاولوا دراسة تاريخ تطور الفلسفة
والفكر الفلسفي والدرس الفلسفي في مصر والعالم العربي.
واكتسبت هذه
التجربة أهمية بحيث لا يمكن تخطيها وتجاوزها، أو إهمالها وعدم الالتفات
إليها، وذلك لشدة تأثيرها، وقوة حضورها، وتمكُّنها من البقاء والامتداد،
وظلت موضع ثناء وتقدير الكثيرين من الباحثين والمؤرخين والمشتغلين
بالدراسات الفلسفية، من الذين عاصروا صاحب هذه التجربة، ومن الذين جاؤوا
بعده، وحتى من الموجودين اليوم.
وعند النظر في هذه التجربة يمكن الكشف
عن ثلاثة عوامل متعاضدة، هي التي عززت القيمة الفكرية والفلسفية لتجربة
الشيخ عبد الرازق، وهذه العوامل هي:
أولاً: يعد الشيخ عبد الرازق أول
أستاذ مصري يُكلَّف بتدريس مادة الفلسفة الإسلامية في التعليم الجامعي
المصري، وهذا الأمر له قيمته الرمزية، ويحمل العديد من المعاني والدلالات،
ويمثل لحظة تاريخية لا تُمحى من ذاكرة المصريين، وتعني لهم الشيء الكثير،
ومنها يؤرخ إلى الدرس الفلسفي الإسلامي الأكاديمي في مصر.
ويذكر في هذا
الشأن أن الدكتور طه حسين الذي كان الأستاذ المصري الوحيد من بين أعضاء
هيئة التدريس في كلية الآداب آنذاك، أبى إلَّا أن يُدرس الفلسفة الإسلامية
أستاذ مصري، فكان الشيخ عبد الرازق الذي عُيِّن أستاذاً مساعداً سنة 1927م
في كلية الآداب جامعة فؤاد الأول، جامعة القاهرة حاليًّا، فدرس الفلسفة
الإسلامية إلى جانب اثنين من أساتذة جامعة السربون الفرنسية، هما إميل
برييه أستاذ الفلسفة اليونانية، وأندريه لالاند أستاذ الفلسفة الحديثة.
ومن
كلية الآداب كانت الانطلاقة الحقيقية للشيخ عبد الرازق في أن يُعرِّف عن
نفسه، وعن معارفه ومواهبه الفكرية، وهي الفرصة التي يبدو أنه كان ينتظرها
ويترقبها بعد عودته من فرنسا، فلم يهنأ قلبه حسب قول حسين أحمد أمين، ولا
وجد ميدانه الحقيقي إلا حين اختير أستاذاً في كلية الآداب .
ولو لم
ينخرط الشيخ عبد الرازق في سلك التعليم الجامعي، وفي تدريس الفلسفة
الإسلامية تحديداً، وفي ذلك التاريخ بالذات، لما عرف بالصورة التي أصبح
عليها فيما بعد، والمنزلة التي وصل إليها، وبالتأثير والامتداد الذي تركه.
وهذا
ما يتأكد إذا عرفنا أن من بين جميع المناصب التي تبوَّأها ووصل إليها
الشيخ عبد الرزاق، ومنها مناصب عليا مثل توليه وزارة الأوقاف سنة 1938م،
وهو أول شيخ أزهري يتولى وزارة، وظل يُعاد تعيينه في هذه الوزارة عدة مرات
إلى سنة 1944م، وتولى منصب شيخ الأزهر سنة 1945م واستمر فيه إلى وفاته سنة
1947م، من بين هذه المناصب وغيرها يُعد التعليم الجامعي هو المنصب الذي
عرَّف به، وأكسبه هذه المنزلة الفكرية الفائقة، وجعله أحد الرواد الكبار
في مجال الفلسفة والدرس الفلسفي في مصر، وعلى مستوى الفكر الإسلامي الحديث.
ومثلت
فترة التدريس في كلية الآداب للشيخ عبد الرزاق أطول فترة أمضاها من بين
المناصب التي شغلها، حيث امتدت إلى سنة 1944م، رقي خلالها إلى أستاذ كرسي
في أكتوبر 1935م.
ثانياً: التأثير العميق الذي تركه الشيخ عبد الرازق
في مجموعة متميزة من طلبته، الذين أصبحوا فيما بعد من صفوة أساتذة الفلسفة
والفلسفة الإسلامية في الجامعات المصرية وبعض الجامعات العربية، وعُدُّوا
من أبرز المشتغلين بالدراسات الفلسفية تصنيفاً وتحقيقاً وترجمة ونشراً، في
مختلف ميادين الفلسفة والفلسفة الإسلامية.
وهذه الملاحظة من أكثر
الملاحظات التي استوقفت انتباه الدارسين لسيرة الشيخ عبد الرازق وتجربته،
وذلك لشدة وضوحها وظهورها، وتواتر الحديث عنها من القريبين والبعيدين
أساتذة وتلامذة.
وليس هناك من اقترب أو تطرق لسيرة الشيخ عبد الرازق،
وتجربته الفكرية، ولم يلتفت إلى هذه الملاحظة بصورة من الصور، وبغض النظر
عن كيفية فهمها وتفسيرها وتحليلها، وذلك لأنها واحدة من أكثر نجاحات الشيخ
عبد الرازق التي عُرِف وتفوق بها على كثير من زملائه وأقرانه ورجالات جيله.
ولهذا
يعد الشيخ عبد الرازق أحد أكثر الأساتذة نجاحاً وتفوقاً في مجال التعليم
الجامعي، وهذه الملاحظة تلفت النظر إلى طريقته في التعليم، وإلى أسلوبه في
التعامل مع طلبته وتلامذته الذين جعلهم يتعلقون به حتى بعد أن أصبحوا
أساتذة وأساتذة كبار، ويتذكرون فضله عليهم، وفاءً ومعروفاً له.
