حوار اجراه: وسام السبع، ونشر في صحيفة الايام الصادرة في البحرين، بتاريخ 25/9/2003.
لايمكن
لمن هو مهتم بحركة الانتاج الفكري والثقافي في العالم العربي والاسلامي
الا ويقف بإجلال لروعة الجهد الفكري الرائد الذي يضطلع به الباحث والمفكر
العراقي الدكتور عبد الجبار الرفاعي واصداره لمجلة "قضايا اسلامية معاصرة"
فقد استوعبت شخصية الرفاعي جملة من الاشتغالات الفكرية وتنوعت مجالات
اهتمامه من وحي تنوع وغنى المصادر الفكرية التي يقف عليها ويتوفر على
الاحتكاك اليومي بها. الرفاعي أكثر من باحث مهموم بالثقافة الاسلامية
واسئلة التجديد، فهو أحد العلماء الذين كانت ولاتزال لهم قدم راسخة في مجال
التحصيل العلمي في الحوزة العلمية وأحد الاساتذة المرموقين في الفلسفة
الاسلامية وهو مترجم نشط لعدد كبير من الابحاث والاصدارات الايرانية للغة
العربية، وهو آخراً وليس أخيراً رئيساً تحريرياً لمجلة قضايا اسلامية
معاصرة ومؤسس مركز دراسات فلسفة الدين في بغداد أخيراً, وصاحب الاصدارت
الفكرية العديدة.
هذا اللقاء يحكي صورة من مقطع طويل لقصة رجل أعطى أكثر
مما تعطيه المؤسسات، وهو الذي في مهجره لم يكن يملك الكثير الا صلابة
العزيمة وحيوية الطموح الجامح، فإلى الحوار:
ترجمة الهم الاصلاحي الى مشروع مطبوعة
عرفتم في الاوساط العلمية والفكرية في الوطن العربي من خلال مشروعكم
الرائد والذي قام على جهد شخصي كامل وهو مشروع مجلة "قضايا اسلامية معاصرة"
التي مثلت جسراً تواصلياً بين الساحة الفكرية في ايران والساحة الفكرية في
الوطن العربي. ما هي ظروف نشأة هذا المشروع وما هي ابرز دواعي ولادته؟
بعد ان انهيت تعليمي الاكاديمي في تخصص الزراعة, انخرطت في الحوزة العلمية
في النجف الاشرف في سنة 1978, وبعد اضطراب الاحوال الامنية والسياسية في
العراق اضطررت للهجرة الى ايران, لالتحق بعدها بالحوزة العلمية في قم,
وواصلت دراستي في الحوزة العلمية, ثم بالتدريج وبحسب الطريقة المعروفة، ان
الطالب في المرحلة المتقدمة يباشر مهام التدريس للمرحلة التي قبلها, فكنت
طالباً ومدرساً الى ان وصلت الى مرحلة البحث الخارج, وفي الوقت نفسه كنت
استاذاً للمقدمات والسطوح, وقد امضيت سنوات طويلة ناهزت ربع قرن في
الدراسات الحوزوية، وحاولت ان ادرس بالطريقة التقليدية المتعارف عليها في
الحوزة, حتى أنني كنت مهتماً بالكتب التي توجد مناهج بديلة لها، فعلى سبيل
المثال قمت بالجمع بين دراسة علم اصول الفقه بالطريقة التقليدية, فدرست
كتاب "معالم الدين" و"اصول الفقه" المعروف بأصول المظفر وكتاب "الرسائل" و
"الكفاية". ودرست ايضاً المنهج الجديد، وهو "دروس في علم الاصول" المعروف
بالحلقات الذي كتبه الشهيد محمد باقر الصدر، وحاولت ان اجمع بين المنهجين ,
وكنت مثابراً في الدراسة لسنوات طويلة , ووجدت من خلال دراستي للمعارف
والعلوم الاسلامية التراثية في الحوزة أن بعض هذه العلوم بحاجة الى اعادة
بناء وتحديث, وبحاجة الى ان تخرج باسلوب جديد ولغة جديدة, تنسجم مع
التحولات الهائلة التي تجري في عصرنا, وهذه الحقيقة ادركها منذ أكثر من
مائة سنة السيد هبة الدين الشهرستاني, والسيد محسن الامين, والشيخ محمد
حسين آل كاشف الغطاء, والشيخ محمد جواد الجزائري، ثم في ما بعد الشيخ محمد
رضا المظفر الذي اضطلع بمشروعه الرائد "جمعية منتدى النشر"و "كلية الفقه",
ثم في ما بعد السيد محمد باقر الصدر الذي اهتم بتحديث مناهج الدراسات
الاسلامية في الحوزة العلمية.
انا لم أكن تواقاً لبناء مدرسة في الحوزة
العلمية بموازاة المدارس الاخرى الموجودة في الحوزة فعلاً, انما كان شاغلي
هو أن الواقع الذي تعيشه الحوزة في بعض جوانبها يعيش حالة من الفقر
الثقافي، على الاقل في الوسط الذي عشت فيه شخصياً، فكان الاهتمام ينصب على
النصوص التراثية التي ندرسها ثم نقوم بتدريسها، وكان هناك على الدوام حاجة
ملحة الى التواصل مع المشهد الثقافي المحيط بنا، سواء كان المشهد الثقافي
العربي, أو المشهد الثقافي الايراني, فبدأت أفكر بضرورة التحديث، اي اعادة
بناء النظام التعليمي في الحوزة وضرورة الانفتاح على العصر، وقد ولدت مجلة
قضايا اسلامية معاصرة في فضاء هذا الهم. أي بعد ان ادركت متأخرا ان التحديث
ينبغي الا يقتصر على اعادة صياغة الكتب المتعارفة للدراسة، وانما ينبغي ان
يطاول بنية المعارف المدروسة في الحوزة العلمية، فيصار الى اعادة بناء
المعارف ذاتها، ذلك ان المشكلة ليس مشكلة صياغة واستبدال عبارة ملغزة
بعبارة واضحة، كما توهمت من قبل.
