جاء صيف 2011 ساخنا مشحونا بالتفاعلات والتطورات في الشرق الأوسط والعالم.
وكان لافتا أن تطورات الأشهر الثلاثة الماضية لم تكن منشئة لأوضاع جديدة،
لا إقليميا ولا عالميا، لكنها -بالرغم من ذلك- ترسم صورة مختلفة للمشهدين
الإقليمي والعالمي، بعض قسماتها واضحة. إذ تعكس تبلور وبروز ظواهر لم تكن
مألوفة، بينما تبدو في قسمات أخري ضبابية وملتبسة، نتيجة اهتزاز أوضاع
وثوابت تقليدية.
الاتجاه الأول للتطورات الإقليمية والعالمية يتعلق ببروز وتصاعد أدوار
الفاعلين من غير الدول في مجريات الأحداث علي الساحة الدولية. ورغم أن دور
"الفاعلين من غير الدول" ليس جديدا، فإن نطاق ومفهوم "الفاعل غير الدولة"
كان غالبا ما ينصرف إلي التنظيمات أو الحركات المنظمة (حركة حماس، حزب
الله، منظمة إيتا، نمور التاميل، القاعدة ..). الجديد حاليا هو بروز أدوار
كل من "الفاعل الفرد"، و"الحملات غير الحكومية". فقد تصاعد في السنوات
الأخيرة دور وتأثير أشخاص، هم في الأصل ذوو مكانة وثقل في مجال محدد، ثم
تصاعد تأثيرهم وامتد ليشمل مجالات أخري، ليس فقط في بلدانهم لكن خارجها
أيضا، فأضحوا ذوي تأثير عابر للمجالات وللحدود. ومن أبرز الأمثلة علي ذلك
روبرت مردوخ، والوليد بن طلال، ونجيب ساويرس. وقدمت قضية التنصت التي
تورطت فيها صحيفة تابعة لمردوخ مثالا علي ذلك التداخل بين الإعلام والسياسة
في مستوي، والمؤسسات الخاصة وأجهزة الدولة في مستوي آخر.
كما أصبحت "الحملات غير الحكومية" حاضرة بقوة في كثير من التطورات في
مناطق مختلفة من العالم، خصوصا المرتبطة بكوارث طبيعية أو أوضاع إنسانية.
وهي تختلف عن المنظمات الإنسانية التقليدية في كونها حملات تتشكل وتنشأ
خصيصا لغرض محدد مرتبط بقضية أو أزمة طارئة. وتحاطبحملة دعاية وتوعية تسهم
بقوة في اكتسابها زخما، وحصولها علي إمكانات مادية وتنظيمية أكبر من تلك
التي تتاح في العادة للمنظمات الإنسانية الدائمة. وتقدم حملات إغاثة غزة،
والملابسات المحيطة بها، إشارات قوية بتنام متوقع لتأثير ذلك النمط من
الفاعلين الدوليين.
لم يكن انضمام "الفاعل الفرد" و"الحملات غير الحكومية" إلي قائمة الفاعلين
الدوليين وليد التطورات الأخيرة. فقد تبلورت تلك الظاهرة بالتدريج وبشكل
متقطع، ويمكن رصدها بوضوح مع وقوع مشكلة، أو حدث، تكون مكوناتها طرفا فيه،
مثل قضية مردوخ، أو حادث أسطول الحرية. لكنالمرات القليلة التي تبرز فيها
تلك الظاهرة تشير إلي أن العالم بصدد فاعلين جدد قد يصبحون جزءا من المجتمع
الدولي في المستقبل القريب. ويتوقف تحديد مدي قرب هذا المستقبل علي
اعتبارات عديدة، من بينها ما تفرزه التفاعلات الجارية بين الأطراف
والفاعلين التقليديين، من مشكلات ومآزق ستدفع بأولئك الفاعلين الجدد إلي
الظهور، ربما بشكل متكرر أو متصاعد. ولابد من التذكير هنا بأن مفهوم
الفاعلين من غير الدول في صوره الأولي (الجماعات والحركات والتنظيمات) قد
مر بالمراحل ذاتها، ظهورا متقطعا في حالات محددة، ثم تكرارها وتعددها، مع
اتساع نطاق الدور والتأثير.