وحين
يشرح الكاتب المصري حسين أحمد أمين طريقة الشيخ عبد الرازق في التعليم
يقول: «كان لهذا الشيخ الأزهري المعمم أسلوب خاص في التعليم الجامعي، لا
يكاد ينهجه غيره من الأساتذة في مصر، فالتعليم عنده لم يكن مجرد إلقاء
الدرس على الطلاب وتلقينهم إياه، ولكنه عبارة عن صلة عقلية ينشئها بينه
وبين طلابه. فهو يشركهم معه في بحث المواضيع واستخراجها من مظانها، وفي
مناقشته المسائل وفهم النصوص وتحرير الآراء. وهو في كل ذلك يراجعهم
ويراجعونه، ويعينهم ويعينونه. كلهم لكلهم أساتذة، وكلهم لكلهم طلاب! وهكذا
يصير درسه عبارة عن مجتمع تتقارب فيه الأرواح وتتآلف النفوس، وتنبت في
جنباته عواطف الصدق والإخلاص، وبهذا المنهج الجامعي كان يربي طلبة يحبهم
ويحبونه، وينشؤون على ما عودهم إياه من سنن العلماء وآدابهم» .
وعن
علاقته بطلبته وتلامذته يقول عنه الدكتور إبراهيم مدكور رئيس مجمع اللغة
العربية في القاهرة: «فقد اتسع قلبه لتلاميذه، وشملهم جميعاً برعايته،
فكان يلقاهم في درسه وبيته، ويستمع إليهم في العلم وشؤون الحياة، وكانوا
يسرون إليه بما يشغلهم، ويعرضون عليه مشاكلهم، ولم يكن يدخر وسعاً في
معونتهم والأخذ بيدهم، فكان منهم بمثابة الأب من أبنائه، أو شيخ الطريقة
من مريديه، وتلك هي القيادة الروحية التي تنقصنا، وما أحوجنا إليها» .
ومن
هذه الجهة يرى الدكتور طه حسين أن هناك ثلاث خصال لازمت الشيخ عبدالرازق
طيلة حياته، وهي: «أنه لا يعرف محبًّا لطلب العلم مخلصاً في هذا الحب إلا
سعى إليه واتصل به وقرّبه منه وفتح له قلبه وعقله وداره أيضاً، وإذا كان
حب العلم وطلابه المخلصين هو الخصلة الأولى من الخصال التي لازمته حياته
كلها، فخصلة الوفاء هي الخصلة الثانية من خصاله، والبر بطلاب العلم خاصة
وبكل من كان يحتاج إلى البر عامة كان الخصلة الثالثة من خصاله» .
ثالثاً:
إن الذين سبقوا الشيخ عبد الرازق في تدريس الفلسفة والفلسفة الإسلامية في
الجامعة المصرية كانوا مجموعة من المستشرقين الأجانب، وهم الإيطاليان
سانتلانا ونلينو، والإنجليزيان أرنولد توماس ووكر وآرثر آربري، والفرنسيان
لويس ماسينيون وبول كراوس، والبلجيكي أرمند آبل.
وهذا يعني أن
المستشرقين الأجانب هم الذين كانوا يفرضون سطوتهم وهيمنتهم على الفلسفة
والدراسات الفلسفية تدريساً وتوجيهاً، وهم الذين وضعوا مناهجهم في التدريس
والتعليم، وبحسب رؤيتهم ووفق رغبتهم.
وكان الشيخ عبد الرازق يعلم أنه
أول أستاذ جامعي مصري تناط به مهمة تدريس الفلسفة الإسلامية، ولعله وجد
نفسه في محيط لا يخلو من هيبة ورهبة أمام هؤلاء الأساتذة الأجانب الذين
انبهر بالثقافة التي ينتمون إليها شريحة كبيرة من المتعلمين والأكاديميين
والأدباء والمثقفين في مصر والعالم العربي والإسلامي.
مع ذلك لم يتبع
الشيخ عبد الرازق هؤلاء الأساتذة الأجانب، ولم يكن مقلداً لهم في منهجهم
ومناهجهم، وإنما جاء بمنهج جديد مبتكر في تدريس الفلسفة الإسلامية مختلف
ومغاير في جوهره وروحه لمناهج أولئك الأجانب الذين سبقوه وكانوا ضالعين في
الفلسفة والدراسات الفلسفية، ويعتبرون هذا الحقل بالذات يمثل امتيازاً
لهم، ويعدونه أصالة وتاريخاً من إشراقاتهم وإبداعاتهم وفتوحاتهم وبدون
منازع.
والذين درسوا الفلسفة عند الشيخ عبد الرازق وتتلمذوا عليه، هم
الذين وجدوا أنه جاء بمنهج جديد غير مسبوق إليه، واعترف له أيضاً بهذه
الفضيلة أساتذة الفلسفة الذين عاصروه، وحتى الذين جاؤوا من بعده في مصر
والعالم العربي.
فحين تحدث الدكتور زكي نجيب محمود عن الشيخ عبد الرازق
قال عنه: إنه «قد نحا منحى جديداً في دراسة الفلسفة الإسلامية، وأرسى
دعائم مدرسة كانت الحياة الفلسفية أحوج ما تكون إليها» .
وعندما أراد
الدكتور أنور عبد الملك أن يعدد بعض وجوه الإبداع الفكري الذاتي في مصر،
توقف عند الشيخ عبد الرازق واعتبره أنه كان «مبدعاً ورائداً، إذ أعاد
منهاجية تاريخ الفلسفة الإسلامية إلى ضرورة الأخذ بأصولها التاريخية
الذاتية، دون الاعتماد على أسطورة أن الفلسفة ما كان لها من دور إلا نقل
التراث اليوناني إلى العرب، ومن ثم تسهيل إعادة نقله إلى الغرب في مرحلة
النهضة» .
ومن جهته يرى الدكتور أبو الوفاء الغنيمي التفتازاني أن
تعيين «الشيخ عبد الرازق أستاذاً في الجامعة كان فاتحة عهد جديد لدراسة
الفلسفة الإسلامية على أسس منهجية استفادها من عمق دراسته الأزهرية،
وتلمذته على الأستاذ الإمام محمد عبده من ناحية، ومن اتصاله بجامعات فرنسا
حيث درس بها حيناً من الزمن من ناحية أخرى» .
لهذه العوامل الثلاثة وتعاضدها اكتسبت التجربة الفكرية للشيخ عبد الرازق أهمية فائقة في تاريخ تطور الفكر الإسلامي الفلسفي الحديث.
