إن مقولة التنوير الناقص التي يرادف بها المزوغي كانط تحتوي ضمنا على مقولة التنوير الكامل الذي يبقى أسطورة في العقول لا في الواقع. الواقع لم ولن يشهد تنويرا كاملا، باعتبار التنوير هو الوصول إلى المعاني الحقيقية للإنسان، إلى حريته وعقلانيته وفرديته. وبالتالي فإن كل تنوير هو ناقص بالضرورة لا انتقاصا منه ولكن إدراكا لمعنى أهداف التنوير وقيمتها. إذا كان التنوير شعاراً لمسيرة الإنسان الحقيقية للمعرفة فإن مشروع كانط النقدي ومجمل كتاباته هي في صميم التنوير. وليس الموقف من الدين هو من يحسم تنور الأفكار من عدمها بقدر ما هو العمل الجاد والصادق نحو الوصول للحقيقة والإخلاص لها. هو تحمل مسئولية التفكير والقيام بها.
يبقى الإنسان هو القيمة الأساسية في مشروع كانط النقدي وفي مجمل تفكيره ولم يتنازل عن هذه القيمة على طول الخط. كان لكانط ومع تطوره الفكري موقف وفهم خاص للدين فقد كان يرى الفصل الكامل بين الفلسفة والدين وبين العلم والدين ويرى أن المشكلات تظهر حين يحاول أحد منهم التدخل في الآخر وإخضاعه له. وقد رفض كنت جميع أشكال ما سمّي بنصرة الدين للفلسفة أو العكس، كما أنه رفض القول بلاهوت طبيعي مؤسس على معطيات عقلية. وعنده أن الفلسفة لا تحتاج إلى طقوس ولا تقشف ولا خلوة رهبانية عن طريق إماتة الجسد والزهد ليصل عليها الوصول إلى الحقيقة. إن قوانين ومبادئ العقل هي التي تكشف للإنسان ما يجب أن يؤمن به ويسلك بموجبه تجاه نفسه وتجاه الآخرين وتجاه الكائن الأسمى أيضا، مع الاحتفاظ الكامل بعقلانيته وحريته.
كان كنت رافضا بشكل كامل لسلطة رجال الدين. يذكر أنه كان من تقاليد الجامعات الألمانية أن يطوف الأساتذة والإداريون والطلاب في أول يوم دراسي "اليوم الأكاديمي" بالمدينة حتى يصلوا في الختام إلى كنيسة الجامعة حيث يصلي الجميع وينالوا بركة رجال الدين. كان كنت يطوف مع الموكب حتى إذا اقترب من الكنيسة انصرف عن الموكب واتجه لبيته.
هل يمكن أن نقول أن فولتير كان "مرتدا" عن التنوير أو "خائنا" له لأنه كان يقول إنه "لو لم يكن الله موجودا لوجب إيجاده"، لأنه لم يقطع نهائيا مع التصورات اللاهوتية. لا يمكن هذا وإلا وقعنا في الدوغما والوثوق. المزالق التي يمكن بسهولة أن يقع فيها دعاة التغيير والنهوض والتطوير. وهم بهذا يحكمون بالنهاية على مشاريعهم وأفكارهم. كان من أهم وأبرز النقد الموجه لعصر التنويرأن العقل فيه تحول إلى إله جديد، إله لم يعد أحد يستطيع مناقشته. أدى هذا إلى الوثوق بمبالغة في العقل البشري وإقصاء الجوانب الأخرى وإزاحتها مما أدى إلى الوقوع في الكثير من الشناعات.
في كتاب المزوغي الكثير من الجدية والعمل المتقن ولكنه في ذات الوقت يحتوي على الكثير من الوثوق والجزم والحدّة. لا يستطيع أحد أن ينكر أن الوبال العظيم الذي وقع على الفلاسفة إنما كان جلّه على يد رجال الدين تحديدا. فقد حاربوهم وحرّضوا عليهم الخاصة والعامة، ولكن هذا لا يعني أن يقف الفيلسوف موقفا عدائيا من الدين على هذه الخلفية التاريخية. بل يجب عليه أن يجعل الدين مفكرا فيه، بحرية وموضوعية. لن تكون الطرق أمامه سالكة خصوصا في العالم الإسلامي اليوم ولكن عليه ألا ينخرط دون وعي في معركة أيديولوجية يخسر فيها قيمته الحقيقية كونه مفكراً حراً يسعى جادا وصادقا للحقيقة.
تعليقات حول الموضوع
الثلاثاء أكتوبر 27, 2009 11:26 am من طرف ابو مروان