وقبل صدور مجلة قضايا اسلامية معاصرة
كانت هناك مجلة "قضايا اسلامية " وقد صدرت لمدة اربع سنوات (1994- 1998),
وكانت قضايا اسلامية حولية, ثم تحولت الى نصف سنوية, وكنت اصدرها بتمويل من
الصديق الاخ الشيخ مهدي العطار, ثم باشرت باصدار قضايا اسلامية معاصرة,
وقد أكملت المجلة عامها الثامن، واصدرت بجوار هذه المجلة سلسلة كتب بعنوان
"سلسلة كتاب قضايا اسلامية معاصرة" صدر منها حتى الآن ثمانون كتاباً, تعالج
نفس الاشكاليات التي تشتغل عليها المجلة. كما أصدرت سلسلة بعنوان «آفاق
التجديد» صدر منها خمسة كتب, طبعتها دار الفكر المعاصر في بيروت، كما أصدرت
سلسلة كتب مرجعية باسم "المشهد الثقافي في ايران" صدر منها كتابان
مرجعيان, الكتاب الاول بعنوان "فلسفة الفقه ومقاصد الشريعة", والكتاب
الثاني "علم الكلام الجديد وفلسفة الدين", والآن اصدرت سلسلة بعنوان «فلسفة
الدين والكلام الجديد» صدر منها عشرة كتب مرجعية متخصصة، واسعى لاستيعاب
مجموعة من الاسهامات والكتابات في هذه الموضوعات باللغة الفارسية مترجمة
الى العربية أو باللغة العربية, وكل هذه الاعمال الآن تصدر في اطار مركز
قمت بتأسيسه في بغداد وأطلقت عليه اسم "مركز دراسات فلسفة الدين", وسنعمل
على الانتقال بكل الاعمال الى بغداد انشاءالله، وسيعتبر المركز بمثابة مظلة
تستوعب هذه الجهود.
تاريخ الفكر الانساني هو تاريخ الاسئلة الكبرى
قضايا اسلامية معاصرة استطاعت ان تحدث حولها جدلاً واسعاً, بسبب طبيعة ما
تعالجه من ملفات ساخنه، ما هي ردود الأفعال التي واجهتكم في خلال مسيرة
المجلة؟
التحديات التي واجهتها المجلة متنوعة, وربما كان التحدي الاهم
بصراحة هو مشكلة الامكانات، لأنه وكما تعلم, فان العمل الاعلامي, وأي
مطبوعة سواءاً كانت مجلة أوصحيفة تحتاج الى: ميزانية, وهيئة تحرير, ومبنى,
وكل متطلبات العملية التحريرية، والمجلة تفتقر الى هذه المتطلبات، ولكني
كنت أكافح واجاهد باصرار على اصدار المجلة, لاعتقادي بأهمية وضرورة
استمرارها, حتى اضطررت قبل عدة سنوات الى بيع مكتبتي الشخصية, وهي مكتبة
تمثل حصيلة عمري, واستطعت ان اجمع فيها اكثر من 5000 كتاب، ولكني شعرت ان
المكتبة ممكن ان تعود, لكن استمرارقضايا اسلامية معاصرة في هذه الفترة اهم
من اقتناء المكتبة . لقد كان هذا التحدي من اقسى التحديات التي واجهتني,
ولكن بعد ان عُرفت المجلة اصبحت لها مبيعات جيدة في البلاد العربية، خصوصاً
بعد ان باتت تصدر في بيروت منذ سنوات صارت تغطي مقدارا جيدا من نفقاتها.
اما
التحدي الآخر فقد تمثل باعتراض بعض الناس الذين يحتمون بالتراث، فهم عادة
ما يستفزهم الصوت الجديد، الصوت الذي يدعو الى التحديث, لأن الناس بطبيعتهم
يألفون القديم ويهابون الماضي. خصوصاً اذا تعلقت مسألة التحديث بالفكر
الديني, لأن الفكر الديني فكر يمتزج بالمقدس, وبالتالي كأنك تطال المقدسات,
لذلك كان البعض يتحفظون على مثل هذا اللون من الخطاب، لكني بصراحة فوجئت
بأن جماعة من العلماء, الذين اكن لهم احتراماً كبيراً,كالمرحوم الشيخ محمد
مهدي شمس الدين, الذي كان يهاتفني باستمرار, ويثني على هذا الجهد, ويقول
"أنا اعتبر هذه المجلة اهم مجلة باللغة العربية في قضايا الفكر الاسلامي
المعاصر" وكذلك السيد محمد حسين فضل الله فإنه ايضاً يثني ثناءاً عاطراً
على هذا الجهد ويساهم بمشاركاته في المجلة باستمرار، وكذلك السيد محمد حسن
الامين, والسيد هاني فحص,كما أن هناك مجموعة من رجال دين وفقهاء معروفين في
الحوزة العلمية في قم وفي مواطن أخرى، يبادرون للكتابة في قضايا اسلامية
معاصرة ويحرصون على متابعتها, ويقولون لي ان هذه دورية مميزة لا نريدها ان
تتراجع او تتوقف, ويمكنكم مراجعة محتويات كل ملف من الملفات التي تنشرها
لتطالع المساهمات الكثيرة للفقهاء والباحثين في الحوزة العلمية، فلم يصدر
عدد من المجلة من دون مساهمات لكتاب من الحوزة العلمية.
