** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
الرئيسيةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوع
 

 ماذا كانت ما بعد الحداثة*

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
حياة
فريق العمـــــل *****
حياة


عدد الرسائل : 1546

الموقع : صهوة الشعر
تعاليق : اللغة العربية اكثر الاختراعات عبقرية انها اجمل لغة على الارض
تاريخ التسجيل : 23/02/2009
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 10

ماذا كانت ما بعد الحداثة* Empty
25092012
مُساهمةماذا كانت ما بعد الحداثة*

د. معن الطائي









ماذا كانت ما بعد الحداثة* Thumbnail.php?file=maan_altaee_212386423














يرى
الناقد الثقافي البارز لويد سبنسر بأن الانخراط بمحاولات تعريف مصطلحات
مثل التحديث والحداثة وما بعد الحداثة وما بعد الحداثية أشبه بالدخول في
متاهة (1). إن مثل تلك المصطلحات تغطي مجالات متعددة ومتنوعة ومتباينة من
الممارسة الإنسانية والحضارية على الصعيد المادي والثقافي. ذلك أنها تحمل
دلالات تشير إلى الحالة الاقتصادية والسياسية، كما أنها قد تشير إلى الواقع
الثقافي والفلسفي والتعليمي، بل وحتى النفسي للأفراد في مجتمع معين وفي
لحظة تاريخية محددة.
يصف نايجل واطسون (Nigel Watson)، من جامعة
ساندرلاند، ما بعد الحداثة بالحالة الثقافية غير واضحة المعالم والتي تكونت
نتيجة لتغيرات عميقة في البنية الاجتماعية والثقافية التي قادت إلى تكون
عمليات إدراك جديدة لصورة الواقع. وتشكلت هذه الحالة من مجموعة من القضايا
الثقافية والاجتماعية مثل الحنين إلى الماضي والدمج والثقافة الشعبية
والحركات الاجتماعية والثقافية المتمردة وتفكيك السرديات الكبرى وتجاوز
الأيديولوجيات والأخلاقيات السائدة، ومكنت ما بعد الحداثة المفكرين والنقاد
والفنانين من تفسير التغيرات الهامة في طبيعة التجربة الاجتماعية على مدى
الخمسين سنة الماضية(2). بينما يصفها لويد سبنسر بأنها تلك الحركة الثقافية
والتاريخية التي تتضمن في داخلها مفاهيم متناقضة من حيث كونها وريثة
الحداثة وثقافتها ونتاج تاريخي وطبيعي لقضاياها واشكالياتها، وفي الوقت
نفسه، تجاوزا لتلك الحداثة وقطيعة معرفية وثقافية معها نحو حقبة جديدة. وهي
عبارة عن حالة شعورية عامة أكثر من كونها برنامجا معرفياً أو ثقافياً
يتضمن فقرات واضحة وخطة عمل موحدة (3). تتبنى ما بعد الحداثة مواقف تشكيكية
تجاه العديد من المبادئ والمعتقدات التي هيمنت على العقل الغربي والحياة
الاجتماعية منذ الثورة الصناعية. والتي شكلت ما أطلق عليه الحداثة. وتتضمن
الحداثة، بصورة عامة، الإيمان بحتمية العلم والتقدم في كافه مجالات السعي
الإنساني والتمسك بقوى العقل والالتزام بالأصالة في الفكر والتعبير الفني.
ويشير كل من ريتشارد كوك وكريس سميث في كتابهما المشترك (انتحار الغرب) إلى
أن الحضارة الغربية في مرحلة ما بعد الحداثة "تعيش في تلك المرحلة
الغادرة، الساحرة التي تكون فيها المعتقدات، والأعمال الساندة للحضارة
واقعة تحت الهجوم، وهي بذلك تعطي إشارة إلى تحرك من حضارة إلى أخرى. وحين
تختفي الحضارات، فإنها إما أن تتطور إلى حضارة أخرى، أو أن تنهار تحت وطأة
صعوبة ملائمة طرق قديمة للتعامل بنجاح مع الظروف الجديدة "(4).
