عندما تشكو الرئاسة من العقلية الأمنية القديمة
أمل وانتظار خارج حدود الوطن.. (أ.ف.ب) |
وسيم إبراهيم
21/06/2011
عندما
يتحدث رئيس الجمهورية لائماً "العقلية الأمنية القديمة"، فهذا أمر يستحق
الوقوف عنده طويلا. إنها المرة الأولى، على ما نحسب، التي يخرج فيها كلام
كهذا بدقته إلى العلن. واللذيذ أنه لم يكن كلاماً نقله صحافي، ولم يأت في
خطاب، بل في أجواء لقاء مغلق، سبق الخطاب الأخير، بين الرئيس ومواطنين ضمن
وفد منطقة "جوبر". قام أحدهم، المواطن السوري بشار شعبان مشكورا، بنقل
الخلاصة ونشرها على صفحته في "فيسبوك"، ونقلتها عنه مواقع وصحف. إنه نقلُ
طازج، ولو مكثفا، وكأننا أمام فيديو صوّره مواطن بهاتفه للرئيس يتحدث.
الشكر للمواطن لأن وفودا كثيرة التقت الرئيس، وفي كل مرّة كان مراسلون
ينقلون "أجواء" اللقاءات، وتبدو الخلاصة خالية من "الطزاجة". مجرد تقديرات
ناشفة، تعميمية جدا، ليس فيها ما يمكن الاستناد عليه لفهم: كيف يفكر الرئيس
الآن، وما هي أحوال قصر الرئاسة في ما يجري؟
كما ينقل لنا بشار شعبان، قال لهم الرئيس إن جرائم تعذيب المعتقلين تتحمل
مسؤوليتها "العقلية القديمة لعناصر الأمن". موقفه من ذلك أنه سلوك "غير
مقبول". جميل، إذاً لنبدأ من هنا. يعترف الرئيس أن هنالك، الآن في سوريا،
عقلية أمنية قديمة. إنها عقلية فاعلة، بدليل أنها قامت بأفعال اجتمع
السوريون، رئيسا وشعبا، على إدانتها والغضب منها. إنها عقلية استحقت بجدارة
غضب السوريين. لكن الرئيس يقول إنها عقلية "لدى عناصر الأمن"، وهذا كلام
يناقش.
مؤسسات الأمن ليست مضافة شعبية. إنها مؤسسات دولة. يأتي مواطنون لديهم رغبة
بالعمل فيها، ويجدونها جاهزة لاستقبالهم. إنها تتولى إكسابهم "قواعد"
و"مهارات" مهنتهم المستقبلية. تدرّبهم، وتثقفهم في مجالهم. للقيام بذلك،
تمتلك هذه المؤسسات مدربين على أعلى المستويات والتأهيل. هؤلاء لديهم، وفق
وظيفتهم في الدولة، تصوّر واضح عن طبيعة المهام التي توكل لعناصر أمن
بلدهم. هؤلاء يستقون خططهم التدريبية ومناهجهم، من قادة أجهزة الأمن، إذا
لم يكن هؤلاء القادة أو بعضهم مدربين. إذاً: العقلية الأمنية، تعريفا، هي
المعلومات والقواعد والمهارات التي تضخّها، أو تزرعها، القيادات الأمنية في
الجسم الأمني للمؤسسات، أي في عناصر الأمن. إنها منظومة علاجية، تُخطط
وتُبنى، تتصدى وتتعاطى، على هذا الأساس. ليست العقلية الأمنية وباء تنتقل
عدواه مباشرة لدى توقيع طالب الوظيفة الأمنية على كتاب انتسابه لأجهزة
الأمن. العقلية الأمنية، وفق ذلك، هي العقل الذي تفكر فيه، وتنفذ، المؤسسة
الأمنية سياستها ومهامها وفق رؤية النظام. حماتها ومبتكروها هم القادة
الأمنيّون. العناصر هم مجرد منفعلين، وفاعلين فقط، وفق ما تمليه العقلية
الأمنية التي يشرف على تطبيقها قادتهم، ويعاقبون من لا يذعن لمقتضياتها.
