يصل
عصر التطرّف(1) إلى نهايته في عام 1991 مع انهيار كوكبي هائل ــ مع تبدّد
آمال عصر ذهبيّ عُقدت على اجتراح عالم أفضل اجتماعياً. ما الأمور التي
تراها تطوّرات رئيسية في تاريخ العالم منذ ذلك الحين؟ أرى خمسة تغيرات رئيسية. أوّلاً، ثمة انتقال مركز العالم الاقتصاديّ من
الشمال الأطلسي إلى آسيا الشرقية والجنوبية. وهذا الانتقال بدأ في اليابان
إبان السبعينات والثمانينات، إلا أن صعود الصين منذ التسعينات هو الذي
أحدث اختلافاً حقيقياً. ثانياً، هناك، بطبيعة الحال، الأزمة الرأسمالية
العالمية، التي سبق لنا أن دأبنا على التنبّؤ بها، ولكنها تأخّرت أكثر مما
توقّعنا. ثالثاً، ثمّة الإخفاق الفضائحيّ المجلجل للولايات المتحدة في
الإفادة من فرص هيمنتها الأحادية على العالم بعد عام 2001 ــ لقد كان
الفشل شديد الوضوح. رابعاً، إنّ انبثاق كتلة البلدان النامية الجديدة
بوصفها كياناً سياسياً لم يكن قد تحقّق بعد لدى قيامي بكتابة "ّعصر
التطرّف". خامساً، وأخيراً، ثمة اهتراء سلطة الدول وتعرّضها المطّرد للضعف
والوهن: أعني سلطة الدول القومية داخل حدودها الإقليمية، كما لأيّ نوع من
أنواع المرجعية الرسمية الفعّالة في أجزاء واسعة من العالم. ربما كان هذا
أمراً قابلاً للتنبؤ به، بيد أنه تسارع بوتائر لم أكن ميالاً إلى توقّعها.
ما الأشياء الأخرى التي فاجأتك منذ ذلك التاريخ؟ لا تبارحني الدهشة قط إزاء الحماقة العارية لمشروع المحافظين الجدد، ذلك
المشروع الذي لم يكتف بزعم أنّ أمريكا هي المستقبل، بل أصرّ على أنه قام
بصوغ استراتيجية وتكتيكات لبلوغ تلك الغاية. وبمقدار ما أرى، من منطلقات
عقلانية، فإنّ المحافظين الجدد لم يكونوا متوفّرين على أيّ استراتيجية.
ثانياً، هناك ظاهرة أقلّ شأناً، ولكنها مهمّة، ألا وهي ظاهرة عودة
القرصنة، التي كنا قد نسيناها إلى حدّ كبير، إلى الحياة من جديد. وثمة،
ثالثاً، أمر قد يكون محلياً حتى أكثر من القرصنة، أعني به انهيار الحزب
الشيوعي الهندي (الماركسي) في البنغال الغربي، وهو أمر لم أكن في الحقيقة
مستعداً لأن أتوقعه. غير أن الأمين العام للحزب براكاس كارات أفادني
مؤخراً بأن حزبه في البنغال الغربي بات يشعر بأنه مطوَّق ومحاصر. ويتوقع
أن يكون أداؤه في مواجهة المؤتمر الجديد في الانتخابات المحلية سيئاً.
وذلك بعد أن ظل حاكماً بوصفه حزباً وطنياً على امتداد ثلاثين سنة. لقد
كانت خطة التصنيع التي قامت على انتزاع الأرض من الفلاحين، ذات نتيجة
بالغة السوء، وكانت خاطئة بوضوح. يمكنني رؤية حقيقة أن الحزب، مثله مثل
سائر الحكومات والإدارات اليسارية الناجية، كان مضطراً لمواكبة التنمية
الاقتصادية، بما فيها تنمية القطاع الخاص، ما أدى إلى جعله يرى أمر تطوير
قاعدة صناعية قوية أمراً طبيعياً. غير أن ما يبدو مثيراً لشيء من الدهشة
هو أنه أفضى إلى مثل هذا الانقلاب الدراماتيكي المثير.
هل تستطيع أن تتصوّر أيّ عملية إعادة صوغ سياسية لما كانت تعرف يوماً باسم الطبقة العاملة؟ ليس بالصيغة التقليدية. لا شكّ أنّ ماركس كان على صواب حين تكهّن بتشكل
أحزاب طبقية رئيسية في مرحلة معينة من مراحل التصنيع. إلا أن هذه الأحزاب،
إذا كانت ناجحة، لم تكن تنشط بوصفها أحزاب طبقة عاملة خالصة: إذا رغبت في
تجاوز الحدود الطبقية الضيقة، تعين عليها أن تفعل ذلك بوصفها أحزاباً
شعبية مهيكلة حول منظمة ابتكرتها الطبقة العاملة ولخدمة أغراضها. حتى في
هذه الحالة، كان ثمة حدود للوعي الطبقي. ففي بريطانيا لم يسبق لحزب العمال
أن تجاوز الخمسين بالمئة من الأصوات الانتخابية. الشيء نفسه صحيح في
إيطاليا حيث كان الحزب الشيوعي الإيطالي حزباً للشعب أكثر من أي شيء آخر.
أما في فرنسا فقد ظل اليسار مستنداً إلى طبقة عاملة ضعيفة نسبياً، ولكنها
كانت معززة سياسياً بالتقاليد الثورية العظيمة التي نجحت في الاضطلاع بدور
وريثتها الأساسية ــ ما أضفى عليها وعلى اليسار قدراً أكبر بما لا يقاس من
النفوذ والهيبة.
من المؤكد أن تقهقر وزن الطبقة العاملة اليدوية في الصناعة يبدو حاسماً
ونهائياً. صحيح أن هناك، دائما، عدداً كبيرا ممن يعملون بأيديهم، وأن
الدفاع عن أحوالهم يظل مهمة رئيسية بالنسبة إلى جميع الحكومات اليسارية.
غير أن تلك لم تعد القاعدة الأولى للآمال: لم يعد العمال اليدويون
متمتعين، ولو نظرياً، بالطاقة السياسية، لأنهم يفتقرون إلى القدرات
التنظيمية التي ميزت الطبقة العاملة القديمة. وكان هناك ثلاثة تطورات
سلبية أخرى. وباء رهاب الأجانب (الزينوفوبيا) يحتل، بالطبع، المرتبة
الأولى ــ وهو كما سبق لبيبل أن قال ’اشتراكية الحمقى’ بالنسبة إلى أكثرية
الطبقة العاملة: أن أقوم بحماية فرصة عملي من آخرين ينافسونني! وكلما كانت
الحركة العمالية أضعف، كان رهاب الأجانب أقوى جاذبية. ثانياً، نجد أن
جزءاً كبيراً من العمالة اليدوية وممن يعملون في المجالات التي درجت
الخدمة المدنية البريطانية على عادة وصفها بـ"المراتب الثانوية واليدوية"
ليس دائماً، إنه مؤقت، موسمي: طلاب أو مهاجرون، يعملون خدماً في المطاعم
والفنادق مثلاً. لذا فإن من الصعب رؤية أولئك قابلين للتنظيم. لعل الصيغة
الوحيدة المؤهلة للتنظيم من صيغ ذلك النوع من العمالة هي صيغة الكتلة
المستخدمة من قبل الإدارات العامة، لا لشيء إلا لأن تلك الإدارات سريعة
العطب على الصعيد السياسي.