وهذه من
الاشياء التي فاجئتني, لأن هذا الصوت ليس وتراً وانما هناك بعض الناس الذين
يعتبرون هذا الصوت معبراً عن تطلعاتهم ورؤاهم، خاصة وان المجلة حاولت ان
تهتم بنقل موضوعات جادة وحيوية تمثل تحولات الفكر الديني في ايران الى
القارئ العربي، واستطيع ان ازعم بأن القارىء في بلادنا يطلع على هذه
القضايا الاشكالية للمرة الاولى في قضايا اسلامية معاصرة.
وقد حاولت
المجلة ان تشتغل على ملفات ترتبط بتحديث العلوم الحوزوية, من قبيل:
الاتجاهات الجديدة في علم الكلام, ومقاصد الشريعة, وفلسفة الفقه,
والهرمنيوطيقا والتأويل، والتعددية الدينية، والتسامح ... وغير ذلك. واعتقد
أن هذه الدورية استطاعت أن تتجاوز هذا التحدي بنجاح, لأنها عبرت عن صوت
جماعة من المثقفين والباحثين وعلماء الدين وطلاب العلوم الاسلامية في
الحوزات العلمية الذين لم يكن لهم صوت في ما سبق, وتحولت قضايا اسلامية
معاصرة الى منبر ثقافي, يحكي تيارات تحديث المعرفة الدينية, مضافا الى انه
لا يتجاهل المواقف المناهضة , وانما يلاحقها ويعرف بها وينشرها, وبوسعك ان
تلاحظ ما ينشر من وجهات نظر متقابلة على صفحات المجلة في ابرز القضايا
المطروحة فيها.
التحدي الآخر هو التحدي الشخصي، وذلك ان المجلة تستنزف
اغلب جهدي ووقتي, باعتباري أباشر كل العمليات التحريرية, في ظل غياب هيئة
تحرير للمجلة، هذا في الوقت الذي لازلت فيه مدرساً في الحوزة العلمية.
والعملية التحريرية تحتاج الى جهد كبير, فعلى سبيل المثال انا الذي اعقد
الندوات للمجلة, وبعد ذلك اقوم بتفريغ اشرطة الكاسيت واحررها, كما اني اقوم
بوضع خطط الملفات, واجرى الاتصالات مع الكتاب, وانفذ الحوارات , وأترجم
بعض النصوص, واقوم بمراجعة ما يترجمه المترجمون، وبالتالي فالعمل يستنزف
مني جهداً مرهقا, خاصة وان المجلة فصلية, و تصدر في أكثر من 300 صفحة، هذا
هو التحدي الشخصي الذي اتعبني كثيراً, حتى انني فكرت اكثر من مرة بايقافها
لكي اتفرغ لأعمال كتابية أخرى.
ذكرتم موقفا ايجابيا ازاء خطاب
المجلة والملفات التي تشتغل عليها ابداه علماء من خارج ايران، ماذا عن
علماء ايران لاسيما ونحن نجد بعض الاسماء المرجعية التي تشارك في المجلة؟
المجلة خطاب موجه للقاريء العربي, فهي تصدر في بيروت، وتوزع في البلاد
العربية, وبالتالي فهي غير مقروءة في ايران، لأن ما يقرأ في ايران عادة ما
يكون مدونا باللغة الفارسية. اما رجال الدين الذين يكتبون فيها, أو تهتم
بنشر أعمالهم, وتجري معهم حوارات فموقفهم ايجابي.
وقضايا اسلامية معاصرة
لاتحاول ان تتبنى موقفاً وتعتبره هو الصواب، ذلك ان المجلة لاتقف مواقف
معيارية من الافكار, بمقدار ما تحاول ان تقدم للقارىء وجهات نظر متنوعة,
ولذلك فإن من التقاليد التي ترسخت فيها, منذ عددها الاول , هو انها تحاول
ان تنشر وجهات نظر مختلفة في باب في المجلة، يتكرر بعنوان "وجهان وقضية"
وهذا الباب ننشر فيه وجهات نظر متقابلة في قضية واحدة، وجهة نظر محافظة
ووجهة نظر اصلاحية، وجهة نظر تقليدية ووجهة نظر تحديثية, وجهة نظر تنتمي
الى التراث ووجهة نظر تنتمي الى العصر، وبالتالي فإن القارئ بنفسه هو الذي
يتخذ موقف. المجلة تعتقد ان من المهم فتح ثغرات، لاطلاق عملية التفكير،
واطلاق عملية التفكير لا تتم الا من خلال اثارة الاسئلة, لأن تاريخ الفكر
البشري هو تاريخ الاسئلة الكبرى.
علم الكلام الجديد في ايرن والعالم العربي
تيار علم الكلام الجديد اجتاح حيزاً من الفضاء الفكري في العالم العربي
بفضل الموجة التواصلية التي احدثتها "قضايا اسلامية معاصرة" مع المشهد
الثقافي الايراني.. ما هي مخاضات نشأة هذا العلم في الساحة الايرانية؟ ومن
هم أبرز ممثليه؟
أولاً: نشأة الكلام الجديد ليست ايرانية، حتى ان
مصطلح الكلام الجديد هو بالاصل ليس من المصطلحات التي نحتت في ايران. ذلك
ان اقدم الكتب في هذا الموضوع هو كتاب باسم «علم الكلام الجديد» ألفه
المفكر الهندي شبلي النعماني, وشبلي النعماني كان في بداية مساره يعمل مع
السير سيد أحمد خان، والأخير كان رمزا تحديثيا مهما في شبه القارة الهندية,
وبعد ذلك حصل افتراق بينهما, وكل واحد أخذ مسارا خاصاً به, فذهب شبلي
النعماني ليؤسس ندوة العلماء, فيما واصل سير سيد احمد خان مشواره, وسط ردود
افعال مناهضة لمساعيه ومشككة في أفكاره ومشاريعه.