و من
المحاولات البارزة لوضع تعريف محدد لما بعد الحداثة على المستوى الثقافي
والفلسفي ما قام به الناقد الأدبي والثقافي المعروف إيهاب حسن من وضع جدول
يتضمن لائحة بالاختلافات بين الحداثة وما بعد الحداثة من خلال التقابل
الثنائي بين المصطلحات والمفاهيم التي ارتبطت بكل حركة. وقد نشر حسن هذا
الجدول ـ الذي أكتسب شهرة كبيرة فيما بعد ـ في مقال له بعنوان (ثقافة ما
بعد الحداثة) والذي ظهر عام 1985. وفيما تقع ضمن الحداثة ـ حسب الجدول
المذكورـ مصطلحات مثل الرومانسية والرمزية، والشكل، والهدف، والتصميم
الفني، والنظام، والإتقان، والتحفة الفنية، والإبداع، والحضور، والتجميع،
والقاعدة ثابتة، والتفسير، والحسم. تتضمن ما بعد الحداثة ـ بالمقابل ـ
مصطلحات ومفاهيم مناقضة تماما، مثل الدادائية، وضد الشكل أو الشكل المفتوح،
والعبث، والفرصة والصدفة، والفوضى، والتفكيك، والغياب، والتفريق، والأسلوب
الشخصي، وضد التفسير، واللا-حسم، والسخرية(5).
وهنا لابد من الإشارة
إلى وجود تصوريين متعارضين عن ما بعد الحداثة يصدران عن اثنين من أبرز
فلاسفة ما بعد الحداثة وهما جان فرانسوا ليوتار وفريدريك جيمسون.
يطرح
ليوتار تصوره عن ما بعد الحداثة في كتابه الشهير (حالة ما بعد الحداثة The
Postmodern Condition: A Report on Knowledge) والصادر عام 1979، بوصفها
حركة تتكرر دوما في التاريخ وتحدث بالتتابع والتوالي مع الحداثة. فالتاريخ
بالنسبة لليوتار هو حلقات من متتاليات الحداثة وما بعد الحداثة. ففي الماضي
كانت هناك مراحل تاريخية تتماهى مع وصفنا للحداثة تسود فيها النزعة
الوثوقية وتبدو فيها القضايا الإشكالية شديدة الوضوح والتمايز، تعقبها
مراحل تتماهى مع وصفنا لحالة ما بعد الحداثة، حيث تهيمن الميول العدمية
ويتزعزع الإيمان بالقيم المطلقة والمتعالية، وتطرح كل المسلمات للمساءلة
والتشكيك والبحث الفلسفي. وتمثل الحداثة مرحلة ثبات واستقرار، بينما تمثل
ما بعد الحداثة مرحلة تغير وتبدل وتحول(6). وبهذا التوصيف ذو البعد
التاريخي يعطل ليوتار العلاقة الجدلية بين ما بعد الحداثة واللحظة
التاريخية التي تمر بها الرأسمالية المتأخرة. يبدو هذا التوصيف محايدا
وموضوعياً في نظرته لتاريخ تطور الحضارة الغربية، لكنه يتعامى عن حقيقة كون
ما بعد الحداثة بميولها العدمية ونزعتها التشكيكية المتطرفه قد تكون
تعبيراً عن أزمة المجتمعات الغربية في لحظة معينة، وهي تنتقل من مظاهر
الرأسمالية التنافسية أو الاحتكارية إلى الرأسمالية العالمية أوالمتعددة
الجنسيات بعد الحرب العالمية الثانية، وما يمثله هذا الانتقال من تحول جذري
من المجتمع الصناعي البرجوازي إلى المجتمع ما بعد الصناعي أو مجتمع
الخدمات أو المجتمع الاستهلاكي. وبذلك يقترب من التيار اليميني المحافظ
الذي يحاول أن يعزل النشاط الثقافي في المجتمع عن النشاطين الاقتصادي
والسياسي. ويؤكد ليوتار أن مرحلة ما بعد الحداثة الحالية قد شهدت نهاية
أسطورة مجتمع التقدم والليبرالية الذي سيقود الإنسانية جمعاء إلى مرحلة
التحرر المطلق والرخاء والرفاهية تحت راية العلم والعقل، وتفكيك لوهم
إمكانية تأسيس أخلاق أو أفكار إنسانية ذات طبيعة شمولية كونية تتخطى
الاختلافات القومية والعرقية والإثنية والثقافية. وقد كشف فلاسفة ما بعد
الحداثة أن مثل تلك الأوهام ليست سوى تعميمات غير مسوغة ولا موضوعية
لمجموعة من الأفكار والدوافع والرغبات التي عبر عنها الرجل الغربي الأبيض
الذي يعد نفسه النموذج الحقيقي لما يجب أن تكون عليه الإنسانية(7). يوضح
ليوتار أن أهم القضايا التي توصل إليها العقل ما بعد الحداثي هي أننا ربما
نتمكن من إدراك صورة الواقع الخارجي والحقيقة الموضوعية المفارقة ولكن
يستحيل علينا التعبير الكامل عن هذا الواقع من خلال اللغة أو أي وسيلة
تواصل إنساني أخرى. وهنا يعلن ليوتار فشل اللغة في تحقيق وظيفتها التقليدية
التي وضعتها الحداثة لها بوصفها وسيلة للتواصل وتداول المعلومات والأفكار.