أما التطور الثالث والأكثر أهمية، بنظري، فهو الانقسام المتعاظم الناجم
عن اعتماد معيار طبقي جديد ــ أعني بالتحديد اجتياز الامتحانات في المدارس
والجامعات والحصول على الشهادات بطاقات التحاق بالوظائف. ليس هذا، إذا
شئتم، إلا نوعاً من حكم الجدارة؛ غير أنه يبقى خاضعاً لبروز الأنظمة
التعليمية ومأسستها. لم يتمخض الأمر إلا عن حرف الوعي الطبقي وتشويشه
بجعله يتركز على معارضة هذا الصنف أو ذاك من المتأنقين الأفندية ــ معارضة
المثقفين، النخبويين الليبراليين، أولئك الذين يستخفون بنا، بدلاً من
معارضة أرباب العمل والتصدي لهم. تبقى أمريكا مثالاً أنموذجياً على هذا
الصعيد، إلا أن المملكة المتحدة ليست خالية من العلة، إذا نظرت إلى
الصحافة البريطانية. أن يكون الحصول على الدكتوراه أو بلوغ مرحلة الدراسات
العليا في الحد الأدنى قد ضاعف أيضاً من فرص كسب الملايين يؤدي إلى تعقيد
الوضع قليلاً.
هل ستتوفر قنوات جديدة؟ يتعذر أن يكون الأمر من منطلقات طبقة واحدة، ما
يعني برأيي أنه بات مستحيلاً. ثمة سياسة تقدمية قائمة على الائتلافات، غير
أن حتى ائتلافات دائمة نسبياً مثل ذلك القائم مثلاً، بين الطبقة الوسطى
المثقفة القارئة للغارديان والمثقفين ــ من ذوي المستوى التعليمي الرفيع
الذين يبقون أكثر من غيرهم ميلاً إلى اليسار ــ وجمهور الفقراء والجهلة.
الطريقان، كلاهما، ضروريان بالنسبة إلى مثل هذه الحركة، غير أن جمعهما
ربما بات أصعب مما كان في السابق. بمعنى من المعاني نرى أن من الأسهل على
الفقراء أن يتماهوا مع أرباب الملايين، كما في الولايات المتحدة، قائلين:
’ليت الحظ يسعفني فأصبح نجماً شعبياً!‘ غير أن أحداً لا يستطيع أن يقول:
’ليت الحظ يسعفني فأفوز بجائزة نوبل!‘. إنها مشكلة حقيقية في مجال تنسيق
سياسة أناس قد يكونون موضوعياً على الضفة نفسها.
ما وجه الشبه، برأيك، بين الأزمة المعاصرة والكساد الاقتصادي الكبير؟ أزمة 1929 لم تبدأ مع البنوك ــ هذه الأخيرة لم تصب بالانهيار إلا بعد
عامين. ما حصل، بالأحرى، هو أن البورصة أحدثت انكماشاً إنتاجياً، مع مستوى
أعلى بكثير من البطالة وتقهقر فعلي أكبر بما لا يقاس مقارنة مع أي وقت
مضى. أما الانهيار الحالي فقد جاء مسبوقاً بمؤشرات تمهيدية أكثر من نظيره
في 1929 الذي جاء كما لو كان نازلاً من السماء دون أي مقدمات. كان واضحاً
بجلاء منذ زمن مبكر تماماً أن الأصولية الليبرالية الجديدة قد أحدثت قدراً
هائلاً من عدم الاستقرار في آليات عمل النظام الرأسمالي. حتى عام 2008 بدت
تلك الأصولية مؤثرة فقط في المناطق الهامشية ــ في أمريكا اللاتينية خلال
تسعينيات القرن العشرين والسنوات الأولى من الألفية الثالثة؛ ثم في جنوب
شرق آسيا؛ وبعدها روسيا. في البلدان الرئيسية لم يعن الأمر سوى نكسات
مؤقتة في أسواق السندات المالية، التي ما لبثت، وبسرعة، أن تعافت. بدا لي
أن الدليل الفعلي على احتمال وقوع كارثة تمثل بانهيار إدارة رأس المال
طويل الأمد في 1998، ذلك الانهيار الذي أثبت مدى فداحة خطأ أنموذج النمو
من ألفه إلى يائه؛ غير أن أحداً لم يره كذلك. ومن المفارقات الباعثة على
السخرية أنه أدى إلى دفع عدد من أرباب الأعمال والإعلاميين إلى إعادة
اكتشاف كارل ماركس، بوصفه شخصاً كتب شيئاً ذا علاقة عن اقتصاد حديث،
معولم؛ لم يكن لما حصل أي علاقة، بالمطلق مع اليسار السابق.
كان الاقتصاد العالمي في 1929 أقل من نظيره الحالي اتصافاً بالصفة
الكوكبية الشاملة لكوكب الأرض. وقد كان لهذا، بالطبع، بعض التأثير ــ
مثلاً كان أسهل بكثير على فاقدي فرص عملهم أن يعودوا إلى قراهم بالمقارنة
مع حال نظرائهم اليوم. ففي 1929، لم تكن الأجزاء الكوكبية المعولمة
للاقتصاد، خارج أوربا وأمريكا الشمالية، سوى رقع محصورة تركت ما حولها على
حالها إلى حد بعيد. صحيح أن وجود الاتحاد السوفييتي لم يكن ذا تأثير عملي
في أزمة الكساد، ولكنه كان ذا تأثير إيديولوجي هائل ــ كان ثمة بديل. منذ
تسعينيات القرن العشرين ونحن نتابع صعود الصين والاقتصادات الناشئة، ذلك
الصعود الذي كان له بالفعل تأثير فعلي في الأزمة الراهنة، لأنه ساهم في
إبقاء الاقتصاد العالمي تحت سقف أكثر استواء مما لو لم يكن موجوداً. حقاً،
حتى في تلك الأيام التي دأبت فيها الليبرالية الجديدة على ادعاء الازدهار،
فإن النمو الفعلي كان يحصل، في قسمه الأكبر، في جملة هذه البلدان النامية
حديثاً ــ ولا سيما الصين. متأكد أنا من أن كساد 2008 كان من شأنه، لولا
وجود الصين، أن يحدث قدراً أكبر بما لا يقاس من الضرر. لجملة هذه الأسباب
أظن أن من المحتمل أن نخرج من الورطة بسرعة أكبر؛ مع أن بلداناً معينة ــ
ولا سيما بريطانيا ــ ستبقى مأزومة خلال بعض الوقت.
ماذا عن العواقب السياسية؟ إجمالاً أفضت أزمة 1929 إلى حصول انعطافة يمينية، مع الاستثناء الرئيسي
لأمريكا الشمالية. بما فيها المكسيك، وأسكندينافيا. ففي فرنسا لم تزد
أصوات الجبهة الشعبية الانتخابية في 1936 إلا بنسبة 0.5 (نصف) بالمئة عما
كانت قد حصلت عليها في 1932، ما دل على أن انتصار اليسار لم يكن إلا
تغييراً في التحالفات السياسية دون الوصول إلى أي شيء أكثر عمقاً. وفي
إسبانيا لم تكن النتيجة المباشرة، رغم الأوضاع شبه الثورية أو الموحية
بالثورة، هي الأخرى، سوى انعطافة يمينية، مثلها بالفعل مثل النتيجة طويلة
الأمد أيضاً. في أكثرية الدول الأخرى، ولا سيما في أوربا الوسطى والشرقية،
انزاحت السياسة انزياحاً بالغ الحدة نحو اليمين. إن تأثير الأزمة الراهنة
ليس بمثل ذلك الوضوح. من شأن المرء أن يشك باحتمال حصول التغييرات
السياسية الكبرى أو التحولات على مستوى التخطيط لا في الولايات المتحدة أو
في الغرب، بل في الصين بكل تأكيد. غير أن أحداً لا يستطيع أن يذهب إلى ما
هو أبعد من التخمين فيما يخص طبيعة تلك التغييرات أو التحولات.
