بين الخيال والحقيقة
على جسر الزمن جاء يصفى النفس من كدرها، ويريح العقل
المكدود، يقضى فسحة من الوقت يسرقها من الأيام بين الهواء الطلق والماء، وصخب هذه الأعداد الغفيرة من المصطافين التي أتت مثله، تمرح نهارا وتقضى بعض من الوقت ليلا
على شط البحر، وها هو يجلس وحده من ساعة أو أكثر، حتى تخطي الوقت منتصف الليل، لم يذل في جلسة هذه يمعن النظر للقمر الساطع، وهو يختفي خلف السحب الشهباء، ثم يعود ويسطع نوره على سطح الماء، فيتلألأ زبد الموج الهادر في ألمد والجزر.
لم يعبأ بهذه الأعداد القليل من النفر الذين يتفرقون على طول الشط وعرضه، منهم من يجلس إلي طاولة ومنهم من يزرع الشط ذهابا وإيابا مثنى وإفرادا، فهم ليسوا كرواد الشط نهارا تلهيهم السباحة والماء ويكثر صخبهم، هذا العدد القليل لم يكون عائق يعوقه بجلسة الوحيدة هذه، حيث أن الجميع حديثهم همس وضحكاتهم أكثرها ابتسامات.
لم يبرح مكانه ولا حرك ساكنا، من لحظة أتي يحمل الكرسي
الذي يجلس عليه في هدوء وسكينة، وكأنه تمثال من حجر رابض في صمت وسكون يبدوان على ملامحه، أما داخله فيجيش بالمشاعر ويفيض بالأحاسيس، لتلك التي ملكت قلبه وعقله ولا يرى إلا هي، من يوم أن جاء إلي هنا وهى معه بداخلة بين حنايا صدره، فنهارا يرى صورتها تداعب خياله ويضيع صوتها بين صخب المصطافين، وليلا تبدوا صورتها لعينيه ويسمع صوتها يخاطب أذنيه، يسمعها حقا كأنها قريبة منه وليست بعيده هناك بقلب مدينتهم، التي تقبع بين باقي المدن المصرية علها تهنأ بحبه، الذي يتدفق كهذه الأمواج الهادرة، والقلب الذي يدق صدره ويهبها دقاته، وصوته الخفي الذي لم يكف عن النداء عليها، عندما يجلس هنا كل ليلة، يردد اسمها يناجيها ويغازل صورتها هناك مع القمر، خلف السحب الشهباء وحين ينزل بعينيه على صفحة البحر، يراها تأتى من قلب البحر كأنها عروسه، يحملها الموج إلي الشط ثم يعود بها إلي حيث كانت.
نعم يراها وهى تلوح له بيديها النحلتين، ويرفرف قلبه مع
شعرها الهفهاف في الهواء، الذي تزداد قوته وسرعته كلما أوغل الليل.
يهمس لنفسه.
ــ أوه أين أنتي !!! اسمع صوتك وأرى صورتك مطبوعة بعيني !!!! وأحس بنبض قلبك قريب منى !!! ولكن أين أنتي؟؟؟
يتجه صوب القمر يناجيه ويناجيها معه، وهى تبتسم هناك بالقرب منه،
يغمض عينه ويتنفس بعمق.
يسمع بعض المهمهمات تخاطبا قلبه قبل سمعه.
ــ أنا هنا قريبة منك وأراك.
ينتبه من شروده يتمتم.
ــ من هذه ؟!.
بالقرب منه فتاة وفتي يلهوان على الشط يتسابقان، صوتيهما
يصل إليه جيدا، وجلجلة ضحكاتهما تلامس شغاف قلبه، يبتعدان وعينيه تلاحقيهما، ثم يعودان إلي هذه المنضدة التي تبعد عنه لبضعة أمتار، يجلسان مع المجتمعين عليها عدد لا بأس به راح يتفحصهم جيدا، لم يستطع تمييزهم حيث أن الأنوار تأتيهم من بعيد، وتهبط عليهم من الخلف، تأملهم طويلا لم يتمكن من أن يحدد ملامحهم، يحول عينيه صوب البحر ثانيتا.
وتعود صورتها تارة أخري تحلق في الفضاء الرحب، تلوح
له بيدها ويجلجل صوتها من بعيد، تناديه وتدعوه أن يلحق بها إلي هناك، بجوار القمر فيترك صورتها حيث هي، ويذهب بخياله إلي حيث يظن أنها هناك بمدينتهم، يري بيتها تضيئه الأنوار ولكن صوتها ليس هناك. يهمس.
ــ إذاً أين هي؟ّ!.
يعود للبحر والقمر فيسمع ضحكاتها تلامس أذنيه
إنها ليست بعيد، ولكن من هي بين هؤلاء الفتيات القلائل، الذين يتناثرون قريبا وبعيدا على هذا الشط، ويجبونه ذهابا وإيابا يضحكن ويثرثرن، راح يلهي النفس للحظات معهن، فيسمع رنين أصوات بالقرب منه فتاتان تقول الأولي للثانية.
ــ إنه وحيد !
وترد عليها الثانية
ــ ربما تكون هناك من تداعبه في صمته هذا وسكونه.
يبتعدان عنه رويدا ويصل إليه صوت إحداهن تقول برفق.
ــ قد أكون أنا التي تداعبك في الخيال.
وتبتسم في خجل ثم ترسل إليه ضحكاتها وتذهب.
يحتويه الصمت والشرود تارة أخرى، ويرتفع صوت الموج
فوق كل الأصوات، ويمر من أمامه الشباب والشابات فيظن أنهم أشباح، تبدوا له في الظلام وتختفي هناك خلف الأنوار الخافتة، التي تسقط على الشط من بعيد، يتنفس بعمق يدقق النظر إلي البحر والأمواج، ثم يتوه عند هذا القمر والسحب الشهباء، وتعجب من سرعتها ومرورها بسهولة ويسر وبدون جهد أو عناء، النفس تشفي مما بها بين هذه الطبيعة الساحرة، أما العقل والقلب فما زال يبحثان عن تلك الفتاة التي تبدو له وتغيب، وهو حائر بين أن تكون هناك بمدينتهم، أو هنا إلي جواره بين هؤلاء الفتية.
غرق في البحر والموج الذي يقترب من الشط ويذهب لبعيد، وهو
يتبعه لم يرفع عينيه عنه تاه فيهما، وفي القمر والسحب الشهباء
لم يفق مما فيه، وإذا به يرى فتاة تأتى من صوب
البحر، تقترب منه على استحياء، تقف أمامه تنظر إليه، ذهب عقله
إنها هي الوجه وجهها والقد قدها، هب واقفا من على كرسيه لم
يرفع عينه عنها.
مدة إليه يدها أخذها بين يده، استدفأ جسده الذي رطبه هواء البحر من دفيء يديها.
همست برقة ودلال والابتسامة لم تفارقها.
ــ نعم أنا هي التي تخاطبها بينك وبين نفسك، وتنادى عليها وتردد أسمها من لحظة أن جئِت إلي هنا.
تأمل ملامحها وتفحصها جيدا وهمس لنفسه.
ــ نفس الوجه ونفس الجسم!!.. والصوت صوتها!!.
بذهول يسحب يده من يدها برفق ويطبق كرسيه، ويحمله بهدوء ويدعها مكانها بدون كلمة واحدة، ويمضى بخطوات بطيئة متكاسلة، وهو يلتفت نحوها في كل خطوة يخطوها ويحدث نفسه.
ــ هل هي حقً ؟!.. أم أنه خيال؟.. وإن كانت هي كيف علمت مكاني؟.. ومن الذي أدراها بوجودي هنا؟.
ــ و....................................
ــ أيكون الذي رائية حقيقةً ؟! ... أم أنه خيال؟! ... وهل يصير الخيال حقيقة؟!..أم أنه حقيقة وحسبته خيال؟؟!.
ــ و............................................
ــ ربما.....!!!!!
يقف يلتفت ناحيتها ويدقق بهدوء وروية إنها مازالت هناك تقف وحدها.
ثم يهمس ويكرر.
ــ ربما ............
الجمعة يناير 15, 2010 4:48 am من طرف سميح القاسم