إنها مع العناصر مجرد السلوك الأخير، البادي، لسلسلة طويلة يحكمها عقل
المؤسسات الأمنية، وليس العناصر. إنها مشكلةُ عقليةٍ، وليست مشكلة سلوكيات
شاذة.
إذاً، وفق كلام الرئيس، العقلية الأمنية القديمة ومشاكلها أمر واقع. كان
كلامه السابق في حدود ممارسات هذه العقلية داخل المعتقلات. لكن بما أنها
عقلية موجودة، فهي تحكم أداء عناصر الأمن داخل المعتقلات وخارجها. في مجال
"التحقيق" مع المعتقلين، وفي ميدان التعامل مع التظاهرات. ليس معقولا، هنا،
التفكير أنها رداء يلبسه العناصر في مقار الاعتقال، ويلقونه عنهم أمام
المتظاهرين. إنها عقلهم المكتسب والحاكم لتصرفهم والمستوجب لمحاسبتهم من
قادتهم، حيثما تحركوا. فإذا كانت "العقلية الأمنية القديمة" تمارس التعذيب
بحق المعتقلين، وهم مقيدون، كتل آدمية مجردة من أي قدرة، فماذا يمكنها أن
تفعل أمامهم وهم أحرار في ميادين وشوارع التظاهر؟ عقلية أمنية قديمة كهذه
لا يمكن الظن أنها ستسايس الاحتجاجات الشعبية.
لتتمة ما نقل عن لسان الرئيس صلة بذلك. فهو يدين أيضا ما حصل في حماه،
حينما قتل المتظاهرون السلميون أيضا بالرصاص، ويقول: "سأحاسب الصغير
والكبير عما فعلوه". المهم هنا أن الرئيس يقرّ مبدئيا بمسؤولية مفترضة
لـ"الصغير والكبير"، في القوى الأمنية كما يفهم، عن القتل الذي حدث. وهؤلاء
من المستبعد، بناء على إدانة الرئيس لأفعالهم، أن يكونوا من عداد "العقلية
الأمنية الجديدة". هنا نفهم إقرارا من الرئيس بأن مجال فاعلية العقلية
الأمنية القديمة، هو داخل المعتقلات وخارجها، حيال المعتقلين والمتظاهرين.
العقلية الأمنية التي فعلت في درعا أدينت من الرئيس، وقيل عن إجراءات تحقيق
ومحاسبة. حصل ذات الأمر مع العقلية الأمنية التي فعلت في قرية البيضا. ولا
يمكن إيراد فروق جوهرية، عند استحضار نتائج سلوك العقلية الأمنية في مدن
وقرى سوريا الأخرى. النتائج: قتل وإذلال وتعذيب واعتقال... وتشريد وتهجير.
فهل هناك عقلية أمنية غير قديمة فاعلة في سوريا، وهل من يدلّنا على مكان
ومجال فاعليتها. ثم، عندما يجري الحديث عن حلّ أمني، فأي عقلية أمنية تمضي
به. هل هناك، مثلا، عقليتان في النظام: عقلية أمنية قديمة للحل الأمني،
وعقلية غير أمنية للحل السياسي؟
يمكن الاستمرار في التساؤل والتحليل والاستنتاج إلى ما لا نهاية، لكن يبقى
أن على النظام حلّ مشاكله بنفسه. لا يمكن نشر توضيح كهذا في الشوارع: على
من يعاني من العقلية الأمنية القديمة الصمت لأن الرئاسة نفسها تشكو منها.
هذه ليس مسؤولية المواطنين بالتأكيد، وما يعرفونه أن الصلاحيات المقرّرِة
هي بيد مسؤول واحد: رئيس الجمهورية العربية السورية، القائد العام للجيش
والقوات المسلحة.