لقد اختفى الواقع بصورة نهائية في ما بعد الحداثة ولم يعد هنالك شيء يجسر
الهوة بين وعينا وبين الواقع الخارجي. ولم يبقى لنا إلا سيل من الصور
والرموز والإشارات الغامضة المفتوحة الدلالات إلى ما لانهاية. بينما تحولت
اللغة إلى ألعاب لفظية لا تحمل معنى بذاتها ولا تملك وظيفة محددة(8).
وفي
المقابل ينطلق فريدريك جيمسون من مرجعية معرفية ذات جذور ماركسية وهيغلية،
رغم تأثره المبكر بفلسفة فيورباخ، في فهمه للتاريخ وللتطور الحضاري
والثقافي. ويتبنى جيمسون المادية الجدلية في دراساته القيمة عن تحولات
وتغيرات المجتمعات الغربية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وأثرها على
الأعمال الأدبية والفنية والثقافية. ولذلك يجد جيمسون علاقة جدلية وثيقة
بين التحولات الجذرية الشاملة التي طرأت على الرأسمالية الصناعية أو
التنافسية في النصف الثاني من القرن الماضي، وظهور وتطور حالة ما بعد
الحداثة. ويصنف جيمسون هذه المرحلة بوصفها مرحلة الرأسمالية المتأخرة، في
نوع من المحاكاة لتوصيف لينين للرأسمالية في بدايات القرن الماضي
بالرأسمالية الإمبريالية. وفي كتابه الأهم (ما بعد الحداثة، أو المنطق
الثقافي للرأسمالية المتأخرةPostmodernism, or The Cultural Logic of Late
Capitalism) والصادر عام 1991، يؤكد جيمسون على أن ما بعد الحداثة هي مرحلة
انتقالية بين مرحلتين من المراحل التاريخية للرأسمالية. ويذهب إلى أن كل
القوى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية المناهضة للرأسمالية
المتأخرة ولهيمنتها قد أصبحت محيدة وغير فاعلة، تتخبط وسط نوع من الفوضى
على صعيد الايدولوجيا والممارسة. لقد نجحت الرأسمالية أخيرا في تحييد
وإقصاء كل معارضة أو ممانعة ممكنة لها(9). ويربط جيمسون بين الحداثة وبين
الآلة البخارية والمحرك، والسعي العلمي للسيطرة على الطبيعة وعلى الإنسان،
والمصانع الضخمة وطبيعة التوزيع السكاني الذي يتمركز حولها، وبنية المجتمع
ذات التقسيم الكلاسيكي بين الطبقة العاملة والطبقة البرجوازية الناهضة إلى
مواقع الهيمنة الثقافية والاقتصادية والسياسية. كما يربط بين ما بعد
الحداثة ومجتمع الاستهلاك، وضمور النشاط الصناعي في مقابل نمو قطاع الخدمات
والاتصالات، وانتشار الراديو والتلفزيون، وانتهاك الخصوصية الفردية،
وانتشار الثقافة الشعبية والمجلات الهابطة(10). ويعتبر جيمسون أن ما بعد
الحداثة نوعا من أنواع الهيمنة الثقافية المتزامنة مع الرأسمالية المتعددة
الجنسيات والتوسع غير المسبوق في السوق العالمية،واختراق وسائل الإعلام كل
جوانب الوجود الإنساني ومستوياته. ويرصد جملة من المتغيرات التي طرأت على
بنية المجتمعات الغربية في النصف الثاني من القرن العشرين، ولعل أهمها
التحول إلى مجتمع ما بعد صناعي قائم على نشاط الشركات الضخمة المتعددة
الجنسيات، وسيطرة الصورة على الواقع بسبب وسائل الإعلام واستراتيجيات
الإعلانات الترويجية التجارية التي تعتمد على الإبهار البصري، وتراجع
الإنتاجية والتصنيع مقابل التضخم في معدلات الإنفاق الاستهلاكي، والخضوع
لتيارات الموضة المتغيرة والمتبدلة بسرعة، وزوال التوتر بين المدينة
والقرية ليحل محلها التوتر بين المحلي والعالمي، ونمو شبكات الطرق الضخمة
وحلول ثقافة السيارات، وزوال الإحساس بالتاريخ والعيش في حاضر سرمدي وطمس
التراث أو تشويهه(11).