ـ 2 ـ
كتاب التمهيد.. ومقالات الغربيين
يعتبر
كتاب (تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية) أهم وأبرز مؤلفات الشيخ عبدالرازق،
الذي لم يعرف عنه بصورة عامة غزارة الإنتاج، والتفرغ والانكباب في البحث
والتأليف والتحقيق كما هو حال شريحة كبيرة من المصريين في جيله وما بعد
جيله.
وهذا الكتاب هو الذي عرَّف بالشيخ عبد الرازق وبرؤيته ومنهجه في
دراسة الفلسفة الإسلامية وتاريخها، ويعد من أكثر مؤلفاته الذي رجع إليه
الدارسون والباحثون، ويتكرر ذكره والإشارة إليه في كتاباتهم وأبحاثهم
الفكرية والفلسفية، بوصفه مرجعاً مهماً في حقله ومجاله، وبالذات في الدفاع
عن أصالة الفلسفة الإسلامية، وتاريخ تطور النظر العقلي في الإسلام.
والكتاب
في الأصل -كما شرح المؤلف في المقدمة- عبارة عن دروسه التي ألقاها في
الجامعة المصرية أواخر ثلاثينيات القرن العشرين حول الفلسفة الإسلامية
وتاريخها، وذلك حين كان معنياً بدرس هذه الموضوعات، واستكمال بحثها،
فدوَّن حولها صحفاً أثمرت فيما بعد هذا الكتاب الذي صدر سنة 1944م.
صدور
هذا الكتاب في وقته جعله من المؤلفات الرائدة في مجال الفلسفة الإسلامية
وتاريخها خلال القرن العشرين، وتحديداً خلال النصف الأول منه، حيث أصبح
موضع عناية الباحثين والمؤرخين، فقد تحتم على الدكتور ماجد فخري -حسب
قوله- التوقف عنده، حين وصل إلى المؤلفات التي أرخت للفلسفة العربية .
وتوقف
عنده كذلك الدكتور محمد عابد الجابري واعتبره من المحاولات الرائدة
والطموحة في وقته، إلى جانب محاولة الدكتور إبراهيم مدكور في كتابه
(الفلسفة الإسلامية.. منهج وتطبيقه) الصادر سنة 1947م، والشيخ عبد الرازق
والدكتور مدكور هما في نظر الدكتور الجابري «من الأساتذة الذين ساهموا
مساهمة كبيرة في إعادة بعث وإحياء الفلسفة في الفكر العربي الحديث، بعد أن
بقيت مخنوقة مقموعة طيلة عصر الانحطاط، بل منذ وفاة ابن رشد» .
كما توقف عنده أيضاً الدكتور معن زيادة ووصفه بالكتاب الشهير ، وهكذا آخرون. وبالعودة إلى الكتاب فإن المؤلف قسمه إلى قسمين:
القسم
الأول: تحدث عن مقالات المؤلفين الغربيين، ومقالات المؤلفين الإسلاميين
وبيان منازعهم ومناهجهم في دراسة الفلسفة الإسلامية وتاريخها.
القسم
الثاني: تحدث عن منهج المؤلف في دراسة تاريخ الفلسفة الإسلامية، وهو منهج
مغاير لمناهج أولئك المؤلفين غربيين وإسلاميين، ويلي بيان هذا المنهج
تطبيق له، وتوضيح بما هو أشبه بالنموذج والمثال.
وبشأن القسم الأول يرى
المؤلف أن الباحث في الفلسفة الإسلامية وتاريخها لابد له من الإلمام
بمقالات من سبقوه في هذا المجال، ليكون على بصيرة فيما يتخير، وفيما يتحرى
اجتنابه من أسباب الزلل.
وهؤلاء السابقون في النظر إلى الفلسفة
الإسلامية فريقان، فريق من الغربيين يقول عنهم المؤلف: كأنهم يقصدون إلى
استخلاص عناصر أجنبية في هذه الفلسفة، ليردوها إلى مصدر غير عربي ولا
إسلامي، وليكشفوا عن أثرها في توجيه الفكر الإسلامي. وفريق من الإسلاميين
يقول عنهم المؤلف: كأنهم يزنون الفلسفة بميزان الدين .
عن فريق
الغربيين حاول المؤلف أن يتتبع جملة نظرهم إلى الفلسفة الإسلامية وحكمهم
عليها منذ صدر القرن التاسع عشر الذي استقرت فيه معالم النهضة الحديثة
لتاريخ الفلسفة، ومن هؤلاء الغربيين الذين تطرق المؤلف لآرائهم ووجهات
نظرهم:
أولاً: الباحث الألماني تنيمان المتوفى سنة 1819م، صاحب كتاب
(المختصر في تاريخ الفلسفة) الصادر بالألمانية سنة 1812م، في هذا الكتاب
يرى تنيمان أن هناك عدة عقبات أعاقت تقدم العرب في مجال الفلسفة، هذه
العقبات هي:
1- الكتاب المقدس الذي يعوق النظر العقلي الحر.
2- حزب أهل السنة وهو حزب قوي متمسك بالنصوص.
3- لم يلبثوا أن جعلوا لأرسطو سلطاناً مستبداً على عقولهم.
4- ما في طبيعتهم القومية من ميل إلى التأثر بالأوهام.
ولهذا
لم يستطع العرب في نظر تنيمان أن يصنعوا أكثر من شرحهم لمذهب أرسطو
وتطبيقه على قواعد دينهم، وكثيراً ما أضعفوا مذهب أرسطو وشوهوه، وبذلك
نشأت بينهم فلسفة تشبه فلسفة الأمم المسيحية في القرون الوسطى، تُعنى
بالبراهين الجدلية المتعسفة، وتقوم على أساس النصوص الدينية .
ثانياً:
الباحث الفرنسي فيكتور كوزان المتوفى سنة 1847م، الذي ألقى محاضرات حول
تاريخ الفلسفة بجامعة باريس، أشار فيها إلى أن المسيحية هي آخر ما ظهر على
الأرض من الأديان، وهي أكملها وتمام كل دين سابق، وغاية الثمرات التي
تمخضت عنها الحركات الدينية في العالم وبها خُتمت.