فالتسمية اذن اطلقها
النعماني على كتابه في بداية القرن العشرين, وهذا الكتاب مترجم الى
الفارسية مبكراً, وان كانت الموضوعات التي يعالجها الكتاب بسيطة, ولكن في
الكتاب دعوة حثيثة لتنمية دائرة علم الكلام ليتسع لمباحث لم يعرفها من قبل,
واعادة بناء التراث الكلامي على مرتكزات بديلة. اضافة الى ذلك فإن اهم عمل
كتب برأيي في النصف الأول من القرن العشرين في علم الكلام الجديد وفلسفة
الدين هو كتاب "تجديد التفكير الديني في الاسلام" للمفكر المسلم محمد
اقبال, وهو كتاب في غاية الاهمية, ومع الأسف ان محمد اقبال غير مكتشف في
العالم العربي كمفكر بل هو معروف كشاعر, وهذا الكتاب ايضاً غير مكتشف,
بالرغم من أنه مؤلف قبل اكثر من سبعين سنة, وهو مترجم الى العربية
والفارسية وغيرهما من اللغات.
وهناك مساهمات متميزة في ما عرف بعلم
الكلام الجديد للسيد محمد باقر الصدر, وانا كتبت مدخلاً لكتاب "موجز في
اصول الدين" للشهيد الصدر في مئة صفحة, تحدثت فيه عن دوره في اعادة بناء
علم الكلام، صحيح انه لم يكن يعبر عنه بعلم الكلام الجديد، ولكنه قام بنفس
المهمة. وهناك ايضاً مساهمات اخرى في العالم العربي، كجهود الدكتور محمد
عبد الله دراز وغيره.
ما حصل في ايران هو أن تكوين المثقف الايراني
تكوين مزدوج في الغالب, تندمج فيه عناصر تراثية مع اطلاع جيد على العلوم
الانسانية الحديثة ، فقد توفرت نخبة من الباحثين والدارسين الايرانيين على
تأهيل أكاديمي في فلسفة العلم, وقضايا التأويل, والفلسفة الغربية الحديثة,
واطلعوا على العلوم الانسانية الحديثة في الغرب, واهتموا باللاهوت الاوروبي
الحديث, بل ان هناك من يلاحق اللاهوت في الهند واليابان والصين , وتطورت
الدراسات المقارنة للاديان, وتنامى الاهتمام بأديان آسيا.
ايضاً وجود
أرضية في ايران للدرس الفلسفي, ولدراسة العرفان النظري أو التصوف الفلسفي،
ويمكن القول ان الحاضرة الوحيدة في العالم الاسلامي التي تدرس التصوف
الفلسفي او العرفان النظري والفلسفة الاسلامية بالطريقة التقليدية هي
الحوزة العلمية في قم، والدارس فيها يبذل جهدا هائلا ولسنوات طويلة من عمره
في هذا المضمار.
هذا الواقع وفر مرجعية مركبة للباحث، من تراث ومعاصرة,
من عرفان نظري وفلسفة وكلام قديم ومعقول بشكل عام وعلوم انسانية حديثة،
وملاحقة لمقولات اللاهوت الحديث في الغرب, بدءاً من الحركة البروتستانتية
لمارتن لوثر, مروراً بشلاير ماخر ومجموعة من اللاهوتيين الغربيين في
القرنين الاخيرين حتى الآن. كل ذلك اوجد ارضية خصبة لولادة وتطور اللاهوت
الجديد في ايران, مما لا نعرف عنه الا القليل في العالم العربي, واحسب انه
سيفضي لتحولات عميقة في الفكر الديني, ستظهر آثارها في تفكيرنا بعد حين.
أما من هم الذين اشتغلوا على هذه الموضوعات من الايرانيين؟ ففي الحقيقة هناك أكثر من جيل:
الجيل
الاول الرائد فيه هو العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي صاحب تفسير
الميزان, وهو يعتبر استاذ الجيل, وبعض طلابه وعلى رأسهم الشيخ مرتضى
المطهري، وان كان اسهامه في هذا الحقل هو بمثابة عرض وتيسير, واعادة تنظيم
الافكار, وتعميقها, واعادة بناء البراهين الموروثة في علم الكلام والتراث
القديم من جديد, والاجابة من خلال هذه البراهين على الاسئلة والاستفهامات
والاشكالات الجديدة.
المهندس مهدي بازركان ايضاً كان لديه اسهام في هذا
الحقل, خصوصاً بما يتعلق بقضية جدل العلم والدين, والدكتور علي شريعتي لديه
جهود مميزة, بالذات فيما يتعلق بمقارنات الاديان, ومايعبر عنه بسوسيولوجيا
الدين, وانثربولوجيا الدين. اما الدكتور حسين نصر فإنه يسعى لتقديم الماضي
بقناع تحديثي, لذلك يحذر الانسان من شيوع الطابع العرفي اللاتقديسي في
دنيانا , ويدعو للاهتمام بالعلم المقدس, والمزاوجة بين المعرفة والامر
القدسي, ومن الواضح ان دعوته الى ما يسمى بالعلم المقدس يكتنفها الابهام,
ولا تخلو من هجاء, ونفي لكل ما هو غربي, وربما يتمدد فيها مدلول المقدس
فيستوعب التراث برمته, والتمثلات المتنوعة للاجتماع الاسلامي, وهو مدلول
يستقي مرجعياته من آثار المتصوفة والعرفاء, وشئ من نقد تيارات ما بعد
الحداثة للعقل والعقلانية في الغرب.