إن سرعة تناول الخبر في وسائل الإعلام الحديثة
وشريط الأخبار العاجل الذي لا يلبث أن يختفي، تدفعنا إلى التشتت والنسيان
وفقدان الذاكرة التاريخية. وتحول اللحظة الراهنة إلى الماضي بشكل سريع
ومتواتر، يفتت الزمن إلى سلسلة من الحواضر السرمدية اللانهائية. إن ما بعد
الحداثة هي حركة بدون ذاكرة لا تعترف بالماضي، إلا بصيغة الحنين العاطفي
السطحي، ولا تنشغل بالمستقبل، لأنها لا تؤمن بوجود ذلك المستقبل، وبذلك
فإنها تعيش في اللحظة الراهنة إلى الأبد. إن هذه الفكرة هي بالضبط ما يرفضه
النقاد الثقافيون اليساريون في ما بعد الحداثة. حيث تتحول الحركة إلى نوع
من الخداع الذاتي الذي يهدف إلى جعل الحالة الراهنة لهيمنة الرأسمالية
الليبرالية المتطرفة تبدو وكأنها نهاية التاريخ ـ كما يقول فوكوياماـ ولا
تمتلك البشرية خيارات أخرى للخروج من الأزمة ولا فرص لتغييرها على أقل
تقدير. إنها اللحظة التي ستحيا في ظلها البشرية إلى الأبد. وهكذا ينظر
مفكرو اليسار والحركات الراديكالية، مثل التوسير وهابرماس وإرنستو لاكلاو
وشانتال مووف وتيري إيغلتن وجيمسون، إلى ما بعد الحداثة بوصفها حركة ثقافية
تقف ضد مجتمعاتها وتعمل على تزييف الواقع وتبرير التحولات الاجتماعية
والاقتصادية ذات النزعة التدميرية. إنها تضاعف من نطاق الرأسمالية
الاستهلاكية وتدعمها بكل الصور. كما أن لها القدرة على الجمع بين
المتناقضات، الأمر الذي حدا بالناقد الثقافي البارز تيري إيغلتن إلى
التساؤل في كتابه (أوهام ما بعد الحداثةIllusions of Postmodernism) "هل
كانت ما بعد الحداثة حركة راديكالية أم محافظة؟"(12). ويتفق جيمسون مع
بودريلار على أن تلك التغيرات الحضارية التي شهدتها المجتمعات الغربية بعد
الحرب العالمية الثانية قد أنتجت عالما خضع لتغيرات اجتماعية ونفسية مكثفة،
ومجتمعاً بات يعرف بمجتمع الصورة، ذلك المجتمع الذي يفتقر للعمق ويعاني من
السطحية والتشتت. ينتقد بيتر بروكر المنهجية الفكرية والثقافية التي
يتبعها جيمسون في تحليله لظاهرة ما بعد الحداثة. ففي الوقت الذي يسلم فيه
بمقولات بودريلار حول مجتمع الصورة والسطح وغياب العمق، يقوم بتطبيق آليات
تحليل ماركسية تقوم على تناول الشكل الخارجي أو المظاهر السطحية لظاهرة ما
بوصفها انعكاس لبنية عميقة خفية تتحرك بعيدا عن السطح، لكنها تحدد طبيعته
وشكله. فالسطح المتمثل بمجتمع الصورة، عند جيمسون، ما هو إلا البنية العليا
أو المظهر الخارجي لبنية اقتصادية عميقة يطلق عليها جيمسون الرأسمالية
المتأخرة. كما يأخذ بروكرعلى جيمسون نظرته الاختزالية لمظاهر ما بعد
الحداثة وسعيه ـ مثل كل نقاد ومفكري اليسارـ إلى رد مجموعة الظواهر المعقدة
والمركبة ثقافياً وحضارياً المرتبطة بها إلى أحداث تاريخية أو سياسية
أواقتصادية محددة، مثل ثورة الطلبة في باريس عام 1968 وتضخم الإنفاق
الاستهلاكي. فيرى بروكر أن للظواهر الثقافية والحركات الفنية والأدبية
خصوصياتها البنيوية مما يجعلها تمتلك ـ رغم تأثرها بالعوامل الخارجية