هل ترى الصين قادرة على الاستمرار في مقاومة الانعطاف الانحداري؟ ليس ثمة أي سبب عملي يدعو إلى الاعتقاد بأن الصين ستتوقف عن النمو فجأة.
من المؤكد أن الحكومة الصينية أصيبت بصدمة جراء الأزمة، لأنها تمخضت عن
قطع دابر عدد كبير من الصناعات وشلها مؤقتاً. غير أن البلد ما زال في
المراحل الأولى من مسيرة تطوره الاقتصادي، وهناك هامش عريض جداً للتوسع.
لا أريد أن أضرب أخماساً بأسداس فيما يخص المستقبل، إلا أن المرء يستطيع
أن يتصور الصين في غضون عشرين إلى ثلاثين سنة أكثر أهمية نسبياً مما هي
اليوم على الصعيد العالمي ــ أقله في المجالين الاقتصادي والسياسي؛ لا في
المجال العسكري بالضرورة. تعاني الصين، بطبيعة الحال، من مشكلات هائلة ـ
ثمة على الدوام أناس يتساءلون عما إذا كان البلد سيبقى متماسكاً. أعتقد أن
الراغبين في بقاء الصين موحدة لأسباب واقعية وأخرى إيديولوجية على حد
سواء، متمتعون بقدر كبير جداً من القوة.
كيف تقوِّم إدارة أوباما، بعد عام من تولي المنصب؟ كان الناس سعداء جداً إزاء انتخاب رجل مثله، وفي أوضاع مأزومة، ظانين أنه
ملزم بأن يكون إصلاحياً كبيراً، يبادر إلى فعل ما فعله روزفلت. غير أنه لم
يفعل. كانت بدايته سيئة. إذا قارنتم أيام روزفلت المئة الأولى مع أيام
أوباما المئة الأولى، فإن ما يطفو على السطح هو استعداد روزفلت للتعويل
على مستشارين غير رسميين، للإقدام على القيام بشيء جديد، مقابل إصرار
أوباما على البقاء جامداً في الوسط. أعتقد أنه قد أضاع فرصته وبددها.
ففرصته الفعلية كانت كامنة في الأشهر الثلاثة الأولى، حين كان الفريق
الآخر مشلولاً خائر المعنويات كلياً، وقبل أن يعود إلى الاستنفار من جديد
في الكونغرس ــ ولم يقم بانتهازها. يحلو للمرء أن يتمنى له النجاح، غير أن
الآفاق ليست، بنظري، مشجعة كثيراً.
لدى النظر إلى أ كثر مسارح النزاع الدولي في العالم حماوة، هل ترى أن حلّ
الدولتين، كما هو متصور راهناً، أفق قابل للتصديق في فلسطين؟ شخصياً، أشك في أن يكون الأمر وارداً في اللحظة الراهنة. ومهما كان نوع
الحل، فإن شيئاً لن يحصل ما لم يقرر الأمريكيون أن يغيروا رأيهم كلياً،
ويبادروا إلى ممارسة الضغط على إسرائيل. وليس ثمة ما يشير إلى حصول شيء من
هذا القبيل.
هل هناك أي أجزاء من العالم فيها، باعتقادك، مشروعات إيجابية، تقدمية لا تزال نابضة بالحياة، أو مؤهلة للانتعاش؟ من المؤكد أن السياسة والخطاب الشعبي العام في أمريكا اللاتينية لا
يزالان يداران ويوجَّهان من المنطلقات التنويرية القديمة ــ الليبرالية،
الاشتراكية، الشيوعية. تلك هي بقاع الأرض التي تجدون فيها عسكريين يتحدثون
مثل اشتراكيين ـ عسكريين هم أنفسهم اشتراكيون. تجدون فيها ظاهرة مثل لولا،
ظاهرة خارجة من رحم حركة عمالية، ومثل موراليس. ومع بقاء مسألة ما سيفضي
إليه الأمر قضية أخرى، فإن اللغة القديمة تظل دارجة، والنماذج القديمة
للسياسة تظل متوافرة. لست مطلق اليقين حول أمريكا الوسطى، على الرغم من أن
هناك مؤشرات دالة على نوع من الانتعاش الخجول لتراث الثورة في المكسيك
نفسها؛ لا أعني أن ذلك سيقطع شوطاً بعيداً، لأن المكسيك باتت افتراضياً
ذائبة في بوتقة الاقتصاد الأمريكي. أعتقد أن أمريكا اللاتينية استفادت من
غياب القومية العرقية ــ اللغوية، والانقسامات الدينية؛ فذلك الغياب جعل
الحفاظ على الخطاب القديم أسهل بكثير. ولطالما دُهشت دائماً، إلى وقت
قريب، إزاء عدم وجود أي مؤشرات دالة على سياسة عرقية. صحيح أنها أطلت
برأسها في صفوف حركات السكان الأصليين، ولكن دون أن تصل إلى المستويات
التي بلغتها في أوربا، آسيا، أو أفريقيا.
من الممكن أن تكون مشروعات تقدمية قادرة على الانتعاش في الهند بسبب
القوة المؤسسية لتراث نهرو العلماني. غير أن هذا لا يبدو مؤهلاً للتوغل
عميقاً في الجماهير، باستثناء مناطق معينة كان الشيوعيون أو ما زالوا
يتمتعون فيها بتأييد جماهيري مثل البنغال وكيرالا، وربما بعض الجماعات مثل
الناكساليين أو الماويين في النيبال. وفيما عدا ذلك، فإن التراث العمالي
القديم، مجموع الحركات الاشتراكية والشيوعية في أوربا يبقى قوياً تماماً.
فالأحزاب التي تأسست تحت إشراف أنجلز لا تزال، في أوربا كلها تقريباً، إما
أحزاب مرشحة للحكم، أو أحزاب المعارضة الرئيسية. أشك في أن ينتعش التراث
الشيوعي عند إحدى المنعطفات في البلقان أو حتى في أجزاء من روسيا مثلاً،
على نحو لا نستطيع التكهن به. ما سيحصل في الصين ليس معروفاً. إلا أن
المؤكد هو أن هناك تفكيراً من منطلقات مختلفة، لا من منطلقات ماوية أو
ماركسية معدَّلة.