هذا هو الجيل السابق. وكل واحد من
هؤلاء لـه مساهمته الخاصة؛ فمساهمة حسين نصر غير مساهمة شريعتي, وهناك حالة
تقاطع بين مواقفهما الفكرية, فالاخير يعمل على انسنة الدين واكتشاف ابعاده
الاجتماعية, فيما يغوص حسين نصر في عوالم الباطن, ويحاول استكناه عوالم
السر والمعنى, في عالم مشبع بالمادة ويبحث عن المعنى.
الجيل الثاني من
المفكرين, وهؤلاء تجاوزوا المرحلة التي بدأها الرواد، وبعبارة اخرى فأن
هؤلاء مثلوا مرحلة مختلفة انتقلوا فيها من الايديولوجيا الى الابستمولوجيا,
وهذا ما نلاحظه بوضوح في طبيعة الجهود التي انجزها الدكتور علي شريعتي من
الجيل الاول مثلا مقارنة بالجيل الثاني, ذلك ان شريعتي كان داعية يحرص على
ترويج افكاره والتبشير بها وتثقيف الناس عليها, ويحرض الجماهير على النضال
والثورة, وبالتالي احداث تغيير جذري انقلابي طبقا لما يرنو اليه في المجتمع
, غير ان الدكتور عبدالكريم سروش او الاستاذ مصطفى ملكيان والشيخ محمد
مجتهد شبستري من هذا الجيل, يقاربون المسائل المدروسة من منظور مختلف, يحرص
على التحرر من النزعة الايديولوجية , ويقدم رؤى تفسيرية وصفية, هي اقرب
لمنظور الباحث الانثربولوجي والسسيولوجي وفيلسوف العلم وعالم النفس منه الى
الداعية والايديولوجي.
وقد تفشت افكار الجيل الجديد وسط النخبة في
الجامعات والحوزات العلمية, وتجاوبت معظم النخبة مع هذه الافكار, وهناك
دوريات باللغة الفارسية مهتمة بموضوعات فلسفة الدين والكلام الجديد.وهي
لاتكف عن التعبير عن الجدل المتواصل الذي يهيمن على الحياة الفكرية في
ايران, ,كما ان المراقب يشهد الحراك الفكري والذهني الواسع في هذا البلد,
وهذا الحراك يمثل ضرورة ملحة لولادة الافكار ونموها وتطورها وحياتها. لأن
من شروط حياة الفكر وتكامله أن يظل في عملية جدل وصيرورة مستمرة.
سلسلة كتاب قضايا اسلامية معاصرة، ماهي حدود تمثيلها لخط الحوار الاسلامي ـ
الاسلامي؟ ودرجة اسهامها في تقريب مساحات التلاقي والامتزاج بين تراث
الحوزة وبين الفكر الحديث والمعاصر؟
من أهم الموضوعات التي تتناولها
هذه السلسلة موضوعات تتصل بعلاقة الاسلام بالاخر, سواء كان الآخر داخلياً
أو خارجياً مختلفاً، يعني من قبيل: الاسلام والغرب, او الحوار الاسلامي
الاسلامي, كما تتناول اصلاح النظام التعليمي في الحوزة العلمية, والاتجاهات
الجديدة في علم الكلام, وقضايا التأويل, وفلسفة الدين, وفلسفة الفقه,
ومقاصد الشريعة, وغير ذلك, ولعل أهمية السلسلة تكمن في تنوع المساهمات
المنشورة فيها، بمعنى ان هناك وجهات نظر اصلاحية, ووجهات نظر محافظة, وهناك
مؤلفين من السنة, وهناك مؤلفين من الشيعة. السلسلة والمجلة تحاول ان تتسلح
بروح شفافة ومرنة, وتنفتح على الجميع, وتعتقد ان هذا الانتاج بمجمله هو
انتاج اسلامي, ويمثل وجهات نظر في فهم النص والتراث والواقع. ولا ازعم أن
كل ما صدر في السلسلة هو كتابات جادة ورصينة, فربما اخترقت السلسلة بعض
الكتابات "العادية"، لكن هناك بالتأكيد كتب جادة وفي غاية الاهمية. واتمنى
أن تكون السلسلة التي تعالج موضوعات فلسفة الدين والكلام الجديد اكثر جدية,
وأعمق وأبعد مدى في معالجاتها.
الاجيال العراقية التي نشأت في المهجر، ما هي أبرز ملامح شخصيتها الفكرية وتكوينها النفسي؟
المنفى العراقي منفى حديث، لأن الشخصية العراقية ليست من الشخصيات
المهاجرة، العراق من البلاد التي تستقطب الهجرات من الخارج تاريخيا, وكل
العراقيين الذين توطنوا العراق هم مهاجرون اليه من بلاد أخرى، السومريون
هاجروا من ديارهم الى العراق, واسسو اول واعرق حضارة في المنطقة، وهم الذين
علموا البشرية الكتابة والتدوين, ومن المعرف انه تواصل استخدام الخط
المسماري الذي ابتكروه اكثر من 3000 سنة في حوض بلاد الرافدين وبلاد الشام
وايران وشواطئ الخليج حتى حضارة دلمون في البحرين, كما أن الاكديين هاجرو
ايضاً الى العراق, وهاجر الاموريون من شواطئ الفرات العليا الى بابل, ثم
هاجر فيما بعد اقوام اخرون الى العراق، وحتى العرب هاجروا الى العراق من
الجزيرة العربية والبلاد المتاخمة للعراق.