والسياقيةـ زخمها الذاتي في كيفية نموها وتطورها أو زوالها. ويعتقد أيضاً
أن الكثير من الظواهر الثقافية والفنية والأدبية في ما بعد الحداثة جاءت
ردة فعل على حركات موازية ظهرت في مرحلة الحداثة. وقد أتى إصرار النقاد
الماركسيين الجدد على تفسير أو تأويل بعض الأعمال الفنية والأدبية بطريقة
اختزالية لربطها قسرا بمجموعة من العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية
بنتائج مبالغ فيها في بعض الأحيان. ويقدم بروكر تأويل جيمسون لروايات
الروائي الأمريكي دكتوراو (كتاب دانيال The Book of Daniel) والصادرة عام
1971 و(موسيقى الراجتايم Ragtime) والصادرة عام 1975، أمثلة على ذلك النوع
من المبالغة الأيديولوجية. إن هذا الربط بين الحضارة ورأس المال هو ما يرفض
بروكر وجوب التسليم به. وبالإضافة إلى ما سبق يأخذ بوركر على جيمسون غموض
تقسيماته الزمنية فيما يتعلق بتاريخ ظهور ما بعد الحداثة وعدم التفريق بين
الأنماط السائدة والمضادة أو الكيانات الاجتماعية المهيمنة في ظل الحضارة
الراهنة وتجاوز الظاهرة الأدبية والفنية إلى الأحكام السياسية والاجتماعية
وإيمانه المستمر بنوع من السرد التاريخي الماركسي الذي ترفضه ما بعد
الحداثة بشدة. وهكذا يصل بروكر إلى وجهة نظر عامة تجاه جيمسون، حيث يصفه
بأنه يتحدث بوصفه " رجلا ابيضا ومثقفا يؤمن بما بعد الماركسية ويقدم تجربة
تنتمي إلى الساحل الشرقي الأمريكي بوصفها تجربة ثقافية كونية"(13).
ارتبطت
ما بعد الحداثة في الغرب بسلسلة من التغيرات والأحداث التاريخية الهامة
التي اجتاحت أوروبا وأمريكا مع نهاية الحرب العالمية الثانية. فمن أحداث
بودابست وبراغ، والحرب الباردة، وثورة بولندا إلى حرب فيتنام واحتلال
الإتحاد السوفيتي لأفغانستان، كان من الواضح أن العالم الغربي يمر بمرحلة
جديدة تحمل اشتراطاتها الموضوعية ونتائجها التاريخية الخاصة. ففي فرنسا
كانت هناك أزمات ما بعد الحرب وحكومة ديغول، وأزمة حرب الجزائر وانعكاساتها
على المثقفين الفرنسيين، وتنامي التيار اليساري في الشارع الفرنسي وقيام
حزب شيوعي ضخم. إلا أن الحدث الأبرز في فرنسا ظل متعلقا بانتفاضات الطلبة
عام 1968 والتي يعدها بعض المفكرين والمؤرخين الانطلاقة الحقيقية لما بعد
الحداثة وما بعد البنيوية على وجه الخصوص. كان الغريب في الأمر هو موقف
الحزب الشيوعي من هذه الحركة الشعبية العارمة. لقد وقف الحزب الشيوعي مع
السلطة وندد بالإضرابات والاحتجاجات وتخلى عن مطالب الشارع الفرنسي. تلك
الأحداث أدت إلى قطيعة بين كثير من مثقفي اليسار في فرنسا والحزب الشيوعي
الذي كان مظلة كبيرة للتيارات اليسارية بشكل عام. وفي خضم هذه الأحداث برزت
أسماء مهمة غيرت بكتاباتها وأعمالها وجه الثقافة الغربية وطرحت أفكار
راديكالية كبيرة كان من نتائجها إحداث قطيعة ثقافية وفلسفية وأدبية وفنية
وفكرية شاملة مع الماضي، ومن أبرز تلك الأسماء لوي التوسير وهربرت ماركوزه
وروجيه غارودي وميشيل فوكو وجاك دريدا وجان بودريلار وفرانسوا ليوتار.