طالما
كنت نقدياً على الدوام إزاء النزعة القومية بوصفها قوة سياسية، دائباً على
تحذير اليسار من محاولة صبغها باللون الأحمر. غير أنك بادرت أيضاً إلى
الاحتجاج بقوة على انتهاكات السيادة القومية باسم التدخلات الإنسانية
’الخيرية‘. أي أنواع من النزعة الأممية هي المرغوبة والقابلة للحياة
اليوم، بعد زوال تلك الخارجة من رحم الحركة العمالية؟ قبل كل شيء، ليس ثمة أي علاقة ذات شأن بين النزعة الإنسانوية، إمبريالية
حقوق الإنسان، وبين الأممية. فالأولى ليست إلا دليلاً إما على إمبريالية
منتعشة، تهتدي إلى ذريعة مناسبة لانتهاك سيادة الدول ــ وقد تكون ذرائع
جدية وصادقة تماماً ــ أو هي نوع من إعادة تأكيد التفوق الدائم للمنطقة
التي هيمنت على كوكب الأرض من القرن السادس عشر حتى أواخر القرن العشرين،
وهذا أشد خطراً. فالقيم التي يسعى الغرب إلى فرضها تبقى، آخر المطاف،
قيماً إقليمية تحديداً، وليست قيماً كونية شاملة بالضرورة. ولو كانت قيماً
كونية شاملة لتطلب الأمر إعادة صوغها من منطلقات مختلفة. لا أعتقد أننا
بصدد معالجة موضوع هو قومي أو أممي بحد ذاته. غير أن النزعة القومية تقتحم
الحلبة لأن النظام الدولي القائم على دول قومية ــ أعني نظام وستفاليا ــ
ظل في الماضي، خيراً أكان ذلك أم شراً، أحد أفضل الحمايات ضد اجتياح
الغرباء للبلدان. ومما لا شك حوله أن إلغاء ذلك النظام أبقى الطريق مفتوحة
أمام الحروب العدوانية والتوسعية ـ وبالفعل فإن ذلك هو ما دفع الولايات
المتحدة إلى نفض يدها من نظام وستفاليا.
إن الأممية التي هي بديل القومية شأن مراوغ. إما أنها شعار فارغ سياسياً،
كما سبق لها، لأغراض عملية، أن كانت في الحركة العمالية الأممية ــ لم تكن
تعني أي شيء محدد ــ أو هي طريقة لضمان وحدة منظمات قوية، ممركزة مثل
الكنيسة الكاثوليكية، أو الكومنترن. فالأممية عنت أنك، بوصفك كاثوليكياً،
تؤمن بالعقائد الجامدة (الدوغمات) نفسها وتشارك في الممارسات عينها بصرف
النظر عن هويتك ومكان وجودك؛ الأمر نفسه كان صحيحاً نظرياً، بالنسبة إلى
الأحزاب الشيوعية. أما إلى أي مدى حصل هذا فعلاً، وفي أي مرحلة توقف عن
الحصول ــ حتى في الكنيسة الكاثوليكية، فيبقى موضوعاً آخر. ليس هذا ما
عنيناه حقاً بعبارة ’أممية‘.
كانت الدولة القومية وما زالت إطار سائر القرارات السياسية، الداخلية
منها والخارجية. وإلى وقت غير بعيد كانت فعاليات الحركات العمالية ــ بل
جميع الفعاليات السياسية، في الحقيقة ــ تدار على نحو شبه كلي داخل إطار
دولة بعينها. حتى في الاتحاد الأوربي، لا تزال السياسة تتم هيكلتها من
منطلقات قومية ـ وطنية. بعبارة أخرى، ليس ثمة أي سلطة فوق قومية مبادرة ـ
هناك دول منفصلة في حالة تآلف. قد يكون الإسلام الأصولي الرسولي (الدعوي)
استثناء على هذا الصعيد، إذ هو عابر لحدود الدول، غير أن هذا لم يتم بعد
إظهاره فعلياً. محاولات سابقة لبناء دول فوق وطنية قائمة على مبدأ الوحدة
العربية، كتلك التي جرت بين مصر وسورية، انهارت تحديداً لصمود الحدود
الدولية ـ الكولونيالية (الاستعمارية) السابقة ــ ورسوخها.
هل ترى، إذن، أن هناك عقبات متجذرة تقف في طريق أي محاولات هادفة إلى تجاوز حدود الدولة القومية؟ من المؤكد دونما حاجة إلى أي جدال، أن القومية كانت، تاريخياً، إلى حد
بعيد، جزءاً من عملية اجتراح الدول الحديثة، التي تطلبت صيغة مغايرة من
صيغ الشرعية، صيغة مختلفة عن تلك التي كانت تتطلبها الدولة الدينية
(الثيوقراطية) أو السلالية (الوراثية) التقليدية. فالفكرة الأصلية للقومية
تمثلت بإيجاد دول أكبر وأوسع، ويبدو لي أن هذه الوظيفة التوحيدية
التوسيعية كانت بالغة الأهمية. أنموذجية حقاً كانت الثورة الفرنسية، حيث
راح الناس في 1790 يقولون على ما بدا: ’لم نعد دوفانيين، أو جنوبيين، إننا
فرنسيون جميعاً‘. وفي مرحلة لاحقة، منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر
وصاعداً، نجدنا في مواجهة حركات جماعات داخل هذه الدول رافعة رايات دولها
المستقلة الخاصة. وما لبث هذا، بالطبع، أن تمخض عن اللحظة الوِلْسُنية
القائمة على مبدأ تقرير المصير ـ وإن تم في 1918 ـ 1919، لحسن الحظ،
تصويبه ــ مبدأ تقرير المصير ـ بشرط اختفى كلياً منذ ذلك التاريخ، أعني
شرط حماية الأقليات. لقد تم التسليم، وإن ليس من جانب القوميين أنفسهم،
بأن أياً من هذه الدول القومية الجديدة لم تكن في الحقيقة متجانسة عرقياً
أو لغوياً. غير أن نقاط الضعف الكامنة في الترتيبات القائمة ما لبثت، بعد
الحرب العالمية الثانية، أن عولجت، لا من جانب الحمر وحدهم بل من قبل
الجميع، عن طريق الاصطناع المزاجي، القسري للتجانس العرقي. أفضى هذا إلى
جلب جبال من الويلات والمآسي والفظاظات على رؤوس الناس، كما أنه لم يكن
ناجحاً على المدى الطويل. ومهما يكن من أمر، فإن الأنموذج الانفصالي
للقومية ظل، إلى تلك الفترة، يؤدي وظيفته على نحو ناجح نسبياً. وقد تعزز
الأنموذج بعد الحرب العالمية الثانية بموجة التحرر من الاستعمار، تلك
الموجة التي أفضت، بطبيعتها، إلى إيجاد المزيد من الدول؛ ثم تدعم الأنموذج
أكثر فأكثر مع حلول نهاية القرن (العشرين) جراء انهيار الاتحاد السوفيتي،
الذي أدى أيضاً إلى إيجاد سلسلة من الدويلات المنفصلة الجديدة، بما فيها
كثرة لم تكن، كما في المستعمرات، راغبة فعلاً في الانفصال، كثرة تم فرض
الاستقلال عليها عنوة بقوة التاريخ.
لا يسعني إلا أن أشعر بأن وظيفة الدول الانفصالية، الصغيرة، التي تكاثرت
تكاثراً هائلاً منذ عام 1945، قد تغيرت. يُعتَرَف بوجودها لسبب واحد. قبل
الحرب العالمية الثانية لم تكن الدول الصغرى مثل آندورا واللوكسمبورغ
وسائر مثيلاتهما، تحظى حتى بالإشارة إليها وعدها أجزاء من المنظومة
الدولية، اللهم إلا من جانب هواة جمع الطوابع. أما فكرة أن كل كيان،
وصولاً إلى مدينة الفاتيكان، هو دولة، وعضو في الأمم المتحدة، فهي فكرة
جديدة. واضح تماماً أيضاً أن هذه الدول ليست، من حيث القوة، قادرة على
الاضطلاع بدور الدول التقليدية ـ إنها غير متوفرة على قدرة شن الحرب ضد
دول أخرى. في أفضل أحوالها باتت فراديس مالية، أو قواعد فرعية مفيدة
بالنسبة إلى أصحاب قرار دوليين. تقدم آيسلاند مثالاً جيداً؛ وسكوتلندا
ليست متخلفة كثيراً على الطريق ذاتها.