وظل العراق يستوعب الهجرات
والطاقات والكفاءات, وفي العصر الاسلامي تحولت بغداد الى حاضرة ثقافية
وعلمية, والى مركز لاستقطاب أبرز رجال الفكر, من متكلمين ومفسرين وفقهاء
وعلماء وأدباء من مختلف انحاء البلاد الاسلامية لعدة قرون، وقد تشكلت نواة
غير واحدة من العلوم والمعارف في الحضارة الاسلامية في الكوفة والبصرة
وبغداد, بل انبثقت المدارس والمذاهب الشهيرة للكلام والفقه والتفسير والنحو
وعلوم اللغة العربية في تلك الحواضر, وهكذا انطلقت اعنف الثورات في
التاريخ الاسلامي في العراق. والعراقي معروف بأنه من الناس الذين يلتصقون
بالارض ولا يغادرون بلدهم, ولكن دموية وبشاعة وجور نظام صدام حسين فرض على
العراقي ان يتغرب ويتشرد.
نعم، هناك هجرة حصلت في العصر الملكي في
القرن العشرين, ولكن كانت هجرة محدودة جداً، فمثلا هاجر بعض السياسيين
الذين كانوا مطاردين، بعد سقوط النظام الملكي وظهور النظام الجمهوري, اذ
غادر العراق بعض الذين يعملون في البلاط الملكي أو في اجهزة الدولة، كما
هاجر بعض اصحاب رؤوس الاموال من رجال الاعمال, ولكنها كانت هجرة محدودة
وهامشية وفردية، أما في السبعينات والثمانينات والتسعينات من القرن العشرين
فاتسعت وتفاقمت الهجرة العراقية, وتحولت الى موجات، وربما لا تعثر على بلد
في العالم لا يعيش فيه مهاجرون عراقيون، فقد تشتت العراقيون في العالم.
وفي العقود الثلاثة من حكم البعث للعراق يمكن ان نرصد ملامح ثلاثة اجيال في المهجر:
الاول:
هو الجيل الذي نشأ وتربى وتعلم, وباشر تجربته الحياتية والثقافية
والسياسية في العراق, وهؤلاء ممن اكتمل بناءهم وتكوينهم في العراق، وهم
الآن في العقد السادس والسابع, وقليل منهم في العقد الثامن من عمره.
وهذا
الجيل لم يطرأ عليه تغيير حقيقي, يمثل حالة تحول وتبدل في فكره وشخصيته
وسلوكه. صحيح حصلت في المهجر خبرات اضافية, وفرص جديدة, ومتاعب من نوع
مختلف, وقد عمّق الاغتراب لديهم كثيراً من الشجون والهموم والآلام, ولكن لم
يحصل منعطف في مسار هذا الجيل, فبقى وفياً للمقولات التي تعلمها وتربى
عليها في العراق، هذا الجيل هو من أكثر الاجيال وفاءاً للماضي, ونجد
تمثيلاً لـه في الزعامات والكوادر الحركية والسياسية.
الثاني: هو الجيل
الذي بدأ تكوينه في العراق, وكان في مطلع العقد الثالث من العمر عندما اضطر
الى مغادرة العراق, وهؤلاء معظمهم من خريجي الجامعات واصحاب التأهيل
الاكاديمي, وقد اكتمل تكوينهم العلمي والثقافي والحركي والسياسي في المهجر.
وهذا
الجيل نشهد لديه جملة من التحولات والمنعطفات الحادة، فإن بعض هؤلاء كانوا
متعلمين ومن ذوي التأهيل الاكاديمي, وقد هاجر الكثير منهم الى سوريا
وايران, وانخرط بعضهم في الحوزة العلمية, في ما اتجه البعض الآخر الى العمل
في الحقل الثقافي والاعلامي، وقد تعرفوا على المشهد الثقافي العربي, لانهم
في العراق لم يكن بوسعهم ان يتواصلوا مع غيرهم بحرية, بسبب الحصار
الاعلامي الذي فرضه النظام. لقد توفر هذا الجيل على تأهيل ثقافي, والبعض
واصل دراساته الجامعية العليا, وحصلت تطورات هامة في تفكير هؤلاء، وغادر
البعض مقولات تربى عليها, وظل وفياً لها لزمن في العراق، كما غادر البعض
مواقعه الحركية والسياسية الى عالم آخر, ودخل في تجارب ذات آفاق وفضاءات
حرة ومفتوحة, لأنه توفر على فسحة أوسع من الحرية.
كما برز نزوع نقدي
عند الكتاب والمثقفين من هذا الجيل, فللمرة الاولى نعثر في كتاباتهم
واحاديثهم على محاولات جادة في نقد الحركة الاسلامية وادبياتها وتجربتها
وسلوك رموزها, ونقد النظام التعليمي في الحوزة العلمية, ونقد التراث
والماضي, ونقد الواقع...الخ.
ومما يميز النخبة في هذا الجيل ان طائفة
منها توافرت على تأهيل اكاديمي جيد وتعليم حوزوي جاد, وامست تفكر بمعزل عن
الدوائر التقليدية في التفكير الديني الحركي والحوزوي.
