رأسمالية الدولة بين الدعاية والحقيقة..
8 جانفي 2009
منذ إنطلاق الأزمة المالية في موفى أوت
2008، وما رافقها من حالة رعب لدى الأوساط المالية والحكومات الغربية لما
جلبته من مخاطر جمة على مصالحها وإقتصادياتها الغارقة في الليبرالية
ّ،تطالعنا الأخبار والتقارير الإعلامية عن خطط "إنقاذ مالي" للحيلولة دون
وقوع "الكارثة" الكبرى والتي ستنعكس بالضرورة على "أمن" و"إستقرار" النظام
العالمي أمام الشعوب التي ستكون المتضرر الوحيد والأوحد من عجرفة السياسة
النيوليبرالية ومضاعفاتها من إستغلال وبطالة مزمنة.
و ما يدفعنا للحديث عن هذه "الأزمة "
وإستتباعاتها ما يروج في الإعلام بمختلف تركيباته من كون التدخل المباشر
للحكومات في محاولة لإنقاذ الشركات الكبرى عبر شراء أصولها أو خفض من قيمة
الفائدة من قبل البنوك المركزية، يمكن أن يصنف في خانة "التأميم"
(Nationalisation) للقطاع الخاص وعلى رأسه القطاع المصرفي مما يعني
"تلطيفا" لوحشية السياسات الرأسمالية المتبعة منذ عقود، ومن ثم اللجوء
للدور "الإجتماعي" أي "التعديلي" (régulateur) للدولة عبر مراقبة السوق
والسيطرة ولو نسبيا على المفاصل الأساسية في الإقتصاد على غرار السياسة
الإقتصادية المطبقة في السبعينات.
والمثير في التصريحات الإعلامية هو ما
يتردد من توصيف لما ينتج عن الخطوات العملية للحكومات الغربية والمؤتمرات
الدولية والإقليمية، من توصيات للجوء إلى سياسة إقتصادية مبنية على
"رأسمالية الدولة" كمخرج أكيد من الّأزمة، وكي لا يقع الإقتصاد العالمي
الرأسمالي في حالة "ركود".
و تتم الدعاية لهذا المنهج الإقتصادي من
العديد من الساسة والإقتصاديين، ليبراليين كانوا أومن المحسوبين على
اليسار الماركسي بثورييه وإصلاحييه. وفي ما يبدو بأن الدعاية البورجوازية
لمفهوم"رأسمالية الدولة" يتخذ بعدا "وقائيا" للمحافظة على مكتسبات المنظومة
الرأسمالية دون التخلي عن جوهر الإستغلال الطبقي، فإن منطلقات الماركسيين
تنبع من حتمية الفشل للمنظومة الليبرالية المتوحشة وإنتصار الحل الإشتراكي.
وإعتبارا لما شهده الفكر الماركسي من
تحليلات وتفسيرات أدى للتعدد في الرؤى والبدائل، فإن مفهوم "رأسمالية
الدولة" يمكن ان يتنزل في الكثير من التأويلات والتنظيرات، وما يهمنا نحن
اليوم هو ما يمكن ان يجلبه هذا المفهوم من مكاسب لصالح العمال والفلاحين
والمهمشين ويمهد للقضاء على الإستغلال الطبقي.
إن بداية "الأزمة المالية" قد إنطلقت
بأزمة ما يدعى "الرهن العقاري" في الولايات المتحدة الامريكية لتمتد
وبسرعة فائقة للجهاز المصرفي مما إظطر العديد من البنوك الضخمة ذات التاريخ
الطويل لإعلان إفلاسها، وتعمقت الأزمة التي أضحت ككرة الثلج عندما لامست
قلب الإقتصاد المالي في البورصات العالمية لتنتهي – وهو شيء حتمي - على
حدود الإقتصاد "الحقيقي" ممّا أجبر العديد من الإحتكارات والشركات الكبرى
للتعبير عن حاجتها الماسة لتدخل الدولة عبر ضخ السيولة الكافية من المدخرات
المالية، وعن خطط إصلاح هيكلية مبنية على تسريح آلاف الموظفين والاستغناء
عن وحدات إنتاج بأكملها مما يعني البطالة والتشرد.
وبهذا تكون الأزمة المالية قد عبرت بدقة
عن جوهرها الطبقي عبر تحميل الشعوب الكادحة نتائج الإنهيار السريع لمنظومة
نيوليبرالية إنبنت عن إستغلال فاحش لثروات الشعوب وقوة عملهم، ومن ثم طردهم
من وظائفهم، والإستفادة من مدخرات الدولة التى هي في النهاية مدخراتهم.و
من جهة أخرى فحالة الفزع التى شملت العالم قد كشفت عن تبعيٌة إقتصاديات
الدول النامية للمراكز الليبرالية إلى درجة وأن المضاربات المالية في "وويل
ستريت" تنعكس بصورة مباشرة على فقدان الآلاف من الوظائف في"تايلندا".
وليس بالغريب أن تولد الأزمة في قلب
أمريكا بما هي تعبير مكثف عن وحشية السياسات النيوليبرالية وبربريتها,
والحامي "الشرس" عن مصالح فئة من المستثريين أصحاب الإحتكارات الكبرى
والفالتة من كل رقابة وتوجيه عملا بمقولة "السوق يراقب نفسه بعيد عن أي
وصاية", بل أكثر من ذلك فقد أضحت الحكومات مجرد خدم لها, موظفة كل إمكانيات
الدول التشريعية والعسكرية لحمايتهم على حساب المستضعفين والمفقرين
والشعوب المغلوبة عن أمرها.
و ربما ساهمت هذه الإنطلاقة في نزع ورقة
التوت عن عديد البورجوازيات الغربية الحاكمة التي كثيرا ما حاولت إظهار
حكمتها في إدارة شأنها الإقتصادي والإجتماعي مدعية الإستقلالية في"قرارها
الوطني", وتمظهرت بذلك أنماط التبعية لأمريكا رغم أنها سارعت لعقد
المؤتمرات والمجالس وإطلاق صرخات الإستغاثة لتبرير عمليات "الإنقاذ" على
حساب مدخرات الشعوب (فرنسا – ألمانيا...) تحت شعار"رأسمالية الدولة".
إن النيوليبرالية ومن ورائها المنظرين
البرجوازيين يحثون الحكومات على الإستفادة من الثروات التي راكمها العمٌال
والفلاحون بقوة عملهم وإنقاذ مصالح الإحتكارات الكبرى وتعويض ذلك بالرفع في
الضريبة والجباية. وهو ما يمكن الجميع من تفادي"الكارثة الكبرى", لكن
دعايتهم الممزوجة بالخبث تجانب الحقيقة في أن "الإنقاذ" للمصارف والمراكز
المالية سيكون مرٌة أخرى على حساب المجالات الحياتية للمواطنين من صحة
وتعليم وسكن ونقل بعد أن تمٌ التفريط فيها وأصبحت مجالا لجشع البرجوازية
وفسادها ومضاربات السماسرة.
هكذا يقدمون "رأسمالية الدولة" على عكس ما
يطمح له الماركسيين, فقبل كل شيء يكن جوهر الحل في التدقيق في جوهر
المشكل. حيث أن الدولة بما هي جهاز مؤسساتي قد فضح لينين طابعها الطبقي
قائلا " الدولة جهاز ذا محتوى طبقي" أي جهاز في خدمة طبقة على حساب طبقة،
وهو ما نعانيه في الواقع في ظل الحكومات التي توظف ماكينة الدولة
التشريعيٌة والقضائية والتنفيذية في خدمة البورجوازية، تدافع عن مصالحها،
وبقائها مرتهن ببقائها، مهما كان نمطها سواء بورجوازيات ديمقراطية أو أنظمة
شمولية وديكتاتورية ملكية كانت أو عسكرية.
و هذا ما يدفعنا لتنبيه المتشيعين للفكر
الماركسي اللينيني حول عدم الوقوع في فخ الدعاية لما يروج حول تطبيق نظام
"رأسمالية الدولة " ، وما يجلبه من رخاء بإعتبار أن هذه الإدعات مخالفة لما
تطمح له الإنسانية في طريق تحررها من الإستبداد والإستغلال.
فالوهم بأن خطط "الإنقاذ المالي" تشكل
إنتصارا للفكر الإشتراكي، لا يمكن إلا ان يسقطنا في العبثية والدعاية
للحلول البورجوازية والتي لا تلامس جذور الرأسمالية في جوهرها الطبقي ما
دامت جهاز الدولة بعيد عن أيدي العمال والفلاحين، على عكس ما سجله التاريخ
للحزب البلشفي في روسيا بقيادة لينين وستالين والتي أضحت فيه الدولة بيد
البروليتاريا الثوريٌة عبر تجسد شعار "رأسمالية الدولة" كخطوة ضرورية في
إتجاه بناء المجتمع الإشتراكي، فحين تكون الدولة بقيادة ديكتاتورية
البروليتاريا لا تعود رأسمالية، بل تضحي إشتراكية، وقد عبّر لينين عن ذلك
بالقول : "الإشتراكية ليست إلا إحتكارا رأسماليا يعود للدولة ويخدم مصلحة
الشعب، وهو بذلك يكف على أن يكون إحتكارا". ذلك أن "رأسمالية الدولة" تعبر
عن إحتكار الدولة لوسائل الإنتاج بما يعني القضاء على الملكيٌة الخاصة و
الإستغلال، فعوض أن يعود فائض القيمة الذي ينتجه العمٌال لصالح أفراد، فإنه
يراكم لدى دولة البروليتاريا، ليتم بعد ذلك توجيهه في طريق البناء
الإشتراكي وما ينجرّ عنه من توزيع عادل للثروات يتمظهر في التعليم الشعبي
والسكن اللائق والصحة والنقل، لذا تصبح "رأسمالية الدولة" منظومة
إقتصاديٌة إجتماعيٌة ولكن "دون رأسماليين" حسب تعبير لينين.
ويكمن التباعد أيضا بين أنصار الماركسيٌة
من جهة وبين من يدافع عن رأسمالية الدولة في ظل ساركوزي وبوش وغيرهما من
البرجوازيات الغربية في كون أن هذه المرحلة تعدٌ وسطى بين الرأسمالية
والإشتراكية لدى أنصار الماركسية، في حين يعمد منظروا البرجوازية لهذا
التشكل الإقتصادي عبر تشويهه لإنقاذ الرأسمالية من أزمتها الدورية
والإبتعاد بها عن الإنهيار الحتمي وتحميل أغلب الشعوب نتائج تهورهم وجشعهم.
وهم بذلك يغلفون أحاديثهم بمكاسب الرأسمالية للإنسانية والتي لا يمكن أن
تدك بشكل مطلق وهم بذلك يتجاهلون أهمية "الصراع الطبقي" المحرك الحقيقي
للتاريخ.
إن التناقض الرئيسي لدى أغلب البورجوازيات
الديمقراطية يكمن بين البروليتاريا والفلاحين والمهمشين من جهة وبين
البورجوازية المستثرية. و يحتد هذا التناقض يوما بعد يوم للتسارع في نسق
الإستغلال الطبقي ولا يمكن بأي حال الحديث على أن الحكومات في الغرب
"الديمقراطي " ستضح مصالحها بأيدي العمال والفلاحين والمفقرين، ويزداد
التناقض حدة في الدول التابعة التي تعبر عمالة حكامها وعنجهيتهم تجاه
شعوبهم على واقع الإستبداد الذي تكتوي به البروليتاريا، يضاف لكل هذا
أولية التناقض ضد المحتل والمغتصب بين الشعوب وجلاديهم، فكيف لنا في ظل
ما يشهده العالم من طغيان وإظطهاد وظلم وتعسف وإستغلال الإستبشار بشعارات
"براقة " خاوية من أي مضمون طبقي تسعى البورجوازية بآلياتها الدعائية
الهائلة على إدراجها في قاموس الشعوب زورا وبهتانا؟
لذا على الماركسيين والمنحازين للحرية
وكرامة العمال والشعوب المضطهدة العمل على فضح هذه المغالطات وتفكيك رموز
التزييف. لكن الأهم من ذلك هو إستغلال هذه اللحظة التاريخية والتي لن تنجح
الإمبريالية في معالجتها على المدى المتوسط لإبراز حتمية إنهيار
الرأسمالية، وأن البديل الذي يمكن أن يحقق العدالة الإجتماعية والمساواة
والتوزيع العادل للثروة الإنسانية سيكون بالضرورة البديل الإشتراكي الذي
ستنتفي فيه كافة مظاهر الإستغلال الطبقي، وما يفرزه من حروب دامية ونظام
عالمي يحمي المجرمين والمستثيرين على حساب قوة عمل الملايين من الكادحين،
ويجرم كل مظاهر المقاومة والصمود تحت يافطة مقاومة" الإرهاب".