أما
في بريطانيا فقد كان التحول أقل عنفا وتطرفا منه في فرنسا. فقد اتخذت
التحولات طابعا اقتصاديا واجتماعياً بالدرجة الأساس. كان التجمع والتوزيع
السكاني في بريطانيا، ومنذ قيام الثورة الصناعية في نهاية القرن الثامن
عشر، يعتمد على النشاط الصناعي ويتركز حول مواقع المصانع الكبرى والمناجم.
وكانت طبيعة علاقات الإنتاج واشتراطاتها المادية تحدد طبيعة العلاقات داخل
المجتمع. الأمر الذي أدى إلى الميل إلى الاستقرار ونهوض المجتمعات المحلية
داخل المدن الصناعية مثل ليفربول وشيفلد ومانشستر في غرب بريطانيا. وفي
مطلع القرن العشرين كانت الهوية الفردية والثقافية داخل المجتمع البريطاني
تتشكل وفق الموقع الذي يحتله الفرد في السلم الطبقي الاجتماعي. وهكذا كانت
روايات تشارلز ديكنز وجورج اليوت وحتى د. لورنس تعكس طبيعة الصراع الطبقي
الذي كان يهيمن على مجتمع صناعي بامتياز. ويوضح نايجل واطسون أن كل ذلك
تبدل بعد الحرب العالمية الثانية، حيث تحولت الأراضي الواسعة التي كانت في
السابق عبارة عن أماكن تنهض عليها مصانع كبيرة أو مناجم ضخمة، إلى مراكز
تسوق ضخمة خارج المدن، مثل ميتروسنتر في غيتس هيد (Gateshead) أو ميدهوول
في شيفيلد (Sheffield) بينما تحولت الأراضي المحاذية للأنهار إلى أماكن
للتسلية والترفيه (Theme Parks) ومتاحف تراثية تعرض صورا لواقع تلاشى وإلى
الأبد(14). أصبحت التجربة الفردية في بريطانيا متجذرة وبصورة متزايدة في
النشاط الاستهلاكي وليس في النشاط الصناعي. واختفى التقسيم الكلاسيكي
للمجتمع إلى طبقتين، تحدد طبيعة الصراع بينهما ملامح الثقافة العامة
للمجتمع البريطاني. لم يعد هناك عمال وبرجوازيون، بل أصبح الجميع مستهلكين.
وسادت ثقافة السرعة والسطحية واللامبالاة، وتلاشى الواقع نهائيا مخلفا
وراءه سيل من الصور والموسيقى الصاخبة وحمى فرقة البيتلز والمخدرات وجيل
أصبح يعرف بمصطلح (جيل الستينيات)، وظهرت حركات أدبية وفنية تعبر عن الغضب
والسخط مثل حركة ما يعرف بجيل الشباب الغاضب (Angry Young Men). ومع نهاية
الخمسينيات من القرن الماضي أصبح من الواضح أن الأدب والفن والثقافة ونمط
التفكير العام قد تغير بصورة جذرية ونهائية. ونشطت حركة اليسار الجديد وظهر
من بينهم مفكرين ونقاد مثل إي. بي طومسون ورالف ميليباند وبيري أندرسون
وتيري إيغلتون ورايموند ويليامز. وهكذا تجلت ما بعد الحداثة في بريطانيا
بجميع أبعادها من ثقافة الاستهلاك والثقافة الشعبية والسطحية وثقافة السرعة
والإعلانات والدراسات الثقافية الجادة والأعمال الفنية والأدبية
الراديكالية والثورية.