الثالث: هو الجيل
الذي ولد ونشأ في المهجر, وهذا الجيل يتسم بملامح تختلف كلياً عن الجيلين
الاول والثاني، فقد عانى مما يمكن أن اسميه بـ "تشظي وانشطار الهوية"،
خصوصاً من عاش منهم في البلاد غير العربية لم يتعلم اللغة العربية, وانما
اصبحت لغة الثقافة والتعليم والتخاطب لديه هي لغة البلد الحاضن لـه طوال
فترة المهجر، فالمقيمون في بريطانيا مثلاً تعلموا الانجليزية, ومن ولد في
ايران تعلم الفارسية, وبالتالي تراجعت اللغة العربية. واللغة تعتبر أحد
العناصر التي تشكل هوية الانسان, وتساهم في بناء وعيه واسلوب تفكيره، وكما
تقول النظريات اللسانية الحديثة: ان الانسان يفكر طبقاً للغة التي يتكلم
بها، وبالتالي تأثر هؤلاء باللغة التي اصبحت مهيمنة على وعيهم, فتمت صياغة
شخصيتهم طبقا للغة المنفى, وثقافته, والفضاء الاجتماعي الذي احتضنهم, وبذلك
انشطرت هويتهم, واضحت شخصيتهم مركبة من عناصر لا تنتمي الى موطن آبائهم في
معظمها. ولعل أزمة هذا الجيل هي من أعمق الازمات, لأنه لو عاد الى العراق
فربما يعيش مغتربا, غربة لغة, وغربة عادات وتقاليد, وغربة ثقافة, بفعل
تأثيرات المحيط الذي عاشوا وتربوا فيه لسنوات طويلة, وأصبحوا جزءاً من
عوالمه.
العراقيون في المهاجر.. عطاء ثقافي متواصل
كيف ترون دور
عراق المستقبل على المستوى الثقافي، وما هي بنظركم الآفاق المستقبلية
للثقافة العراقية بعد سقوط النظام العراقي الذي تحكم بمفاصل الحياة
السياسية والفكرية والثقافية؟
لا أريد أن أتحدث بمنطق ربما يشي
بمركزية عراقية، لكن أشير الى حقيقة تاريخية, وهو ان ما بين النهرين بلاد
فيها حيوية حضارية مميزة، وكل من يقرأ التاريخ سيجد هذه الحقيقة ماثلة
أمامه، حتى ان الحضارة الاسلامية تشكلت معظم فرقها الدينية ومذاهبها
وتياراتها السياسية وعلومها بين الكوفة والبصرة وبغداد، وأظن ان هذه الارض
مازالت محتفظة بحيويتها, ومازال العراق أرضاً ولودا, قادرة على الخلق
والعطاء بشكل مستمر.
ويمكن بملاحظة بسيطة ادراك ما قدمه العراقيون في
المهجر للعالم العربي والاسلامي، فمثلاً في دمشق تعتبر أبرز مؤسسة ثقافية
وأهم دار نشر هي "دار المدى" وهذه الدار التي اصدرت عشرات الكتب في مختلف
حقول المعرفة, تقوم باصدار مجلة "المدى" ومجلة "النهج"، هي دار عراقية, وقد
اطلقت قبل أكثر من عامين مشروعها الرائع "كتاب مع جريدة" وهو مشروع هام.
وفي بيروت,فإن اهم مركز دراسات هو مركز دراسات الوحدة العربية, وهذا المركز
لـه جهد بحثي وفكري جاد, لأنه استوعب قطاع واسع من النخبة العربية. ايضاً
من المشروعات الرائدة في العالم العربي والاسلامي "المعهد العالمي للفكر
الاسلامي" وهو مؤسسة بحثية وتعليمية في أمريكا، ونواة هذه المؤسسة مجموعة
من الباحثين ورجال الفكر, وعلى رأسهم الدكتور طه جابر العلواني وهو فقيه
وعالم معروف. والدكتور جمال البرزنجي, والدكتور هشام الطالب, والدكتور احمد
التتنجي,وهم بمجموعهم من العراق, مضافا الى اخوانهم من البلاد الاخرى.
كما
صدرت في المنفى العراقي عشرات الدوريات الثقافية والادبية والفنية, مثل
مجلة «الاغتراب الادبي» التي اصدرها الشاعر صلاح نيازي وزوجته القاصة سميرة
المانع في لندن, ومجلة «عيون» التي يصدرها الشاعر خالد المعالي في
المانيا, ومجلة « الواح» التي يصدرها القاص محسن الرملي في اسبانيا, ومجلة
«القصب» التي يصدرها الشاعر مدين الموسوي في بيروت, ومجلة «دراسات عراقية»
التي يصدرها عادل رؤؤف بدمشق, ومجلة «الموسم» التي يصدرها محمد سعيد
الطريحي في هولنده, ومجلة «الفكر الجديد» التي اصدرها السيد حسين الشامي
وسليم الحسني في لندن, ومجلة «دراسات شرقية» التي اصدرها الدكتور قيس جواد
العزاوي في باريس, ومجلة «المنتقى» و«ينابيع الحكمة» للدكتور عادل عبد
المهدي في باريس ... وغيرها .
فالدور العراقي ثقافياً دور مميز، بالرغم
من أن العراقيين مشردين, ويعيشون في ظروف صعبة, ويعملون في حالة طوارئ,
واتوقع ان هذا الانسان عندما يعود الى بلده سيكون أداءه أمثل وأفضل، وأظن
ان هامش الحرية الذي أتيح الآن في العراق, والذي نأمل أن يتعزز ويترسخ
سيلعب دوراً كبيراً في تنمية الفكر والابداع.
يلحظ كثرة المؤسسات
الثقافية ومراكز الابحاث العراقية التي تنهض على جهود فردية، ولعل هناك
أمثلة عديدة كما ذكرتم قبل قليل.. ما هي برأيكم اسباب "وفرة المشاريع
الفردية" العراقية وتبعثرها؟
الانسان العراقي انسان يحترق من الداخل،
والتشرد والاغتراب كان يمثل تحدياً هائلاً للشخصية العراقية, وكان العراقي
دائماً بحاجة الى ان يؤكد ذاته, ويحمي نفسه من الانهيار والانسحاق امام
تحديات المنفى القاسية, واعتقد ان هذه المشاريع والمكاسب الثقافية هي تعبير
عن تأكيد الذات في عالم تعرض فيه العراقي للتهميش والاقصاء والطرد, حتى من
اقرب المقربين.
العراقي عندما هاجر الى بعض البلاد التي كان يعتقد أنها
ستأويه وتنصره وتحتضنه, تعرض فيها الى شئ من الحيف والاضطهاد والاهمال،
وقد جرد العراقي من بعض حقوقه الانسانية, من هنا يغدو ابداعه ترجمة
واستجابة للتحديات التي واجهها في تشرده.
اما لماذا هي مشاريع فردية؟
فأعتقد أن الهجرة كانت كشظايا تشتت في الآفاق, وبالتالي توزع العراقيون في
مختلف البلاد, ولم يكن بوسعهم أن يأتلفوا ويشكلوا لهم مؤسسات. لاسيما وأن
المؤسسات تحتاج الى رأسمال, وكل مستلزمات العمل التحريري المطبوع، وهذه
حالة تمثل استحقاقا طبيعيا للمنفى كمايبدو. وقد يكون المزاج الشرقي الفردي
احد البواعث الخفية لنجاح المشاريع والجهود الفردية, واخفاق غير واحدة من
التجارب الجماعية المشتركة.
الترجمة من الفارسية الى العربية ـ
الذين تمثلون أنتم أبرز وجوهها ـ تبدو غير منظمة، فهناك تراث فكري مهمل
يحتاج الى ترجمة والتعريف به في العالم العربي، في ما يتم اعادة تكرار
ترجمة أعمال بعينها.. ما هي اسباب هذه الحالة؟
الترجمة التي حصلت عن الفارسية تحكمت فيها عدة اعتبارات:
1ـــ
الاعتبار الاول اعتبار اقتصادي، لأن الذي يُترجَم في الاساس هو الاسم
اولاً ثم الكتاب، ولهذا فإن اكثر الاعمال التي تُرجِمت هي لاسماء تجد لها
سوقاً مربحة في العالم العربي, ولذلك يحرص الناشر على اقتراح اسماً لكاتب
معين على المترجم، ودافع العملية اساساً دافع تجاري.
2ـــ الاعتبار
الثاني اعتبار ثقافي, مرتبط بالتكوين الثقافي للمترجم نفسه، فأحياناً يقترح
المترجم على الناشر ترجمة كتاب معين, وهو الكتاب الذي ينسجم مع اهتماماته
وتوجهه الثقافي، ومعظم المترجمين من طلاب الحوزات العلمية, أو من ذوي
التكوين الحوزوي في تعليمهم, وهم يرون أن بعض النصوص في الفلسفة الاسلامية
مثلاً هي نصوص من الضروري ان تنقل للعربية, لشعورهم بحاجتهم الشخصية لمثل
هذه النصوص في دراستهم.
3ـــ الاعتبار الثالث هو الجو الدعائي الذي حصل
لبعض رجال الدين من قبل أجهزة الاعلام, وكان لـه أثركبير في التأكيد على
بعض الشخصيات وبعض الاعمال دون غيرها. ولكن في الغالب فإن معظم النصوص التي
ترجمت من الفارسية هي نصوص لاتمثل الكتب الاساسية في الفكر الديني في
ايران, باستثناء كتب العلامة الطباطبائي, وبعض كتابات تلميذه الشيخ
المطهري، اذ ان هناك تحولات عميقة في الفكر الديني في ايران لم يطلع عليها
القارىء العربي, ونحن نترجم عادة في مجلة قضايا اسلامية معاصرة بعض النصوص,
وقمنا بنشر بعض الاعمال ضمن سلسلة كتاب قضايا اسلامية معاصرة, ونعتزم
اصدار بعض الكتب الاساسية في موضوعات فلسفة الدين والكلام الجديد في
سلسلة«فلسفة الدين والكلام الجديد». وعملت مع الاخ حيدر نجف على ترجمة كتاب
للصديق الاستاذ مصطفى ملكيان, وهو كتاب هام يقع في أكثر من 700 صفحة, وقد
فرغنا من ترجمته, وهو عبارة عن مقاربات في فلسفة الدين والكلام الجديد.كتب
لـه المؤلف مقدمة خاصة للطبعة العربية, واتفقنا مع الأخ ملكبان على انتخاب
عنوان «العقلانية والمعنوية: مقاربات في فلسفة الدين » للكتاب.
كواحد من ابرز المشتغلين في مضمار الترجمة العربية من الفارسية، من الاسماء
التي تجدون في ترجماتها العربية عن الفارسية أداءاً أميناً ومتميزاً في
اعمالها المترجمة؟
الترجمات التي نهض بها بعض المترجمين المصريين قبل
خمسين سنة, مثل ترجمات الدكتور يحيى الخشاب, وهو ممن اهتموا بالنصوص
الادبية الفارسية، كذلك ترجمات الدكتور ابراهيم الدسوقي شتا, والاخوين سرمد
الطائي, وحيدر نجف, اللذين عملا على ترجمة بعض النصوص من الفكر الديني
الجديد, هي ترجمات جيدة, وتنطوي على خبرة ودراية بالنص, تعبرعن قدر ممتاز
من الامانة ووضوح الصياغة.
السبت سبتمبر 29, 2012 12:53 pm من طرف بن عبد الله