لم تعد الوظيفة التاريخية المتمثلة بإيجاد أمة بوصفها دولة قومية أساس
النزعة القومية. لم تعد، كحالها من قبل، شعاراً قوي الإقناع. ربما كانت
ذات يوم فعالة بوصفها وسيلة لاجتراح جماعات وتنظيمها في مواجهة وحدات
سياسية أو اقتصادية أخرى. أما اليوم فإن عنصر رهاب الأجانب الكامن في صلب
النزعة القومية ذو أهمية متزايدة. فاحتمالات توافر هذا العنصر الوبائي
تتناسب طرداً مع تنامي زخم إشاعة الديمقراطية على الصعيد السياسي. ولعل
هذا ثقافي قبل أن يكون سياسياً ـ انظروا إلى صعود النزعة القومية
الإنجليزية والسكوتلندية في الأعوام الأخيرة! ـ غير أنه ليس أقل خطراً
لهذا السبب.
ألم تكن الفاشية منطوية على مثل هذه الأشكال من رهاب الأجانب (الزينوفوبيا)؟ كانت الفاشية لا تزال، إلى حدود معينة، جزءاً من الاندفاع نحو إيجاد أمم
كبيرة. لا جدال أن الفاشية الإيطالية كانت خطوة كبيرة إلى الأمام على طريق
تحويل الكالابريين والأومبريين إلى إيطاليين؛ وحتى في ألمانيا لم يكن وصف
الألمان بالألمان لأنهم من ألمانيا لا لأنهم سوابيون، أو فرانك، أو
ساكسون، ممكناً حتى عام 1934. من المؤكد يقيناً أن الحركات الفاشية
الألمانية والأوربية الوسطى والشرقية كانت شديدة العداء للغرباء ـ لليهود
في المقام الأول، دون أن يكونوا وحدهم. ومن الطبيعي أن الفاشية كانت أقل
توفيراً للضمانات ضد الغرائز المنبعثة من رهاب الأجانب (الزينوفوبيا).
تمثلت إحدى الميزات الإيجابية العظيمة للحركات العمالية القديمة بكونها قد
دأبت فعلاً على توفير مثل هذه الضمانات. وهذه الحقيقة كانت ناصعة الوضوح
في جنوب أفريقيا: فلولا التزام المنظمات اليسارية التقليدية بالمساواة
ونبذ التمييز، لكان إغراء الانتقام من الأفريكان البيض أصعب على المقاومة
بما لا يقاس.
دأَبْتَ على
تأكيد آليتي النزعة الانفصالية ورهاب الأجانب في الحركة القومية. هل ترى
ذلك أمراً يفعل فعله في هوامش السياسة العالمية، بدلاً من الاضطلاع بدور
على المسرح الرئيسي للأحداث؟ بلى،
أعتقد أن هذا ربما صحيح ـ على الرغم من أن النزعة القومية تسببت بأضرار
كبيرة في أقاليم معينة مثل جنوب ـ شرق أوربا. ويبقى الواقع، بطبيعة الحال،
موحياً بأن القومية ـ أو الوطنية، أو نزعة التماهي مع شعب بعينه، غير محدد
عرقياً بالضرورة ـ ذخر هائل يمكّن الحكومات من الفوز بالشرعية. من الواضح
أن ذلك هو الوضع في الصين. وإحدى المشكلات في الهند تكمن في عدم امتلاك
الهنود لشيء من ذلك القبيل. ومن الواضح أن الولايات المتحدة لا يمكن
إسنادها إلى أي وحدة عرقية، غير أنها متوفرة، بالتأكيد، على عواطف قومية ـ
وطنية قوية. في عدد كبير من الدول الناجحة في أداء وظائفها، نرى أن تلك
العواطف باقية. لعل ذلك هو ما يؤدي إلى تمخض الهجرة الجماعية الواسعة عن
مشكلات أكثر مما كانت تفعل في الماضي.
كيف
ترى ما ستؤول إليه جملة الآليات الاجتماعية للهجرة المعاصرة، بعد أن صارت
أعداد الوافدين الجدد سنوياً إلى الاتحاد الأوربي موازية لأعداد نظرائهم
المهاجرين إلى الولايات المتحدة؟ هل تتوقع الظهور التدريجي لبوتقة ذوبان
أخرى، شبيهة بالأمريكية، في أوربا؟ غير أن
بوتقة الذوبان في الولايات المتحدة توقفت عن الإذابة منذ ستينيات القرن
العشرين. يضاف إلى ذلك، أن الهجرة كانت، مع حلول نهاية القرن العشرين، قد
أصبحت مختلفة تماماً عما كانته في فترات سابقة، لا لشيء إلا لأن المرء لم
يعد، حين يهاجر، يقطع صلاته بالماضي بمقدار ما كان يفعل ذلك من قبل. يمكنك
أن تواصل العيش في عالمين، بل وربما حتى في ثلاثة عوالم، في الوقت نفسه،
وأن تتماهى مع مكانين مختلفين أو ثلاثة أمكنة متباينة. يمكنك أن تستمر
غواتيمالياً وأنت في الولايات المتحدة. ثمة أيضاً أوضاع في الاتحاد
الأوربي لا تؤدي فيها الهجرة الفعلية (de facto) إلى توفير إمكانية
الذوبان في البوتقة الأوربية. فالبولوني الذي يأتي إلى المملكة المتحدة لا
يعد إلا بولونياً جاء بحثاً عن العمل.
من الواضح أن هذا شيء جديد، ومختلف تماماً عن تجربة أبناء جيلي أنا مثلاً
ـ جيل اللاجئين السياسيين، دون أن يعني أنني كنت واحداً منهم ــ حيث كانت
عائلة المرء بريطانية، ولكن دون أن يتوقف، على الصعيد الثقافي، عن كونه
نمساوياً أو ألمانياً؛ غير أن مثل هؤلاء الأشخاص كانوا مؤمنين بأن الواجب
يلزمهم بأن يكونوا إنجليزاً. حتى حين عادوا إلى أوطانهم فيما بعد، فإنهم
ظلوا مختلفين ـ كان مركز الثقل قد انتقل. لا شك أن هناك، على الدوام،
استثناءات: فالشاعر إرك فريد الذي عاش نصف قرن من الزمن في وِلّزْدَنْ عاد
وواصل العيش في ألمانيا. أعتقد جازماً أن من الضروري الحفاظ على قواعد
التمثل والذوبان الأساسية ـ قواعد تلزم مواطني بلد معين بالتصرف بطريقة
معينة وتوفر لهم حقوقاً محددة، قواعد لا بد لها من أن تحدد موقعهم، قواعد
لا يجوز إضعافها عبر سوق ذرائع تعددية ثقافية. فرغم كل شيء، كانت فرنسا قد
أذابت في بوتقتها عدداً من المهاجرين الأجانب يوازي نظيره، نسبياً، في
أمريكا وما زال التناسب فيها بين المحليين والمهاجرين السابقين قريباً من
أن يكون أفضل. يعود ذلك إلى بقاء قيم الجمهورية الفرنسية تسووية أساساً،
وعازفة عن تقديم أي تنازل فعلي على الملأ. مهما فعلت وراء الكواليس ــ كان
الأمر كذلك أيضاً في أمريكا في القرن التاسع عشر ـ فإن هذا بلد يتكلم
باللغة الفرنسية. لن تكون الصعوبة الفعلية مع المهاجرين بمقدار ما هي مع
المحليين. وهذه الموجة الجديدة من الهجرة أفضت إلى بروز مشكلات خطيرة في
أمكنة لم يسبق لها أن تعايشت مع تقاليد قائمة على رهاب الأجانب مثل
إيطاليا والبلدان الاسكندنافية.
