الفكرة العلمانية وليدة التطور والارتقاء (4)
19 أكتوبر 2006
ماذا
تعرف عن العَلمانيّة؟(1)ماذا
تعرف عن العَلمانيّة؟ – في التسمية (2)ماذا
تعرف عن العَلمانيّة؟ شيء من التاريخ (3)ماذا
تعرف عن العَلمانيّة؟(5)ماذا
تعرف عن العَلمانيّة؟(6) عللنا في ما سبق من هذه الحلقات أهمية
العودة إلى طرح هذا الموضوع اليوم وسعينا إلى تدقيق التسمية واخترنا
استخدام العلمانية وقلنا أن الاستعمال والتداول هو الذي يحسم أمر التسميات
وليس النوايا أو التمنيات، فحين تصبح العلمانية حاجة ملحة من حاجات المجتمع
فإنها تجري على لسانه وتدخل تشاريعه وتسكن خطابه السياسي والاجتماعي
والفكري، وتستقر على كسر العين أو فتحها أو على عبارة أخرى غير العلمانية.
والذي نريد إضافته في هذه الحلقة يتعلق بالعالمانية من حيث هي نتاج تطور
تاريخي وسيرورة حضارية عرفهما المجتمع الإنساني في أكثر ربوعه المعاصرة
نضجا واستعدادا لنشوء الفكرة وتقبلها. ومثل سائر الأفكار الكبيرة في العالم
سواء أكانت شرقية أم غربية، يونانية أم هندية أو عربية أو فارسية أو
فرنسية أم ألمانية أم انجليزية أم روسية أم صينية أم غيرها، فهي تدخل ضمن
الرصيد المعرفي الإنساني وتعدو صالحة للتعميم ما دامت تخدم مشروع التحرر
والانعتاق وتسهم في رفع كابوس الظلم والاضطهاد، سواء تم باسم الله أو باسم
"عبد الله".
إن العلمانية شأنها شأن الديمقراطية
والاشتراكية قيمة إنسانية عابرة للقارات والأجناس والجنسيات، فمن الخطإ ومن
سوء النظر القول بأنها نبتة غربية لأنها غربية المنشإ، وحلّ لا يصلح إلا
للمجتمعات ذات الديانة المسيحية، وكأن استغلال الدين لإضفاء الشرعية على
استعباد الناس خاص بأهل هذه الديانة. قول مردود من عدة نواح أخرى لعل
أكثرها إقناعا أن المجتمع البشري شرقا أو غربا، وبقطع النظر عن الخصوصيات،
يخضع في تطوره لقانون عام، ما دام مجتمعا طبقيا والإنسان فيه يستغل الإنسان
ويمكر به من أجل سلبه ونهبه وقهره. والمكر يلبس لبوس الدين كما يلبس لبوس
حقوق الإنسان عند الأمريكان وحلفائهم. إضافة إلى ذلك فإن الحضارة العربية
الإسلامية لم تخل في حقب ازدهارها من خمائر المنزع العقلي والنزعة المادية
التي قلصت من سلطان الدين على السياسية والمجتمع، تحت ضغط "أحوال
الوقت"ومقتضيات الواقع التي تفرض مراعاتها، وتكون بذلك قد ساهمت ولو عن بعد
في دفع التطور نحو اكتمال الفكرة العلمانية. وهذا موضوع يحتاج عودة. ومما
يؤكد عالمية هذه الفكرة وحيويتها في علاج أورام مجتمعاتنا الراهنة ما يشهد
اليوم وبالحجم المكبر، من وبال الاقتال بين الطوائف الدينية في عديد
البلدان الإسلامية، جراء تواصل الخلط بين الدين والسياسة، وتسليط السماء
على الأرض، والاحتكام إلى الشرع في الشأن الوضعي، بل ما يشاهد ايضا، وفوق
ذلك، من تفشي الخرافة و"العرافة"، وانتشار "البدع" التي لا علاقة لها
بالدين وإن هي نبتت على أرضيته وأرضية استغلاله في المآرب الشخصية
والسياسية. إن العلمانية في شكلها المكتمل (نسبيا) كانت وليدة القورات التي
حققت القطيعة مع الذهنية القروسطية، وهي ثورات علمية وصناعية وسياسية
واجتماعية وثقافية وفكرية، ضد الإقطاع والقنانة والكهنوت المتأله، والجهل
المتغطرس. وكان لا بد للثورة التي تمت على أسوار "قرن الأنوار" (الثامن عشر
ميلادي) واضطلع فيها الفلاسفة والمفكرون والعلماء والأدباء والفنانون بدور
الممهد، أن تفضي إلى علمنة المجتمع، ووضع حد للتسلط الكنسي على الأبدان
والأرواح والضمائر، وأن تثمر ثمرة العلمانية التي حققت الإنجاز الكبير
التالي: حفظ الدين من التوظيف السياسي وحفظ السياسة من التحريف الديني،
والتفريق بين هذه باعتبارها شأنا جمعيا تعاقديا، وذلك باعتباره شأنا فكريا
تعبديا.
لم تكن العلمانية إذن فكرة مجردة مفصولة
عن التاريخ، وعن التطور العلمي والتقني، والاكتشافات والاختراعات والسيطرة
على الطبيعة، والتصنيع، وصراع الطبقات، والثورة البرجوازية، والثورة
العمالية، ولذا فهي لم تتشكل على نحو متطور ولم تحظ بالتطبيق (رغم التردد،
والتفاوت، والانتكـاس، والثورة المضادة) إلا حديثا وهناك حيث الأوضاع ناضجة
لتقبلها، وقد باتت ركنا أساسيا من أركان البنيان الديمقراطي، وشرطا جوهريا
من الشروط الضامنة لحقوق الإنسان والمواطنة. وفي ظل غيابها تسود أنظمة
الاستبداد وتستفحل الطائفية والقتل على الهوية، وعلى الشبهة، يكفر الأحرار
والمعارضون في الحملات الانتخابية، وتجيش "العامة" ضد أهل الفكر والرأي،
المرشوقين بـ"الزندقة" و"الإلحاد" بل وضد أصحاب الديانات الأخرى، والمذاهب
والطوائف المخالفة ووضعهم تحت طائلة التكفير.
وإذا كانت النهضة العلمية والحضارية حاضنة
الفكرة العلمانية في المجتمع الغربي فإن ذلك لم يتحقق إلا عبر صراع مرير
بين قوى التقدم والتنوير المحمولة طبقيا على أعناق التشكيلة الاجتماعية
الصاعدة (البرجوازية زمن ثوريتها) وقوى الشد إلى الوراء المتمترسة بترسانة
القيم الإقطاعية والعبودية، والحاكمة باسم الحق الإلهي. وفي حلقة قادمة نقف
على علاقة البذرة العلمانية بالتربة العربية الإسلامية وعلى واقع الأشياء
في مستهل هذا القرن، قبل أن نناقش دواعي خصوم العلمانية وأباطيلهم.
(يتبع)