تعد الولايات المتحدة الأمريكية هي المركز الأكثر
أهمية لظهور وتصاعد ما بعد الحداثة، التي باتت تعرف بوصفها نمط الحياة
الأمريكية في النصف الثاني من القرن العشرين. ومن مظاهر ما بعد الحداثة في
أمريكا هستيريا معاداة الشيوعية، وأجواء الحرب الباردة، والتكيف مع الظروف
البيروقراطية، والتيارات المراهقة المعادية لليبرالية، والحركات النسوية،
وحركة السود، والشواذ، والهبيين، والاحتجاجات اليسارية، وحرب فيتنام، وصعود
التيار اليميني المحافظ، وغياب الإجماع الشعبي والتشتت(15). ويذهب ستيوارت
هال إلى " أن ما بعد الحداثة هي الطريقة التي يحلم بها العالم أن يكون
أمريكيا. فقد تحولت أمريكا الشمالية بالفعل إلى مكان أو مصير يؤول إليه
لاوعي العالم حسدا لما تركز فيه وفرة في التحديث والتطور والحرية"(16).
وفي
تحليله لحالة ما بعد الحداثة يتخذ الفيلسوف الفرنسي المقيم في أمريكا جان
بودريلار من والت ديزني ومدينة لوس أنجلوس أمثلة تتجسد فيها ثقافة الصورة
والمحاكاة والإبهار بأكمل صورها. لقد أصبحت القيم الأمريكية السائدة في
الحياة اليومية وعلى المستوى الشعبي هي القيم التي تسعى المجتمعات إلى
تبنيها وتطبيقها مهما كلف الثمن. فمن مطاعم الوجبات السريعة والعنف المفرط
والصخب إلى مراكز التسوق الضخمة والاستهلاك الفائق والحركة المستمرة التي
صارت جميعها مظاهر تنتشر عبر الثقافات والدول والشعوب بدون أدنى اعتبار
للخصوصية الثقافية والقومية. لقد أصبحت غاية ما بعد الحداثة هي إضفاء قيمة
جمالية على الاستهلاك وعلى أي نوع أنواع التفكك الثقافي.
و يمكننا الآن
الحديث عن نهاية ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية بوصفهما حالة ثقافية
شاملة كانت ولسنوات تمتلك حضورا فاعلا في المشهد الثقافي الغربي والعالمي
على حد سواء. ومع نهايات القرن الماضي بدأ معظم النقاد الثقافيين والمعلقين
والمفكرين رصد التغيرات والتحولات البنيوية العميقة التي شهدتها المجتمعات
المعاصرة، على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي والأكاديمي،
والتي كانت محصلتها تجاوز مجمل الظروف الموضوعية والمناخات الفكرية التي
مهدت لظهور ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية وتشكلها بالصورة التي انتهت
إليها. واجتهد هؤلاء في رسم وتحديد ملامح المرحلة القادمة التي بدأت
بالتبلور مع بداية الألفية الثالثة، والتي يشار إليها الآن بمرحلة بعد ما
بعد الحداثة. وكما في فترة ما بعد الحداثة، فإن مرحلة بعد ما بعد الحداثة
تتضمن تيارات ثقافية وفكرية ومدارس فنية وحركات أدبية واتجاهات أكاديمية
متنوعة ومتعددة إلى حد التعارض والتناقض في معظم الأحيان. ولكنها جميعها
تلتقي على حقيقة تجاوز ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية كإطار فكري وثقافي
وجمالي أصبح ينتمي إلى الماضي، بل وأظهر عجزاً واضحاً فن فهم واستيعاب
اللحظة الراهنة بكل تفاصيلها وتعقيداتها.
*هذه الدراسة مستلة من كتاب
"الفضاءات القادمة:الطريق الى بعد ما بعد الحداثة" تاليف د. معن الطائي و
الناقدة أماني أبو رحمة، و الصادر عن مؤسسة أروقة للترجمة و الدراسات و
النشر، القاهرة، ط1 2011.

الهوامش:
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

ماذا كانت ما بعد الحداثة* :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

ماذا كانت ما بعد الحداثة*

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:تستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: دراسات و ابحاث-
إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوعانتقل الى: