'الجزيرة' تسخر من التلفزيون السوري... والشعوب لم تعد تصدق أن تونس ومصر لا تشبهان إلا نفسيهما
محمد منصور
2011-02-15
حين قامت الثورة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر،
هبت رياحها على عموم أوروبا لأكثر من نصف قرن... فانتقلت عدواها إلى بلدان
أوروبا كلها، ومن لم تلفحه رياح الثورة، لفحته رياح الإصلاحات القسرية
الجذرية التي طالت بلدا الأوضاع فيه كانت جيدة عموماً كسويسرا.
ولهذا
اعتبرت أوروبا بعد الثورة الفرنسية، ليست كأوروبا قبلها، فقد غدت فترة
تحولات سياسية واجتماعية كبرى في التاريخ السياسي والثقافي ليس لفرنسا فقط
بل لأوروبا بوجه عام.
حدث هذا في زمن لم تكن فيه فضائيات ولا انترنت ولا
مواقع تواصل اجتماعي من فيسبوك وتويتر وغيرها، ولم تكن هناك صور تلفزيونية
تؤثر، ومقاطع فيديو تلهب المشاعر، وآراء لمفكرين وكتاب وسياسيين يظهرون
على الشاشات على مدار الساعة... فما الذي يمكن ان يحدث بعد الثورتين
التونسية والمصرية، ونحن نعيش معهما لحظة بلحظة، شئنا أم أبينا؟
هذه
الفكرة ناقشها برنامج (في العمق) على قناة (الجزيرة) حين أشار مقدمه علي
الظفيري ضاحكاً (وأظنه متشفياً) إلى اشتداد الطلبات في العالم العربي على
الثورات هذه الأيام، وزاد عليها العديد من ضيوف البرنامج فأشاروا إلى أنه
من الصعب التنبؤ بإجابة دقيقة على: أين ومتى؟ في الحديث عن الانتفاضة
المرتقبة القادمة... لكن من التغابي والتعامي القول إن ما حدث سيتوقف عند
تونس ومصر فقط... إنها رياح تهب على المنطقة كلها، ومن الخطأ الادعاء أنها
ستتوقف عند حدود معينة.
قبل مصر، كان أعمدة النظام المصري يقولون: (بلاش
كلام فارغ... مصر مش تونس) وبعد سقوط مبارك ظهر بعض المنتفعين في الجزائر
ليرددوا (بوتفليقة ليس مبارك) وبعيداً عن تحديد أسماء جديدة ينكر أصحابها
أن تكون بلدانهم الزاهرة، تمت بصلة شبه أو نسب إلى تونس أو مصر، فقد شاهد
المشاهد العربي بعد سقوط مبارك كم التقارير التلفزيونية والبرامج والندوات،
التي أظهرت بنية النظام المصري، وكم كان يشبه النظام التونسي، وكم هو يشبه
أيضاً أنظمة عربية أخرى، تدعي أن الوضع فيها مستقر، وأن الشعب ملتف حول
القائد، وأن الناس راضون مطمئنون، ومستعدون لفداء زعمائهم بالروح والدم!
حين
كان يقال مثل هذا الكلام قبل أحداث تونس ومصر... كانت الصحافة الغربية
تسخر من هذه الادعاءات وتتعامل معها باعتبارها جزءا من خطاب خشبي مزمن يميز
ادعاءات الإعلام العربي... وكانت النخب تعرض عن هذه التأكيدات غير
المؤكدة، وتلوذ بالصمت حتى لا تتهم بوهن نفسية الأمة... لكن بعدما جرى، لم
تعد هذه الأمة تصدق ما يروج باسمها، ورأت بأم عينيها أن ملايين المنتسبين
للحزبين الحاكمين في تونس ومصر، ذابت بعد أن سقطت أنظمتها مثل رغوة
الصابون... أين الرفاق المناضلون؟ وأين الحزب العقائدي؟ وأين التعبير عن
تطلعات الشعب وعن ضمير الأمة؟
لقد اكتشفت الشعوب العربية بالأمثلة
الحية أن تلك الأحزاب بملايينها لم تكن تعبر عن أي كيان سياسي حقيقي، وليست
سوى مجموعة من المنتفعين والانتهازيين، الذين يسقطون زمن الثورات الحقيقية
بأسرع مما يظن الذين يكرهونهم... لم تكن تونس ومصر بحاجة لقانون (اجتثاث
البعث) الذي فبركه المحتل الأمريكي في العراق، بل اجتث الشعب هذه الأحزاب
على وقع ما يضمره لها من كراهية مزمنة صنعتها المظالم، والتزوير، والتمييز
بين أبناء البلد، على أساس الانتماء للحزب الحاكم والولاء للمنتفعين الصغار
فيه... فهل سيجرؤ أحد بعد الآن أن يقول لنا إن هذا الحزب الحاكم والمسيطر
على مقاليد الحكم في هذا البلد العربي أو ذاك هو تعبير عن ضمير الأمة...
وأعضاءه طليعة نضالها، وأبناء أعضائه أمل الغد وحملة مشاعل الكفاح، على من
سيكذبون بعد الآن؟
وهذه الترسانة الإعلامية الفاضحة التي انكشفت عورتها
بعد سقوط النظامين الاستبداديين الاستخباراتيين في تونس ومصر... والتي
صارت أقوال جهابذتها: (قبل وبعد) مادة للتندر ليس على شاشات المحطات
التلفزيونية فقط وفي نشرات أخبارها، بل على مواقع التواصل الاجتماعي على
شبكة الانترنت أيضاً... هل من يحتاج لأن تمارس دورها نفسه مع أنظمة أخرى،
قد يعجل الكذب الإعلامي الذي يمارسه إعلامها في استفزاز الناس، أكثر مما
يؤجل زمن سقوطها كما يظن وزراء الإعلام الذين صارت مهمتهم بيع الكذب للناس
والأنظمة بالجملة والمفرق، والذي يرون الآن في أنس الفقي، صورة عن مصيرهم
المرتقب لو ساروا على النهج نفسه الذي سار عليه، من دون تحقيق نجاحات تذكر
يمكن أن يحفظ آخرته كي لا يردد آسفاً على وقع أغنية رسالة من تحت الماء:
(لو أني أعرف خاتمتي ما كنت بدأت)!
وهذه الموافقات الأمنية التي كان
يحتاجها المواطن التونسي والمصري إذا أراد أن يعمل في صحيفة حكومية أو
ينتسب إلى التلفزيون الرسمي في بلده، أو يصدر صحيفة، أو يحرر مطبوعة، أو أن
يراسل حتى مجلة أطفال في الخارج...هل من يجرؤ أن يقول إنها كانت اختراعاً
تونسياً ومصرياً فقط، وليست موجودة بنفس آلية القهر والإذلال في أنظمة
عربية أخرى.. وما زالت موجودة أيضاً؟ وماذا عن صور الزنازين الضيقة،
والسجون التي اقتحمها الناس فنقلت الشاشات فظائعها، وروايات التعذيب في
مقرات المخابرات... هل يستطيع أي زعيم عربي أن يؤكد وهو مرتاح الضمير أن
نظامه ليس لديه منها... ولذلك الوضع لديه مستقر، والحب والرضا يملآن أرجاء
وطنه العزيز، الذي يعتز فيه الإنسان أيضاً؟
لقد كانت ثورة تونس حدثاُ
مفاجئاً مباغتاً لم يتنبه لخطورته حتى نظام بن علي المصفّح نفسه... لكن بعد
سقوط نظام مبارك، لم يعد الحدث المصري مفاجئاً، بل صار تياراً واضحاً
للعيان، وعنوانا من عناوين التغيير في المنطقة... ومهما تعامت الأنظمة عن
قراءته كذلك، ومهما فَجَرَ إعلامها الرسمي ومستكتبوه في الكذب وبيع
الأوهام، وتزوير مشاعر الناس عبر مظاهرات التأييد... فهذا لن يفيد تلك
الأنظمة... ما يفيدها حقاً هو جملة من الإصلاحات والتغييرات الجذرية
الواسعة والشجاعة، التي تبقي حرية التعبير والإعلام، ثم محاربة الفساد على
رأس قائمتها... لأنه لا معنى لمحاربة الفساد في بلدان تدار بالريموت كنترول
الأمني، وتفتح فيها الملفات وتغلق على وقع الرضا الأمني والغضب الأمني، من
دون إعلام حر... ولأن من ثاروا في تونس ومصر لم يثوروا لأنهم يعترضون على
السياسة الخارجية لبلدانهم... بل ثاروا لأنهم يريدون الخبز والكرامة معا!
التلفزيون السوري: صحوة ما بعد الذروة
استفاق
التلفزيون السوري على أحداث مصر، بعد إعلان عمر سليمان تنحي مبارك عن
الحكم وتخليه عن منصب رئاسة الجمهورية، وهو حتى ما قبل دقائق قليلة من هذا
الخطاب الشافي الوافي، كان يغط مع من تبقى من مشاهديه في متابعة مباراة بين
الكرامة والشرطة.
وفجأة دقت النخوة الإعلامية في رؤوس الزملاء، وكان
القرار المذهل: قطع برامج التلفزيون السوري، والنقل المباشر عبر بث صور
قناة (الجزيرة) الصديقة... لدرجة أخجلت تواضع (الجزيرة) فوضعت هذه الصحوة
الإعلامية كخبر عاجل يفيد بأن التلفزيون السوري يقطع بثه وينضم للجزيرة،
وهو في واقع الحال، خبر قد يفهم منه السخرية، فلو قلنا مثلاً في مثل تلك
اللحظات إن (العربية) أو (الحرة) أو (البي بي سي)، تتابع أحداث مصر في تلك
اللحظة لضحك الناس على الخبر، فحدث بهذا الحجم من الطبيعي لأي محطة
تلفزيونية تحترم دورها أن تتابعه، من دون أن يستحق على ذلك مرحى تشجيعية من
أحد... وبالتالي فالخبر الذي بثته الجزيرة هو في أحسن الأحوال مدح بصيغة
الذم.
لكن الجزيرة لم تتوقف عند هذا الخبر وحسب، بل أتبعته بخبر عاجل
آخر عن صديقها المثير للشفقة، يفيد بأن التلفزيون السوري الصديق يرى في
سقوط نظام مبارك سقوطاً لنظام كامب ديفيد.
الله أكبر.. دقت ساعة العمل
الثوري.. وحانت نهاية إسرائيل. كنت أتمنى أن يظهر لنا التلفزيون السوري
الذي تبنى هذا التحليل الشعاراتي الجاهز والمسبق الصنع، صورة واحدة لشخص
يرفع شعار: يسقط كامب ديفيد كي أصدق... لكن يبدو أن محللي التلفزيون السوري
ومذيعيه ما زالوا يعيشون في زمن الرئيس المؤمن محمد أنور السادات، ويحللون
حادثة المنصة على الهواء مباشرة.. ولم يسمعوا بعد بثلاثين عاماً من حكم
مبارك كان عنوانها القمع ومصادرة حرية التعبير وتزوير الانتخابات ومحاولة
شراء الذمم والضمائر، وتجويع وإذلال الناس، والمليارات المنهوبة من قوت
الشعب، والأقرباء والأبناء الذين صارت البلد مزرعة لهم... والشباب العاطل
عن العمل الذي اصطدم في النهاية بجدار اليأس الأخير في معركة حياة أو موت.
لا
تضحكوا على أنفسكم يا جهابذة التلفزيون السوري ومن سار في ركب حكمتكم...
صحيح أن أي عربي حي الضمير يكره كامب ديفيد ويسقطه من حسبانه سياسياً
ووجدانياً... لكن لا يوجد عربي لديه ذرة عقل، لا يعرف أن الشعوب اليوم تثور
لكرامتها ولانتزاع حقها في حرية التعبير وفي إصلاح أوطانها، وفي محاربة
الفساد، وفي إنهاء قمع حكم المخابرات... فهذه الأشياء وحدها هي سبيلنا
لمحاربة إسرائيل... لأن من لا يشعر بكرامته وحريته في وطنه، لن يكون حراً
كريماً قوياً في مواجهة عدوه!