من الشائع اليوم على نطاق واسع أن الدين ـ سواء أكان إنجيلياً،
كاثوليكياً، سنياً، شيعياً، هندوسياً جديداً، بوذياً، أم غيرها جميعاً ـ
قد عاد بوصفه قوة بالغة الجبروت إلى سائر القارات، الواحدة بعد الأخرى. هل
ترى الأمر ظاهرة أساسية متجذرة، أم تميل إلى عده ظاهرة عابرة، معطوفة على
القشور لا على الأعماق؟ من الواضح أن الدين ـ بوصفه طقسنة الحياة، الإيمان بأن أرواحاً أو كيانات
غير مادية تفعل فعلها في الحياة، وبوصفه، في المقام الأول، عقداً مشتركاً
يلحم الجماعات ـ واسع الانتشار على امتداد التاريخ بما ما من شأنه أن يجعل
النظر إليه على أنه ظاهرة سطحية، أو ظاهرة محكومة بالاختفاء، أقله بين
صفوف الفقراء والضعفاء، الذين قد يكونون أكثر حاجة إلى ما يوفرها من
دعائم، كما إلى ما يقدمه من تفسيرات محتملة للأسباب الكامنة وراء بقاء
الأمور على حالها، خطأ فادحاً. ثمة أنظمة حكم، مثل النظام الصيني، مفتقرة
لأغراض عملية إلى أي شيء يضاهي أو يوازي ما قد نضعه نحن في خانة الدين.
إنها تبين أن الأمر ممكن، غير أنني أظن أن أحد أخطاء الحركة الاشتراكية
والشيوعية التقليدية تمثل بالإقدام على الاستئصال العنيف للدين في أوقات
ربما كان من الأفضل ألا يتم ذلك. تمثل أحد التغييرات الكبيرة المثيرة
للاهتمام بعد سقوط موسوليني بمبادرة تولياتي إلى وضع حد للتمييز ضد
الكاثوليكيين الممارسين ـ وقد كان على صواب مئة بالمئة. فلولا ذلك لما
صوتت نسبة 14 بالمئة من ربات المنازل لصالح الشيوعيين في أربعينيات القرن
العشرين. وما لبث الأمر أن أفضى إلى تغيير طابع الحزب الشيوعي الإيطالي
جاعلاً إياه حزباً طبقياً جماهيرياً أو حزباً للشعب بعد أن كان حزباً
طليعياً لينينياً.
ومن الجهة المقابلة، صحيح أيضاً أن الدين كف عن كونه اللغة الكونية
الشاملة للخطاب العام؛ وإلى هذا المدى كانت العلمنة ظاهرة كوكبية، وإن لم
تتمكن من تحقيق ما هو أكثر من قطع الطريق على الدين المنظم على نحو صارم
إلا في بعض أجزاء العالم. ما زالت العلمنة تفعل الشيء ذاته في أوربا؛ أما
سبب عدم حصول ذلك في الولايات المتحدة فليس واضحاً، إلا أن المؤكد دونما
لبس هو أن العلمنة فعلت فعلها إلى حد بعيد في أوساط المثقفين وغيرهم ممن
ليسوا بحاجة إلى الدين. وبالنسبة إلى أولئك المستمرين في تدينهم، فإن واقع
وجود لغتي خطاب اثنتين اليوم يؤدي إلى نوع من الانفصام (الشيزوفرينيا)،
ذلك الانفصام الذي كثيراً ما يلمسه المرء لدى اليهود والأصوليين في الضفة
الغربية مثلاً ـ هم يؤمنون بالخرافات من ناحية ويعملون خبراء في تكنولوجيا
المعلومات من ناحية ثانية. والحركة الإسلامية الحالية مؤلفة، إلى حد كبير،
من تكنولوجيين وفنيين شباب. لا شك أن الممارسات الدينية سوف تتغير جذرياً.
وما إذا كان ذلك سيتمخض بالفعل عن المزيد من العلمنة ليس واضحاً. لا أعرف
مثلاً مدى قيام التغيير الكبير الحاصل في الدين الكاثوليكي في الغرب ـ
أعني رفض النساء الالتزام بالقواعد الجنسية ـ بجعل النساء الكاثوليكيات
أضعف إيماناً.
أدى تقهقر الإيديولوجيات التنويرية، بطبيعة الحال، إلى ترك مجال سياسي
أوسع بما لا يقاس للسياسة الدينية وللطبعات الدينية من القومية. غير أنني
لا أعتقد بأن الأديان شهدت أي صعود كبير. ثمة أديان كثيرة بادئة بالتراجع،
بالانحدار. إن الكاثوليكية تعيش أياماً بالغة الصعوبة وتخوض حرباً قاسية،
حتى في أمريكا اللاتينية، ضد صعود الطوائف الإنجيلية البروتستنتية، وأنا
واثق من أنها لا تحافظ على موقعها في أفريقيا إلا عن طريق تقديم التنازلات
أمام العادات والأعراف المحلية التي أشك في أنها كانت ستُقدَّم في القرن
التاسع عشر. صحيح أن الطوائف الإنجيلية البروتستنتية صاعدة، إلا أن مدى
كونها أكثر من مجرد أقلية ضئيلة بين الفئات الصاعدة ـ كما كان غير
الملتزمين يعرفون في إنجلترا ـ غير واضح. ومن غير الواضح أيضاً ما إذا
كانت الأصولية اليهودية التي تسيء كثيراً إلى إسرائيل، ظاهرة جماهيرية.
لعل الاستثناء الوحيد من هذا النزوع هو الإسلام الذي ظل دائباً على التوسع
دون أي نشاط دعوي فعال على امتداد القرون القليلة الماضية. وفي إطار
الإسلام ليس واضحاً ما إذا كانت توجهات معينة مثل الحركة الكفاحية
المتطرفة الحالية الهادفة إلى استعادة الخلافة تمثل أكثر من أقلية ناشطة،
حركية. غير أن الإسلام يبدو لي متمتعاً بميزات إيجابية عظيمة تمكنه من
مواصلة التوسع ـ لأنه يستطيع، في المقام الأول، أن يمنح الفقراء إحساساً
بأنهم ليسوا أقل شأناً من الآخرين وبأن المسلمين متساوون.
ألا يمكن قول الشيء نفسه عن المسيحية؟ تكمن المشكلة في أن المسيحي لا يؤمن بأنه يضاهي أي مسيحي آخر من حيث
الطيبة و المودة. أشك في أن يكون الزنوج المسيحيون مقتنعين بأنهم ليسوا
أقل شأنا من المستعمرين المسيحيين، في حين أن الزنوج المسلمين يفعلون. إن
بنية الإسلام أكثر تسووية والعنصر الحركي الكفاحي يميل إلى أن يكون أقوى
لدى المسلمين. أذكر أنني قرأت أن النخاسين توقفوا عن استيراد العبيد
المسلمين لأنهم كانوا دائمي التمرد والعصيان. من حيث نحن واقفون، ثمة جملة
لا يستهان بها من الأخطار في هذه المناشدة ـ إلى حد معين ينجح الإسلام في
جعل الفقراء أقل ترحيباً بنداءات المساواة الأخرى. والتقدميون في العالم
الإسلامي كانوا يعرفون من البداية أن ليس ثمة أي أسلوب لإبعاد الجماهير عن
الإسلام؛ حتى في تركيا تعين عليهم أن يهتدوا إلى نوع من التعايش ـ لعلها
البقعة الوحيدة التي شهدت حصول ذلك على نحو ناجح. أما في الأمكنة الأخرى،
فإن صعود الدين بوصفه عنصراً في السياسة، في السياسة القومية ـ الوطنية،
كان منطوياً على قدر مفرط من الخطر. في أمكنة مثل الهند، كانت الطفرة
الدينية ظاهرة طبقة وسطى قوية جداً، وظاهرة أكثر إثارة للرعب لارتباطها
بنخب وتنظيمات متطرفة وشبه فاشية مثل الآر اس اس (RSS)، وأسهل تعبئة، إذن،
بوصفها حركة معادية للإسلام. غير أن ما يدعو إلى الارتياح هو أن علمنة
الطبقة العليا من السياسة الهندية نجحت في قطع الطريق على تلك الظاهرة. لا
يعني ذلك أن النخبة الهندية معادية للدين؛ لعله يعني أن فكرة نهرو
الأساسية كانت متمثلة بإقامة دولة علمانية يكون فيها الدين كلي الحضور ـ
ما من أحد في الهند كان يستطيع أن يفترض غير ذلك، أو كان راغباً بالضرورة
في أن يراها مختلفة ـ ولكنه مقيد بسيادة قيم المجتمع المدني العلمانية.
كانت العلوم تشكل جزءاً مركزياً من ثقافة اليسار قبل الحرب العالمية
الثانية، ولكنها كادت أن تختفي بوصفها عنصراً طليعياً في التفكير الماركسي
أو الاشتراكي خلال العقدين التاليين اللذين كانا بعد تلك الحرب. هل تعتقد
أن من شأن البروز المتنامي لقضايا البيئة أن يعيد المزاوجة بين العلوم
والسياسة الثورية؟ أنا واثق من أن الحركات الجذرية ستكون مهتمة بالعلوم. فالبيئة وهواجس
أخرى تشكل أسباباً وجيهة للوقوف في وجه الهروب من العلوم، ومن المقاربة
العقلانية للمشكلات، ذلك الهروب الذي بات واسع الانتشار من سبعينيات القرن
العشرين إلى ثمانينياته. أما فيما يخص العلماء أنفسهم، فلا أظن أن ذلك
سيحصل. فخلافاً لحال أساتذة العلوم الاجتماعية، ليس ثمة ما يحفز علماء
الطبيعة على الاقتراب من السياسة. وعلى الصعيد التاريخي بقي الأخيرون ـ
علماء الطبيعة، إما بعيدين عن السياسة أو متبنين لسياسة طبقتهم. هناك
استثناءات ـ مثلاً بين الشباب في فرنسا أوائل القرن التاسع عشر، وعلى نحو
بالغ البروز في ثلاثينيات القرن العشرين وأربعينياته. إلا أن تلك حالات
خاصة، ناجمة عن تسليم العلماء أنفسهم بأن عملهم أصبح موشكاً على أن يغدو
ضرورياً بالنسبة إلى المجتمع، ولكن الأخير لم يكن مدركاً للأمر. لعل
المؤلَّف الحاسم حول الموضوع هو كتاب بيرنال: الوظيفة الاجتماعية للعلم
الذي كان له تأثير هائل في علماء آخرين. من الطبيعي أن يكون عدوان هتلر
المدروس على كل ما هو في صف العلوم قد ساعد على تعميق الهوة بين العلم
والسياسة.
في القرن العشرين كانت العلوم الفيزيائية مركز التطور والتنمية، في حين
أن المركز في القرن الواحد والعشرين انتقل بوضوح إلى العلوم البيولوجية.
ونظراً لأن الأخيرة أقرب إلى حياة البشر، فقد تنطوي على قدر أكبر من عناصر
التسييس. إلا أن هناك، يقيناً، عامل مضاد واحد: لقد جرى على نحو متزايد
إذابة العلماء في بوتقة النظام الرأسمالي، بوصفهم أفراداً من ناحية وداخل
أطر تنظيمية علمية من ناحية ثانية، على حد سواء. قبل أربعين عاماً كان من
غير القابل للتصور أن يبادر أحد إلى الكلام عن تسجيل براءة اكتشاف إحدى
المورِّثات الجينية. أما اليوم فيسارع المرء إلى تسجيل اكتشافه هذا أملاً
في أن يصبح مليونيراً، ما أفضى إلى إبعاد كتلة لا يستهان بها من العلماء
عن السياسة اليسارية. لعل الأمر الوحيد الذي لا يزال مؤهلاً لتسييسهم هو
النضال ضد الحكومات الدكتاتورية التسلطية القامعة التي تدس أنفها في
عملهم. وقد تمثلت إحدى الظواهر المثيرة للاهتمام في الاتحاد السوفيتي
بظاهرة اضطرار العلماء السوفييت إلى الانخراط في السياسة، لأنهم كانوا
متمتعين بامتياز درجة معينة من حقوق المواطن وحرياته ـ ما أدى إلى تحويل
أناس لم يكونوا، لولا ذلك الامتياز، إلا مصنِّعي قنابل هدروجينية موالين،
إلى قادة معارضة منشقين. ليس حصول الأمر نفسه في بلدان أخرى مستحيلاً، على
الرغم من عدم وجود حالات كثيرة في اللحظة الراهنة. تبقى البيئة، بالطبع،
قضية مؤهلة ربما لإبقاء عدد من العلماء مستنفرين. وإذا ما جرى تطوير كبير
لموجة حملات حول التغير المناخي، فإن من شأن الخبراء أن يجدوا أنفسهم
منخرطين بوضوح، في معارك التصدي للجهلة والرجعيين. إذن، لم يضع كل شيء.
عودة
إلى مسائل كتابة التاريخ: ما الذي أدى أساساً إلى اجتذابك إلى موضوع الصيغ
القديمة للحراك الاجتماعي في "عصاة بدائيون"، وإلى أي مدى كنت قد خططت
للموضوع سلفاً؟ تطور الموضوع من تزاوج أمرين.
في أسفاري في طول إيطاليا وعرضها إبان خمسينيات القرن العشرين ظللت أكتشف
جملة هذه الظواهر الشاذة ـ فروع حزبية في الجنوب دائبة على انتخاب شهود
يهوه أمناء حزبيين، وما شابه؛ أناس عاكفون على الانشغال بالتفكير حول
مشكلات حديثة، ولكن من منطلقات مغايرة لما ألفناها. ثانياً، كان الموضوع،
ولا سيما بعد 1956، معبراً عن نوع من عدم الاقتناع العام بالطبعة المبسطة
التي كانت لدينا عن تطور حركات الطبقة العاملة الشعبية. في كتاب "عصاة
بدائيون" كنت بعيداً جداً عن اتخاذ موقف نقدي من القراءة المعتمدة ـ لعل
العكس هو الصحيح، أبرزت أن ليس من شأن هذه الحركات الأخرى أن تفضي إلى أي
شيء ما لم تبادر، عاجلاً أو آجلاً، إلى تبني المفردات والمؤسسات الحديثة.
غير أنني ما لبثت أن اكتشفت أن مجرد تجاهل هذه الظواهر الأخرى، رغم أننا
نعرف كيف تعمل كل هذه الأشياء، لم يكن كافياً. أنتجت سلسلة من الشروح، من
الدراسات الميدانية التي هي من هذه النوعية، وقلت: ’هذه ليست مطابقة‘. رحت
أفكر بأن الناس كانوا، حتى قبل اختراع المفردات، المناهج والمؤسسات
السياسية الحديثة، متوفرين على طرق وأساليب مكنتهم من ممارسة السياسة. طرق
وأساليب منطوية على أفكار أساسية حول العلاقات الاجتماعية ـ ولا سيما بين
الأقوياء والضعفاء بين الحكام والمحكومين ـ أفكار ينظمها منطق معين
ومتناغمة فيما بينها. غير أنني لم أجد في الحقيقة أي فرصة للسير قدماً في
هذا البحث، على الرغم من أنني ما لبثت لاحقاً، حين قرأت كتاب الظلم لمؤلفه
بارنغتون مور، أن اهتديت إلى مفتاح من شأنه أن يمكّن المرء من الوصول إلى
نتيجة. لعلها كانت تلك بداية شيء لم تتم متابعته بالمطلق في الحقيقة،
وأجدني ميالاً إلى أن أكون نادماً. ما زلت آمل في أن أحاول القيام بشيء ما
حول الموضوع.
في
كتاب عصر مثير(2)، عبرت عن قدر لا يستهان به من التحفظات حول ما كانت
آنذاك أنماطاً تاريخية حديثة. هل ترى أن المشهد التأريخي باق دون أي تغيير
نسبياً؟ إنني متزايد الانبهار بمدى التحول
الفكري الحاصل في التاريخ والعلوم الاجتماعية منذ سبعينيات القرن العشرين
وصاعداً. فجيلي من المؤرخين، الذي تولى عموماً قلب تدريس التاريخ جنباً
إلى جنب مع أشياء أخرى كثيرة، كان، من حيث الجوهر، دائباً على ترسيخ علاقة
دائمة، تزاوج إغناء واغتناء متبادل، بين التاريخ والعلوم الاجتماعية؛ وهو
دأب عائد بجذوره إلى تسعينيات القرن التاسع عشر. اتخذ الاقتصاد مساراً
مختلفاً. سلّمنا بأننا كنا نتحدث عن شيء واقعي؛ عن وقائع موضوعية؛ على
الرغم من يقيننا أن أحداً لم يُقْدِم، منذ ماركس وسوسيولوجيا المعرفة، على
تسجيل الحقيقة كما هي ببساطة. غير أن ما كان منطوياً فعلاً على أهمية تمثل
بجملة التحولات الاجتماعية. شكلت أزمة الكساد الكبرى أداة على هذا الصعيد،
لأنها أعادت إبراز الدور الذي تضطلع به الأزمات الكبرى في التحولات
التاريخية ـ أزمة القرن الرابع عشر، الانتقال إلى النظام الرأسمالي.
وبالفعل فإن الماركسيين هم الذين تولوا طرح هذا ـ إن فلهلم آبل، في
ألمانيا، كان أول من أعاد قراءة تطورات العصور الوسطى في ضوء أزمة
ثلاثينيات القرن العشرين الكبرى. كنا معشر حلاّلي مشاكل، مشغولين بالمسائل
الكبرى. كان ثمة أمور أخرى وضعناها في قاع سلم الأولويات: كنا شديدي
العداء لتاريخ كبار القوم التقليدي، أو لتاريخ الأفكار من المنطلق نفسه،
ما أدى إلى جعلنا ننبذ ذلك كله. لم يكن ذلك موقفاً ماركسياً خاصاً ـ كانت
تلك مقاربة عامة اعتمدها الفيبريون في ألمانيا؛ اعتمدها في فرنسا أناس دون
أي خلفية ماركسية، من المتحدرين من مدرسة الحوليات؛ واعتمدها أساتذة علوم
اجتماعية أمريكيون، بطريقتهم الخاصة.
عند أحد المنعطفات في سبعينيات القرن العشرين وقع انقلاب حاد. نشَرَتْ
الماضي والحاضر سجالاً بيني وبين لورنس ستون في 1979 ـ 1980 حول ’صحوة
السرد‘ ـ ’ما الذي يجري مع أسئلة لماذا الكبرى؟‘. ومنذ ذلك التاريخ تعرضت
الأسئلة التحويلية الكبيرة عموماً للنسيان من قبل المؤرخين. وفي الوقت
نفسه كان ثمة توسيع كبير لمدى التاريخ ـ بتنا قادرين على الكتابة عن كل
شيء يخطر ببالنا: عن الأشياء، العواطف، الممارسات. بعض هذا كان مثيراً،
غير أن زيادة هائلة كانت قد حصلت فيما يمكنك أن تطلق عليه تاريخ المعجبين
والهواة، ذلك التاريخ الذي تدوِّنه الجماعات لمجرد أن تشعر بالرضا عن
نفسها. كان المقصد تافهاً؛ أما النتائج فلم تكن دائماً كذلك. فقبل بضعة
أيام لاحظت مجلة تاريخ عمالي جديد فيها مقالة عن الزنوج في ويلز في القرن
الثامن عشر. ومهما كانت أهمية الأمر بالنسبة إلى الزنوج في ويلز، فإنه ليس
بحد ذاته موضوعاً استثنائي المركزية. لعل الأشد خطراً في الحدث هو،
بالطبع، صعود الخرافة (الميثولوجيا) القومية، أحد إفرازات مضاعفة عدد
الدول الجديدة، التي تعين عليها أن تجترح تواريخها القومية ـ الوطنية.
يتمثل عنصر وازن في هذا بشروع الناس في قول: ’لسنا مهتمين بما حصل، بل بما
يُشعرنا بالرضا والراحة. والمثال الكلاسيكي لذلك هو سكان أمريكا الأصليون
الذين دأبوا على رفض فكرة أن أسلافهم كانوا قد هاجروا من آسيا، وأصروا على
قول: ’لقد كنا هنا دائماً‘.
إن جزءاً لا يستهان به من الأمر كان سياسياً بمعنى ما. فالمؤرخون
الخارجون من زحمة عام 68 لم يعودوا مهتمين بالمسائل الكبرى ـ رأوا أنها
كانت قد باتت، جميعاً، محلولة. كانوا أكثر اهتماماً بالجوانب الطوعية ـ
الإرادوية أو الشخصية. كانت الورشة التاريخية تطوراً لاحقاً من هذا النوع.
لا أظن أن أنماط التاريخ الجديدة قد تمخضت عن أي تغييرات دراماتيكية. ففي
فرنسا، مثلاً، ليس تاريخ ما بعد بروديل رقعة على جلباب جيل خمسينيات القرن
العشرين وستيناته. ربما هناك عمل بالغ الجودة من حين لآخر، ولكن ذلك ليس
هو الشيء نفسه. وأ
الإثنين يونيو 27, 2011 4:15 am من طرف زمرودة