منذ
ثبات الثوار يوم الجمعة 28 يناير في وجه الاعتداءات الأمنية واعتصامهم
بميدان الشهداء أو التحرير، أدرك كثير من المتابعين الذين يجيدون قراءة
الواقع والتاريخ أن تلك الثورة مآلها النجاح والعقلاء منهم كانوا يسألون
سرا أو جهرا عما يخبأه اليوم التالي لنجاح الثورة ، فمن اخطر أعداء الثورة
هم أصحاب الثورة أنفسهم حين يحاولون قطف ثمارها سريعا غافلين عن أن الحصاد
يأتي بعد البذر بفترة ولا يعقبه مباشرة ، والحديث هنا لا يدور حول المطالب
السياسية للثورة كإلغاء حالة الطوارئ ،وانتخاب جمعية تأسيسية لوضع دستور
جديد، والإفراج عن المعتقلين، ووقف محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية
،وحل مجلسي الشعب والشورى وإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية في مدة لا تزيد
علي ستة أشهر فكل هذه مطالب نتمنى جميعا أن نراها تتحقق اليوم وليس غدا ،
ولكن الحديث هنا يدور حول المطالب الاجتماعية و الفئوية التي بدأت في
التصاعد علي إيقاع نغمات النصر ، وهي مطالب تتعلق في مجملها بتحسين ظروف
معيشة المواطن كالمطالبة بتحسين الأجور ،أو توفير وظائف ،أو تثبيت للعمالة
المؤقتة ،أو توفير مسكن وما إلي ذلك وهي مطالب شرعية لاشك في ذلك ولكن
تصاعد وتيرتها واختلاطها علي هذا النحو سوف يربك المجتمع ويشتته وقد
يقسمه ويقوده إلي ما يشبه الحرب الأهلية في حال تضارب مصالح فئة مع فئة
آخري خاصة في ظل ضعف التواجد الأمني وهو الأمر الذي لا نتمناه جميعا ،
إضافة إلي انه كونه سيصرف أنظار الحكومة أيا كان اسمها تسير أعمال أو مؤقتة
أو حتى منتخبة عن القضية الأساسية التي يجب أن يضعها كل مصري في قلبه
وعقله وهي محاولة بناء وطن تم تخريبه بشكل منظم علي مدار ثلاثين عاما أو
يزيد، فالدولة في هذا الأمر بين خيارين أحلاهما مر إما حل هذه المشكلات
بشكل جزئي وعاجل بحيث تهدئ من روع المحتجين في محاولة للحفاظ علي ما تبقي
من النظام ،أو سوف تتجاهل الاحتجاجات مما يزيد الأمر تعقيدا ، خاصة حين
يحصل صاحب الصوت الاعلي علي جزءا من حقوقه أو ما يعتقد أنها كذلك و تبقي
المشكلة عالقة بالنسبة لقطاعات أخري لم تحتج أو لم يسمع صوتها . ولنأخذ
مثالا علي ذلك فحل مشكلة البطالة ليست في تعيبين العمالة المؤقتة ،أو منح
وظائف لبعض المحتجين فذلك لن يقضي علي هذه المشكلة نهائيا فالأمر يحتاج إلي
نظرة عامة تبدأ بالتعليم وتنمية الموارد، والقدرة الإنتاجية، وزيادة
استثمارات القطاع الخاص وهي خطوات معروفة جيدا للخبراء ،ولكن لم يتح
المجال لتطبيقها بشكل جدي خلال نظام الحكم السابق.
إن أجمل ما سرقه
منا نظام مبارك وأعادته إلينا ثورة الخامس والعشرين من يناير هو الالتئام
حول مائدة الوطن ، ففي الماضي القريب كان كل منا يبحث عن خلاصه الذاتي
غافلا أو متغافلا عن الخلاص الجمعي الذي هو الخلاص الحقيقي ، وان الوطن
ليس تلك المساحة من الأرض التي تضمنا ولكنه ذلك البناء الحضاري الذي نقيمه
من سواعدنا معا وفق خطة منظمة ومعدة سلفا بحيث لا يحتمل تشوه أو نقصان في
احد أجزاءه ، إن التحول السياسي الذي أحدثته الثورة لابد أن يصاحبه تحول في
الخطاب الفكري داخل المجتمع وإلا ستصبح كارثة ، وهو الدور المفترض أن
يؤديه الدين والإعلام والفن ، فإزاحة رأس النظام لا يعني النصر النهائي
للثورة أو القضاء علي النظام فالجسد لازال يحتل مساحة من الفراغ تمددت عبر
ثلاثة عقود وتحتاج إزالته لبعض الوقت وكثير من الصبر من قبل أفراد المجتمع ،
خاصة إن الإزالة علي طريقة انسف حمامك القديم قد يقودنا إلي كارثة من نوع
آخر فمن المتعارف عليه انه في حالة تغيير أي نظام لابد من الإبقاء علي بعض
العناصر الإدارية من النظام القديم خاصة أولئك الملمون ببواطن الأمور حتى
يتسنى أن تسير عملية الإحلال والتجديد بشكل جيد.
و إذا كنا نطالب
المجتمع التحلي بالصبر فإننا نطالب المجلس الاعلي للقوات المسلحة أن يتخذ
قرارات سريعة فيما يخص القضايا الكبرى كالطوارئ وغيرها بحيث يطمئن الجموع
أن ما هو قادم أفضل ، وأن يدرك أن الفرق بين النجاح والفشل في إدارة أي
مؤسسة هو اتخاذ القرار الصحيح في الوقت الصحيح.
واقترح أن يسعي إلي
تشكيل لجان لتلقي شكاوي المواطنين علي أن يتم تقسيمها وفقا لنوعيتها ،وان
تنتشر فروع لهذه اللجان في كافة محافظات الجمهورية تيسرا علي
المواطنين،بحيث تكون تابعة لرئيس الوزراء وتقوم اللجان الفرعية بتصنيف تلك
المشاكل وتحليلها إن أمكن ثم ترسل بها إلي اللجنة الرئيسية والتي تضم عددا
من الخبراء يقومون بوضع حل نهائي وجمعي للمشكلة خلال وقت زمني معقول ومحدد
سلفا ويمكن الاستعانة بذلك الجهاز الذي يدعي اللجان القومية المتخصصة
والذي لازال يبحث منذ إنشائه عن وظيفة ، اعلم انه في مصر تنتشر مقولة انه
إذا أردت أن تقتل انجازا ما فشكل له لجنة ولكننا علينا أن نثق لا بالإدارة
الجديدة ولكن بأنفسنا وبما استطاع الشعب انجازه وهو ليس بالقليل.
إن
تلك النفخة الثورية التي بثتها الثورة في المجتمع فبثت فيه روحا جديدة
لابد أن تستمر مع تغيير في الآليات ، فإذا كانت آليات إزاحة النظام هي
الاعتصام والتظاهر فان آليات المرحلة القادمة هي العمل الجمعي مع إنكار
للذات حتى نستطيع أن نجني جميعا ثمار الثورة.