ويضيف كوزان ومن
أراد دليلاً فلينظر ماذا أخرجت المسيحية للناس، أخرجت الحرية الحديثة
والحكومات النيابية، ثم لينظر ما دون المسيحية ماذا أخرجت منذ عشرين قرناً
سائر الأديان، ماذا أنتج الدين البرهمي والدين الإسلامي، وسائر الأديان
التي ما تزال قائمة فوق ظهر الأرض، أنتج بعضها انحلالاً موغلاً، وبعضها
أثمر استبداداً ليس له مدى، أما المسيحية التي بعد أن صانت ذخائر الفنون
والآداب والعلوم بعثتها بعثاً قويًّا، وهي أصل الفلسفة الحديثة .
ثالثاً:
الباحث الفرنسي أرنست رينان المتوفى سنة 1892م، صاحب كتابي (تاريخ اللغات
السامية) و(ابن رشد ومذهبه)، في الكتاب الأول صنَّف رينان البشر إلى صنفين
ساميين وآريين، وانحاز إلى الآريين، وقرر تفوقهم الفلسفي على الساميين،
معتبراً أن «من الخطأ وسوء الدلالة بالألفاظ على المعاني، أن نطلق على
فلسفة اليونان المنقولة إلى العربية لفظ فلسفة عربية، مع أنه لم يظهر لهذه
الفلسفة في شبه جزيرة العرب مبادئ ولا مقدمات، فكل ما في الأمر أنها
مكتوبة بلغة عربية، ثم هي لم تزدهر إلا في النواحي النائية عن بلاد العرب
مثل أسبانيا ومراكش وسمرقند، وكان معظم أهلها من غير الساميين».
وفي
كتابه الثاني (ابن رشد ومذهبه)، اعتبر رينان «ما يكون لنا أن نلتمس عند
الجنس السامي دروساً فلسفية، ومن عجائب القدر أن هذا الجنس الذي استطاع أن
يطبع ما ابتدعه من الأديان بطابع القوة في أسمى درجاتها لم يثمر أدنى بحث
فلسفي خاص، وما كانت الفلسفة قط عند الساميين إلا اقتباساً صرفاً جديباً
وتقليداً للفلسفة اليونانية» .
رابعاً: الباحث الفرنسي جوستاف دوجا
صاحب كتاب (تاريخ الفلاسفة والمتكلمين المسلمين) الصادر سنة 1889م، في هذا
الكتاب خطَّأ دوجا موقف معاصره رينان ومن يتبنى مثل هذا الموقف كالباحث
الألماني شمويلدرز في كتابه (المذاهب الفلسفية عند العرب) الصادر سنة
1842م، وحسب رأيه أن أحكام هؤلاء تذهب إلى حد الشطط، ومصدرها سوء التحديد
للفلسفة، وجهلنا بما عند العرب من مصنفات غير شروحهم لمؤلفات أرسطو، فهل
يظن ظان أن عقلاً كعقل ابن سينا لم ينتج في الفلسفة شيئاً طريفاً، وأنه لم
يكن إلا مقلداً لليونان؟ وهل مذاهب المعتزلة والأشعرية ليست ثماراً بديعة
أنتجها الجنس العربي؟
ويضيف دوجا ومن أراد أن يحكم في خصائص الفلسفة
العربية حكماً سديداً فعليه أن ينظر إليها من ناحية إصلاحها للعقائد، وتلك
حقيقة الغرض الذي ترمي إليه الفلسفة .
خامساً: الباحث الفرنسي الألماني
الأصل مونك المتوفى سنة 1867م، الذي يرى أن «الفلسفة لدى العرب لم تتقيد
بمذهب المشائين صرفاً، بل هي توشك أن تكون تقلبت في كل الأطوار التي مرت
بها في العالم المسيحي، ففيها مذهب أهل السنة الواقفين عند النصوص، ومذهب
الشك، ومذهب التولد، بل فيها مذاهب شبيهة بمقال اسبينوزا، ومذهب وحدة
الوجود الحديث» .
واستناداً على هذا الرأي يرى الشيخ عبد الرازق أن
مونك يدحض ويخالف قول تنيمان في أن كتاب الإسلام المقدس يعوق النظر العقلي
الحر، ويثبت أن الإسلام ليس دون المسيحية اتساعاً لنمو الفلسفة وتطورها،
وينفي دعوى انحطاط الجنس السامي عن الجنس الآري في البحث الفلسفي.
وهذا
يعني في نظر الشيخ عبد الرازق أن الرأي العلمي الذي كان عند الغربيين تجاه
الفلسفة العربية في مستهل القرن التاسع عشر، اختلف وتغير في أواخر هذا
القرن، فالأحكام التي أطلقها تنيمان وكانت يومئذ من المسلمات لم تعد كذلك
في نهاية القرن التاسع عشر.
سادساً: الباحث الفرنسي جوتييه أستاذ تاريخ
الفلسفة الإسلامية في الجزائر، وصاحب كتاب (المدخل إلى درس الفلسفة
الإسلامية)، الذي جدد فيه الحديث عن الفروقات بين الجنسين السامي والآري،
وأشار إلى ذلك بقوله: «في كل مظاهر النشاط الإنساني، من أدناها كمسائل
الطعام واللباس إلى أعلاها كالنظم السياسية والاجتماعية، تتجلى في الجنس
الآري من ناحية، والجنس السامي -معتبراً في أخلص أنواعه أي النوع العربي-
نزعات أصلية متقابلة. العقل السامي يجمع بين الأشياء متناسبة وغير
متناسبة، مع تركها منفصلة بلا رباط يصلها، متنقلاً بينها بوثبات مباغتة لا
تدرج فيها.
أما العقل الآري فعلى عكس ذلك، يؤلف بين الأشياء بوسائط
تدريجية لا يتخطى واحداً منها إلى غيره إلا على سُلَّم متداني الدرج لا
يكاد يحس التنقل فيه» .
سابعاً: الباحث الفرنسي برهيه أستاذ تاريخ
الفلسفة بجامعة السربون، وصاحب كتاب (تاريخ الفلسفة) الصادر في جزءه الأول
سنة 1926م، حيث اعتبره الشيخ عبدالرازق أنه من حزب السامية والآرية، ولكن
من دون أن يغرق في ذلك إغراق مواطنه جوتييه.
وحسب رأي برهيه أن «فلاسفة
ممن اعتنقوا الإسلام، وكانوا يكتبون آثارهم بالعربية لكن جمهرتهم لم تكن
من أصلٍ ساميٍّ بل من أصل آري، لذلك التمسوا موضوعات تفكيرهم في الكتب
اليونانية، التي أخذ في ترجمتها إلى السريانية والعربية منذ القرن السادس
المسيحيون النسطوريون، والتمسوها أيضاً في الآثار المزدكية الباقية في
فارس المختلطة أشد الاختلاط بالآراء الهندية» .
ثامناً: الباحث
الألماني هورتن الذي كتب فصلاً في (دائرة المعارف الإسلامية) بعنوان
(فلسفة) أشار فيه إلى أن كلمة فلسفة يراد بها «النزعة اليونانية في الحكمة
الإسلامية، ويجب أن يعتبر أيضاً إلى جانب ذلك ما بذله المفكرون من جهود
عقلية مبنية على ما كان معروفاً في عصورهم من معاني البحث العلمي عن أحوال
الوجود على ما هو عليه، أو على الأقل البحث عن مسائل متصلة بإدراك شامل
للعالم، فهي بهذا الاعتبار ينبغي أن تعد من الفلسفة، ذلك ينطبق أولاً على
علم الكلام النظري الذي يرمي إلى رفع مستوى العقائد الإسلامية المحتوية
على تصور للوجود بالغ من السذاجة حد الطفولة، حتى تلتئم مع مطالب العلم في
ذلك الزمان» .
هذه هي مقالات الغربيين في القرنين التاسع عشر والعشرين
حول الفلسفة الإسلامية وتاريخها، التي عرض لها الشيخ عبد الرازق في كتابه
التمهيد، وما توصل إليه بعد هذا العرض يجمله في ثلاثة تغيرات أساسية هي:
أولاً:
تلاشي القول بأن الفلسفة العربية أو الإسلامية ليست إلا صورة مشوهة من
مذهب أرسطو ومفسريه أو كاد يتلاشى، وأصبح في حكم المسلم به أن للفلسفة
الإسلامية كياناً خاصًّا يميزها عن مذهب أرسطو ومذاهب مفسريه.
ثانياً: تلاشي القول بأن الإسلام وكتابه المقدس كانا بطبيعتهما سجناً لحرية العقل، وعقبة في سبيل نهوض الفلسفة أو كاد يتلاشى.
ثالثاً:
أصبح لفظ الفلسفة الإسلامية أو العربية شاملاً -كما بيَّنه الباحث هورتن-
لما يسمى فلسفة أو حكمة ولمباحث علم الكلام، واشتد الميل إلى اعتبار
التصوف أيضاً من شعب هذه الفلسفة.
ـ 3 ـ
الفلسفة الإسلامية.. مقالات الإسلاميين
أما
فريق الإسلاميين ومقالاتهم حول الفلسفة الإسلامية وتاريخها، فقد تحدث عنهم
الشيخ عبد الرازق في ثلاثة فصول من كتابه التمهيد، في كل فصل تناول قضية
وأشار إلى مقالات عدد من الإسلاميين، ووجد من العسير -حسب قوله- أن يسلك
النسق نفسه الذي سلكه في حديثه عن فريق الغربيين من جهة مراعاة الترتيب
التاريخي في سرد الآراء وملاحظة تطورها.
في الفصل الأول - الثاني حسب
تقسيم الكتاب- تحدث المؤلف عن قضية الفلسفة والعرب قبل الإسلام، والفلسفة
ومصادرها في الملة الإسلامية، وأشار في هذا الصدد إلى مقالات عدد من
الإسلاميين جاء في مقدمتهم القاضي صاعد بن أحمد الأندلسي المتوفى سنة
462هـ، صاحب كتاب (طبقات الأمم) الذي تحدث فيه عن حال العلم عند العرب قبل
الإسلام، وتطرق إلى الفلسفة قائلاً: «وأما علم الفلسفة فلم يمنحهم الله عز
شيئاً منه، ولا هيَّأ طباعهم للعناية به، ولا أعلم أحداً من صميم العرب
شهر به إلا أبا يوسف بن إسحاق الكندي، وأبا محمد الحسن الهمداني» .
ومن
بعده تحدث المؤلف عن الشهرستاني المتوفى سنة 548هـ صاحب كتاب (الملل
والنحل) الذي تحدث فيه عن الفلاسفة في الأمم المختلفة، وأشار إلى العرب
بقوله: «ومنهم حكماء العرب، وهم شرذمة قليلة لأن أكثرهم حكمهم فلتات
الطبع، وخطرات الفكر، وربما قالوا بالنبوات» .
ومن هؤلاء الإسلاميين
أيضاً الجاحظ صاحب كتاب (البيان والتبيين)، وابن خلدون صاحب المقدمة،
والمقريزي صاحب الخطط، وابن النديم صاحب الفهرست، ويوسف القفطي صاحب كتاب
(إخبار العلماء بأخبار الحكماء)، والتوحيدي صاحب المقابسات، وآخرين.
وفي
الفصل الثاني - الثالث حسب الكتاب- تحدث المؤلف عن تعريف الفلسفة وتقسيمها
عند الإسلاميين، وأشار إلى أقوال ومقالات الكندي والفارابي وإخوان الصفا،
وابن سينا، ثم تحدث عن الصلة بين الفلسفة والكلام والتصوف وأشار إلى أقوال
ومقالات مصطفى بن عبد الله المشهور باسم حاجي خليفة المتوفى سنة 1067هـ،
صاحب كتاب (كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون)، وطاش كبرى زاده المتوفى
سنة 962هـ، صاحب كتاب (مفتاح السعادة)، وابن خلدون أيضاً.
وفي الفصل
الثالث - الرابع في الكتاب- تحدث المؤلف عن الصلة بين الدين والفلسفة عند
الإسلاميين، القضية التي جعلها بعض الغربيين مناط الابتكار في الفلسفة
الإسلامية، وجعلها بعضهم الآخر سبباً لانقلاب فلاسفة الإسلام مبشرين
بالدين الإسلامي ودعاة له.
وقد قسّم المؤلف أقوال الإسلاميين حول هذه
القضية إلى اتجاهين، أطلق على الاتجاه الأول رأي الفلاسفة، وأطلق على
الاتجاه الثاني رأي علماء الدين.
عن الاتجاه الأول ورأي الفلاسفة،
تطرّق المؤلف إلى أقوال ومقالات ابن حزم المتوفى سنة 456هـ صاحب كتاب
(الفصل في الملل والنحل)، وابن رشد المتوفى سنة 595هـ صاحب كتاب (فصل
المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال)، والشهرستاني صاحب كتاب
(الملل والنحل)، والفارابي صاحب كتاب (تحصيل السعادة)، وابن سينا صاحب
كتاب (الطبيعيات من عيون الحكمة).
وعن الاتجاه الثاني ورأي علماء
الدين، الذين قال عنهم المؤلف: إن لهم منزعاً غير منزع الفلاسفة، وهم في
أكثر الأمر خصوم للفلسفة في غير هوادة ولا رفق، لأن هناك من يطعن الفلسفة
لكن مع رفق.
ويُحسب على هذا الاتجاه في نظر المؤلف، الراغب الأصفهاني
المتوفى سنة 502هـ صاحب كتاب (الذريعة إلى أحكام الشريعة)، وأبو حامد
الغزالي المتوفى سنة 505هـ صاحب كتابي (تهافت الفلاسفة) و(المنقذ من
الضلال)، وابن صلاح الشهرزوري المتوفى سنة 643هـ صاحب الفتوى الشهيرة
والعنيفة في تحريم الفلسفة والمنطق، وأحمد بن مصطفى المعروف بطاش كبرى
زاده المتوفى سنة 962هـ صاحب كتاب (مفتاح السعادة ومصباح السيادة).
ومن
بعد هؤلاء التفت المؤلف وأشار إلى أن المتقدمين قبل الغزالي من كانوا
حرباً على الفلسفة لا يعرفون هوادة ولا ليناً، وجل هذا الصنف ممن لم
يتذوقوا طعم الفلسفة، ولم يتنسموا ريحها، وفي كلامهم من الخلط ما يدل على
أنهم لا يتكلمون عن علم فيما عالجوا من أمور الفلسفة .
ومن هؤلاء في نظر المؤلف، جمال الدين أبي بكر محمد بن العباس الخوارزمي المتوفى سنة 383هـ، صاحب كتاب (مفيد العلوم ومبيد الهموم).
وأما
الفقهاء من علماء الدين المتأخرين، فالظاهر كما يقول عنهم صاحب التمهيد
أنهم لا يرون بين الفلسفة والشعوذة والسحر والكهانة فرقاً، ومن هؤلاء في
نظره: النووي محيي الدين يحيى أبو زكريا المتوفى سنة 677هـ صاحب كتاب
(المجموع شرح المهذب)، وعلاء الدين محمد بن علي الحصكفي المتوفى سنة
1088هـ، صاحب كتاب (الدر المختار شرح تنوير الأبصار)، وابن القيم الجوزية
المتوفى سنة 751هـ، صاحب كتاب (مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم
والإرادة).
ويختم المؤلف حديثه عن هذا القسم الأول من الكتاب بقوله:
«كلام الإسلاميين في الفلسفة الإسلامية، مع قصوره عن تكوين منهج تاريخي،
هو في غالب الأمر يُعنى ببيان نسبة هذه الفلسفة إلى العلوم الشرعية، وحكم
الشرع فيها، ورد ما يعتبر معارضاً للدين منها.
وليس بين العلماء نزاع
في أن الفلسفة الإسلامية متأثرة بالفلسفة اليونانية، ومذاهب الهند، وآراء
الفرس.. والعوامل الأجنبية المؤثرة في الفكر الإسلامي وتطوره، مهما يكن من
شأنها فهي أحداث طارئة عليه، صادفته شيئاً قائماً بنفسه، فاتصلت به لم
تخلقه من عدم، وكان بينهما تمازج أو تدافع، لكنها على كل حال لم تمحُ
جوهره محواً» .
ـ 4 ـ
عبد الرازق ومنهجه في دراسة الفلسفة الإسلامية
في
القسم الثاني من الكتاب تحدث صاحب التمهيد عن منهجه في دراسة الفلسفة
الإسلامية وتاريخها، المغاير لمناهج أولئك السابقين غربيين وإسلاميين،
ويتوخى هذا المنهج الرجوع إلى النظر العقلي الإسلامي في سذاجته الأولى،
وتتبع مدارجه في ثنايا العصور، والكشف عن أسرار تطوره، وهو بهذه الطريقة
يكون في نظر المؤلف أدنى إلى المسلك الطبيعي، وأهدى إلى الغاية.
وقد
قسَّم المؤلف حديثه عن هذا المنهج في ثلاثة فصول، في الفصل الأول تحدث عن
بداية التفكير الفلسفي عند المسلمين، الأمر الذي استدعى منه أن يلم بحال
الفكر العربي واتجاهاته وقت ظهور الإسلام، وفي رأيه أن العرب عند ظهور
الإسلام لم يكونوا في سذاجة الجماعات الإنسانية الأولى من الناحية
الفكرية، ويدل على ذلك ما عرف من أديانهم، وما رُوي من آثارهم الأدبية.
ثم
تطرق المؤلف إلى ظاهرة الدين والجدل الديني عند العرب الذين كان فيهم يهود
ونصارى وصابئة ومجوس، وكان فيهم أيضاً مشركون، وهذا يعني أن العرب عند
ظهور الإسلام كانوا يتشبثون بأنواع من النظر العقلي قريب الشبه من أبحاث
الفلسفة العلمية لاتصاله بما وراء الطبيعة من الألوهية وقدم العلم أو
حدوثه، والأرواح والملائكة والجن والبعث ونحو ذلك.
إلى جانب ذلك وَجَدَ
عند العرب نوعاً آخر من التفكير له طابع عملي دعت إليه حاجة الجماعة
البشرية، واستند المؤلف في هذا الأمر إلى ما أشار إليه صاعد بن أحمد
الأندلسي في كتابه (طبقات الأمم)، بقوله: «وكان للعرب مع هذا معرفة بأوقات
مطالع النجوم ومغايبها، وعلم بأنواء الكواكب وأمطارها، على حسب ما أدركوه
بفرط العناية وطول التجربة، لاحتياجهم إلى معرفة ذلك في أسباب المعيشة، لا
على طريق تعلم الحقائق ولا على سبيل التدرب في العلوم» .
كما كان يوجد
عند العرب كذلك طائفة مميزة من الناس يسمونهم حكماءهم، وهم علماؤهم الذين
كانوا يحكمون بينهم إذا تنافروا في الفضل والحسب وغير ذلك من الأمور التي
كانت تقع بينهم.
ومع ظهور الإسلام تطور النظر العقلي عند العرب
والمسلمين في الشؤون العملية والعلمية، في الشؤون العملية حيث ورد في
الكتاب والسنة الثناء على الحكمة والحكم والتنويه بفضلهما، فمهد ذلك
انتعاش النظر العقلي في المجال العملي.
وفي الشؤون العلمية حيث وجدت
الحاجة لاستنباط أحكام الوقائع المتجددة التي لم يكن من الممكن أن تحيط
بها النصوص الشرعية فنشأ الاجتهاد في التشريع الإسلامي.
وفي نظر المؤلف
أن الاجتهاد بالرأي في الأحكام الشرعية هو أول ما نبت من النظر العقلي عند
المسلمين، وقد نما وترعرع في رعاية القرآن وبسبب من الدين، ونشأت منه
المذاهب الفقهية، وأينع في جنباته علم فلسفي هو علم أصول الفقه.
وعلى
هذا الأساس فإن الباحث في تاريخ الفلسفة الإسلامية، يجب عليه في نظر صاحب
التمهيد أن يدرس أولاً الاجتهاد بالرأي منذ نشأته الساذجة إلى أن صار
نسقاً من أساليب البحث العلمي، له أصوله وقواعده، وذلك لأن هذه الناحية هي
أقل نواحي التفكير الإسلامي تأثراً بالعناصر الأجنبية، فهي تمثل لنا هذا
التفكير مخلصاً بسيطاً يكاد يكون مسيراً في طريق النمو بقوته الذاتية
وحدها، فيسهل بعد ذلك أن نتابع أطواره في ثنايا التاريخ، وأن نتقصى فعله
وانفعاله فيما اتصل به من أفكار الأمم.
هذه الخلاصة التي تمثل لب نظرية
صاحب التمهيد قادته لأن يبحث في الفصل الثاني النظريات المختلفة في الفقه
الإسلامي وتاريخه، وذلك على خلفية أن البحث في الرأي وأطواره وأثره في
تكوين المذاهب الفقهية يستدعي نظرة في تاريخ الفقه الإسلامي ومصادره
وأدواره المختلفة.
وعلى النسق نفسه الذي سار عليه من قبل تطرق صاحب
التمهيد إلى رأي المستشرقين الناظرين لهذا الشأن حيث كان لهم منزع معيّن،
ثم تطرق إلى رأي علماء المسلمين الذين كان لهم منزع مختلف، والمقارنة بين
وجهتي النظر هاتين تفضي في نظر المؤلف إلى تمحيص أوسع مدى، وأدنى إلى
السداد.
وعن منزع المستشرقين عرض المؤلف بشكل أساسي وجهتي نظر،
الأولى للفرنسي كارا دي فو التي أشار إليها في كتابه (مفكرو الإسلام)
الصادر في أجزائه الخمسة ما بين سنة 1921م إلى سنة 1926م. والثانية للمجري
جولد زيهر المتوفى سنة 1921م التي أشار إليها في كتابه (العقيدة والشريعة
في الإسلام)، وفي مقالة له عن الفقه في دائرة المعارف الإسلامية.
وعن
منزع علماء المسلمين عرض المؤلف بشكل أساسي إلى وجهتي نظر، الأولى لابن
خلدون أشار إليها في مقدمته، والثانية لابن القيم الجوزية أشار إليها في
كتبه (إعلام الموقعين عن رب العالمين).
وجاء هذا العرض تمهيداً إلى
الفصل الثالث الذي تحدث فيه المؤلف وبشكل مفصل عن نشأة الرأي في الإسلام
وأطواره، بدءاً من الرأي في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، مروراً
بالرأي في عصر الخلفاء الراشدين، ومن ثم الرأي في عهد بني أمية، وصولاً
إلى الرأي في عصر الدولة العباسية.
وفي هذا السياق جاء الحديث عن ظاهرة
أهل الرأي وأهل الحديث، وعن أئمة المذاهب الإسلامية مع التركيز على الإمام
الشافعي بوصفه واضع علم الأصول، ومع العناية بتحليل كتابه (الرسالة)،
والكشف عن مظاهر التفكير الفلسفي فيه.
وفي خاتمة الحديث اعتبر المؤلف
أن المتكلمين منذ القرن الرابع الهجري وضعوا أيديهم على علم أصول الفقه،
وغلبت طريقتهم فيه طريقة الفقهاء، فنفذت إليه آثار الفلسفة والمنطق، واتصل
بهما اتصالاً وثيقاً.
وعلى أثر هذه النتيجة ضم المؤلف في نهاية الكتاب
بحثاً في علم الكلام وتاريخه، أطلق عليه ضميمة، لكنه في نظره ليس مقطوع
الصلة بالكتاب ومنهجه، فهو لا يعدو أن يكون نموذجاً أيضاً من نماذج المنهج
الجديد.
وقد وجد العديد من الباحثين الأكاديميين ومنهم الدكتور محمد
مصطفى حلمي في كتابه التمهيد ومنهجه بأنه يمثل «قيمة تاريخية ومذهبية كبرى
بين الكتب التي أُلِّفت في الفلسفة الإسلامية، لأنه يختلف عنها جميعاً في
موضوعاته ونتائجه، فهو ليس على النحو المألوف، والنهج المعروف عند
المؤلفين الشرقيين والمستشرقين، بل هو منهج جديد في درس تاريخ الفلسفة
الإسلامية مغايراً لهذه المناهج، وفيه تتجلى شخصية الشيخ الفيلسوف» .
ـ 5 ـ
الطابع النصي.. آراء وتحليلات
من
الملاحظات التي استوقفت انتباه الدارسين لكتاب التمهيد، كثافة النصوص
المطولة، والمقتبسة من المصادر والمراجع القديمة والحديثة، الغربية
والإسلامية، الظاهرة التي تجلَّت في جميع فصول الكتاب، وفي كل صفحة من
صفحاته تقريباً.
