17 ديسمبر 2014 بقلم
مجموعة باحثين قسم:
تحميل الملف حجم الخط
-18
+ للنشر: من البيّن بذاته أنّ الإنسان كائن يحيا في الزمن وعبر الزمن، وهو ما يجعل منه كائناً تاريخياً بامتياز. فبينما تلتصق سائر الكائنات بالطبيعة عاجزة عن الانفصال عنها، يضع هو مسافة بينه وبينها، تتيح له التفكر في شرطه الوجودي، وإدراك الصيرورة التاريخية التي ينخرط فيها، فاعلاً في مجرياتها ومتأثراً بوقائعها التي تشرط وجوده وتمنحه كامل دلالته. وقد أدى الوعي بأهمية التاريخ إلى اعتباره من أخص خصائص الإنسان وأكثرها تعبيراً عن كينونته، حتى إنّ المؤرخ المغربي محمد بن أحمد الكنسوسي لم يتردد في القول بأنّ: "من أنكر فضيلة التاريخ فقد تباعد في الجهالة وتوغّل، حتى تحمّر بعد الإنسانية وتبغّل".
إنّ من يدقق النظر في مفهوم التاريخ لا يلبث أن يتبين أنّ اللغات الأجنبية تُميّز فيه بين دلالتين: التاريخ كونه وقائع ماضية، والتاريخ بوصفه معرفة بهذه الوقائع وتقنيات محكمة لروايتها. ترتبط ازدواجية المعنى هذه بسؤال الحقيقة على مستوى المعرفة التاريخية من ناحية، وعلى صعيد الممارسة التاريخية من ناحية أخرى. إذ يهمنا التاريخ الذي يجتهد المؤرخ في كشف حقيقته عبر فهم "موضوعي" لأحداثه ووقائعه، كما يهمنا بالقدر نفسه التاريخ الذي نحن بصدد صنعه وتسريع وتيرته. يحيل سؤال التاريخ والحقيقة إذن على الفاعلية التاريخية من جهة علاقتها بالكتابة التاريخية، وما تطرحه من إشكالات إبستمولوجية، كما يحيل على البعد الإتيقي ـ السياسي الحاضر بقوة في العلاقات الإنسانية. فهل بالوسع فهم تاريخ ما مضى انطلاقاً من التاريخ الحي الذي نحن بصدد صنعه؟ وتحت أية ظروف يمكن الوصول إلى المعقولية التاريخية؟ بل ما معنى المعقولية التي هي قوام التاريخ؟ أو ما العقل في التاريخ إذا ما استعرنا عبارات هيجل؟ وقبل هذا وبعده، هل التاريخ مجرد فن يكتفي بالسرد القصصي للأحداث الماضية أم أنه علم قائم بذاته له طرائقه الدقيقة ومناهجه المضبوطة؟ هل بمقدور التاريخ الذي لا يمكن أن ندركه إلا من خلال حاضر الماضي، حسب تعبير أوغسطين، أي عبر آثار الماضي وقد صارت وثائق وشواهد، هل بمقدوره أن ينشئ معرفة موسومة بالموضوعية والنزاهة على غرار ما تحقق في علوم الطبيعة؟ ألا ينبغي أن تؤدي المعرفة بخصوصية التاريخ واشتباك الذات فيه بالموضوع وتداخل الحاضر بالماضي وحضور الهواجس الأيديولوجية إلى التخلي عن وهم الموضوعية الخالصة والاكتفاء بالبحث عن ذاتية جيّدة؟
وإذا كانت الكتابة التاريخية في مختلف تلاوينها تتوسل، أثناء سردها للوقائع الماضية، بموارد القصة الخيالية؛ إذ تضع التاريخ في صورة حكاية حيّة تعتمد الحبكة وتخلق الاستمرارية بين آثار متقطعة من الماضي، وتضع في مقدمة الأحداث فاعلين محتملين: الشعب، الطبقة، الأمة، البطل..إلخ..، فإنّ هذا يدفعنا إلى التساؤل هل يندرج القول التاريخي في جنس الأقاويل التخييلية؟ هل ينتج عن كونه مخيلاً أن لا يكون صادقاً بحيث يعجز عن التمثيل الدقيق للماضي؟ أيجوز لنا القول إنّ التاريخ عبارة عن نص بحاجة إلى تأويل؟ وإذا كان التأويل بحسب نيتشه تعبيراً عن إرادة قوة، أفلا يغدو التاريخ صراع تأويلات وقراءات لا ينضب معينها؟ ألا ينأى التاريخ على هذا النحو عن هاجس التدوين وتوثيق حوادث الماضي ليصبح فناً يصنع الحياة باعتبارها غاية الحقيقة ومبتغاها؟
تطرح علاقة التاريخ بالحقيقة، من ناحية أخرى، أسئلة مركبة تتعلق بمجرياته ووجهته ومعناه. هل للتاريخ منطق يحكم تعاقب أحداثه ووقائعه؟ إذا كان تغير الأحوال حقيقة لا مجال للشك فيها، فإن السؤال الذي يقفز إلى الذهن هو : كيف يقع هذا التغير ؟ وهل له وجهة وغاية؟ هل يخضع لقوانين ثابتة تماثل قوانين الطبيعة؟ هل الأحداث في تعاقبها تنمو في خط صاعد متصل أم أنها تسلك طرقاً ملتوية وتعتمد الفصل أكثر مما تستند على الوصل؟ هل يمكن إدراك التاريخ في مجموعه ضمن إطار الرؤية النسقية التي نلفيها عند فلاسفة التاريخ؟ كيف لهذا المجموع أن يتأسس وينشأ في العقل الفردي للفيلسوف أو المؤرخ؟ كيف يتسنى للفرد أن يتجاوز حدوده ليستطيع تمثل الكلي في إطلاقيته؟ أليس التاريخ سلسلة من المصادفات والوقائع المعزولة التي تخضع للجواز لا للضرورة؟