اتجاه ثان يمكن تلمسه في التطورات الإقليمية والعالمية في الأشهر الماضية،
يشير إلي تغير نقاط التوتر والقلق في العالم. حيث يشهد العالم ظهور نقاط
ساخنة جديدة، تتقاطع فيها مصالح وأدوار أطراف إقليمية أو عالمية. ومن
النقاط البارزة في هذا السياق، المنطقة الشرقية من البحر المتوسط، والقطب
الشمالي، وبحر الصين الجنوبي، وكلها ظهرت فيها أخيرا توترات أو إرهاصات
صراع وتنافس إقليمي ودولي. وليس غريبا أن تلك النقاط -وغيرها من مواقع
التوتر في العالم- مواطن لموارد وثروات طبيعية، خصوصا النفط والموارد
المعدنية. وكثيرا ما كانت الثروات والموارد -الطاقة خصوصا- محل تنافس وصراع
سياسي بل ومسلح أيضا، إلا أن النقاط المشار إليها جديدة علي خريطة بؤر
التوتر والتنافس الإقليمي/الدولي. ومن اللافت أنها جميعا مناطق مائية،
اجتمعت فيها الأهمية الاستراتيجية التقليدية بقربها من ممرات ملاحية أو
مناطق نفوذ وصراعات سابقة، مع أهمية جيواقتصادية غير تقليدية، تتمثل في
احتوائها علي موارد طاقة وثروات طبيعية كامنة، مما يشي بأن الصراع المتوقع
في العالم حول المياه لن يكون مقصورا علي المياه لذاتها، وإنما سيمتد أيضا
ليشمل ما تحت المياه من مصادر وثروات، بل وما فوقها من نفوذ وحدود وسيادة.
وسواء كان التحول نحو تلك المناطق الجديدة مرتبطا بما يثار عن قرب نضوب
المصادر التقليدية المعروفة للنفط، أو لأسباب ودوافع أخري قد تكون سياسية
أو استراتيجية، فإن المحصلة أن ثمة نقاطا ساخنة جديدة مرشحة لنشوب صراعات
حولها، أو علي الأقل أن تتحول إلي بؤر توتر وتنافس إقليمي أو عالمي فيها.
وفي كل الأحوال، ستكون الأوضاع في تلك النقاط متشابكة ومتداخلة ويؤثر في
بعضها بعضا. وبعد فترة، قد يصعب تحديد سبب جوهري للصراع أو العثور علي
متغير مستقل يفسر حزمة الصراعات أو العلاقات المتأزمة في هذه المنطقة أو
تلك. فالمتعارف عليه في تلك الأحوال أنه بمرور الزمن واستمرار الخلافات،
يتلاشي تدريجيا الحد الفاصل بين السبب والنتيجة، إذ تتفاعل النتائج لتلعب
بذاتها دور المسببات في تعميق الخلافات وتشعبها.
اتجاه ثالث اجتمعت فيه التطورات الواقعة في النطاق الإقليمي بصفة خاصة،
حيث تتجه المنطقة إلي الخروج من مرحلة تغير كبير، بفعل انفجار الأوضاع
الداخلية في بعض الدول، واضطرابها في دول أخري، وانقسام الدولة ذاتها في
ثالثة.
ودول الحالات الثلاث مقبلة علي مرحلة انتقالية. فتلك التي شهدت انقساما
-مثل السودان وقبلها الصومال- أصبحت أمام أمر واقع جديد ومختلف، فرض تحديات
مختلفة بدورها، لعل أخطرها بروز احتمالات تكرار الانقسام أو الانفصال
مجددا، مما يجعلها أمام عنق زجاجة، إما أن تجتازه بأمان، أو أن تتعرض لمزيد
من التقسيم والتفتت.
لكن الأكثر غموضا وسيولة هي الدول التي لم تسقط أو تنقسم، لكنها تعرضت إلي
هزة عنيفة. وحاليا، تقوم المجموعة الأولي منها -التي وقعت فيها الاضطرابات
بالفعل- بالبحث عن طريق التحول والتنمية، وإعادة بناء الدولة التي كانت
متماهية في الماضي مع نظام الحكم، الأمر الذي يقف حائلا دون عقبات ومشكلات
متجذرة في المجتمع، فخلقت نمطا للحياة السياسية يصعب تغييره بسلاسة دون
خسائر. أما الدول التي لم تشهد اضطرابات داخلية واسعة، فتقوم بعملية مراجعة
وإعادة للحسابات، في ضوء تجارب وأخطاء المجموعة الأولي. وكان لافتا أن تلك
الموجة من الاضطراب وعدم الاستقرار الداخلي لم تكن مقصورة علي الدول
العربية. فإسرائيل التي كثيرا ما ادعت أنها واحة الديمقراطية وسط
الديكتاتوريات العربية، تشهد احتجاجات شعبية واسعة. وإيران التي تري نفسها
نموذجا للدولة الإسلامية يحتذي، لم تكن محصنة ضد التظاهرات الشعبية.
إن إخفاق الدولة، أو سوء أداء نظم الحكم باختلاف أنماطها، ليس قدرا عربيا.
فالوضع الإقليمي العام يتسم بالسيولة والارتجاف، وتغلفه طبقات من التباس
الرؤي وضبابية المستقبل. ويزداد الموقف تعقيدا بالأخذ في الحسبان عامل
الوقت، فدول المنطقة مطالبة بالتعامل سريعا مع تحديات ماثلة وأخري مقبلة،
بينما هي تعاني ضبابية الرؤية، ولا تزال تتلمس الطريق الصحيح. وهي مفارقة
جديرة بالانتباه، أن تكون تلك التحديات والمعضلات نتاجا مباشرا لموجة
التغيير التي اجتاحت المنطقة، لكنها لا تقبل الانتظار ولا التأجيل، حتي
تهدأ الموجة، وتستقر الأوضاع.