بمعنى أن هذه النصوص قد طغت على الكتاب بصورة تلفت
الانتباه بشدة، وتظهره كما لو أنه كتاب في النصوص حول الفلسفة الإسلامية
وتاريخها، وبدون هذه النصوص لا يكاد يمثل الكتاب وزناً كبيراً، ولو
رفعناها لاختل توازنه، وتضاءلت قيمته، وتفككت بنيته.
ونادراً ما اطلعت
على كتاب بهذه الصورة في التعامل مع النصوص ونقلها، فالنص الواحد يكاد
يُغطي عدة صفحات متتالية، وما إن ينتهي النص على طوله، حتى يبدأ نص آخر
بعده بالطول نفسه أو أقل أو أكثر منه، وهكذا الحال في كل فصل من فصول
الكتاب.
علماً أن هذه الملاحظة لم تكن بعيدة عن إدراك المؤلف الذي كان
متفطناً لها، ولعله كان مقتصداً لها أيضاً، حيث أشار إليها في مقدمة
الكتاب معتبراً أنها جاءت لكي تراعي حاجة الطلاب إلى مراجعة النصوص
الكثيرة، وحسن التدبر والفهم للأساليب المتفاوتة.
ومنذ أن استوقفتني
هذه الملاحظة بعد مطالعة الكتاب، حاولت معرفة كيف نظر لها الآخرون، وفيما
إذا كانوا قد توقفوا عندها أم لا، وبعد البحث في المصادر والمراجع وقفت
على وجهات النظر التالية:
أولاً: أشار إلى هذه الملاحظة الدكتور زكي
نجيب محمود وامتدح هذه الطريقة عند المؤلف، معتبراً أن صاحب التمهيد قد
وقف في عرض كتابه، وقفة العالم المحايد الذي يتخفى وراء النصوص .
ثانياً:
بخلاف ما يراه الدكتور زكي نجيب محمود، وفي سياق الثناء على المؤلف يرى
عباس محمود العقاد أن الشيخ عبد الرازق في مؤلفاته «كان كظم المواجد،
والانطواء في حجاب من السمت والوقار سمة الأستاذ الأكبر في حياته العقلية،
لأنه كان في مؤلفاته يتجنب إبراز نفسه، ولا يحاول أو يقحم رأيه على قارئه،
ويخيل إلى قارئه من التزامه هذه الخطة أن المؤلف يقنع بالنصوص والشواهد
ولا يتجاوزها وهو في الواقع غير الحقيقة، لأن أمانته في عرض النصوص
والشواهد لم تكن لتحجب العارض، ولا لتخفي منحاه ونتيجة بحثه، بل هو كان لا
يُعفي نفسه منه بمحاولة التوفيق بين الروايات المتضاربة، وكان يرى لزاماً
أن يختار منها الرواية التي تتوافر لها أدلة الصحة» .
ثالثاً: يرى
الدكتور إبراهيم مدكور أن الشيخ عبد الرازق «كانت له عناية خاصة بالنصوص
وشرحها، وتلك سنة أزهرية قديمة، ومتبعة إلى اليوم في الجامعات الكبرى
بأوروبا وأمريكا، ويظهر أن جامعاتنا في أعدادها الكبيرة وزحمتها الشديدة
أصبحت لا تعيرها كل ما تستحق من عناية. واستطاع مصطفى عبد الرازق بطريقته
أن يحبب تلاميذ المدارس الثانوية في الكتب الصفراء، وأن يفتح أعينهم على
مراجع الثقافة الإسلامية المختلفة، ومنهم من أضحى حجة في بعض أبوابها،
وعمدة في فرع من فروعها» .
رابعاً: يتفق الدكتور توفيق الطويل مع الرأي
السالف للدكتور إبراهيم مدكور، ويرى من جهته أن الشيخ عبد الرازق كان
مولعاً بالنصوص وتفسيرها، وقد تأثر في منهجه هذا بدراساته في جامعتي باريس
وليون .
خامساً: في حديثه عن منهجه في تدريس الفلسفة الإسلامية يرى
الدكتور سعيد زايد أن الشيخ عبد الرازق «كان له منهج مميز في تدريسها، وهو
الاعتماد على النصوص وذكرها في إطار متناسق، بحيث يكون كل نص مقدمة لما
بعده، فهو يورد النصوص في تسلسل متسق حتى تتضح الفكرة. ونحن إذا كنا نعرف
جميعاً أن خصائص التأليف الحديث هو استخلاص الفكرة من النص وشرحها بأسلوب
المؤلف مع الإشارة إلى النص أو ذكره للاستشهاد به إن دعا الأمر، فإن هذا
لم يكن ليغيب عن ذهن أستاذنا الأكبر... بهذا المنهج، منهج الاعتماد على
النصوص، سار أستاذنا الأكبر في أهم كتاب له، وهو كتاب تمهيد لتاريخ
الفلسفة الإسلامية» .
سادساً: تطرق إلى هذه الملاحظة بشكل عابر الدكتور
عبد الرحمن بدوي في مذكراته عند حديثه عن السنة الثانية في الجامعة بقسم
الفلسفة، حيث درس علم الكلام عند الشيخ عبد الرازق، والذي ضمه فيما بعد في
كتاب التمهيد، وعن طريقة عرضه لهذا الدرس يقول بدوي «ورغم أنه عرض مسترسل،
فقد أكثر فيه من النصوص والاقتباسات، على عادته دائماً فيما يكتب» .
سابعاً:
توقف الدكتور أحمد برقاوي عند هذه الملاحظة وأشار إليها بقوله: «حين كتب
مصطفى عبد الرازق تمهيداً لتاريخ الفلسفة الإسلامية سنة 1944م، كانت عودة
الفلسفة حديثة العهد إلى العرب، وكان صاحب الكتاب أستاذاً فجعل من كتابه
كتاباً تعليميًّا يراعي حاجة الطالب إلى مراجعة النصوص الكثير
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

مصطفى عبد الرازق وتاريخ الفلسفة الإسلامية :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

مصطفى عبد الرازق وتاريخ الفلسفة الإسلامية

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:تستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: دراسات و ابحاث-
إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوعانتقل الى: