في
لقاء أجري مع الشاعر اللبناني بوول شاؤل في مجلة المستقبل قبل ما يزيد على
خمسة عشر عاما ذكر أن القصيدة الفاشلة هي التي تفهمها بعد قراءتها، شاؤول
كان يردد في الواقع مقولة الشاعر الفرنسي بول فاليري ونصها : إذا قرأت
الكتاب وفهمته فقد قتلته وقضيت عليه " يومها فرحت باكتشافي المصدر الذي
استقى منه الشاعر اللبناني مقولته ، ولم يدر بخلدي أن تلك الوريقات الصفراء
القابعة بصندوق عمي الحديدي تتناول القضية نفسها بأسلوب أرقي ، وبأسبقية
فريدة .
كان عمي في الثمانين من عمره ، مكفوف البصر ، وكنت في الثامنة
من عمري أقوم على خدمته ، أذكر أنه كان لديه صندوق حديدي ، تقبع فيه أشياؤه
الخاصة من بينها مخطوطات قديمة تحوي إحداها شجرة نسبه الذي كان دائم
التباهي به أمام ضيوفة ، أذكر أن يده كانت ترتعش بتحسر وهي تتحسس تلك
المخطوطات التي لم يعد باستطاعته التواصل معها ، وكان يلتفت إلىّ ويقول لي:
أريدك أن تتعلم .
ومرت الأيام صرت قادراً على ارتكاب فعل القراءة
المبهج ولكن بعدما رحل عمي وفقد الخطوط مع المجموعة الأخرى في خزائن بعض
الأقارب .. وبعد جهد جاهد حصلت عليه، وضاعت ربما إلى الأبد البقية.
تحسست المخطوط برهبة فقد أعاد إلى ذاكرتي ارتعاشة يد عمي وتجلى لي المعنى الذي كان يذهب إليه عندما أوصاني بالتعلم .
وعندما
شرعت في فك خطه الكوفي القديم أدركت أهمية هذه الوريقات التي كتبها صاحبها
الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي على عجل، وظلت في خزانة كتبه لم تظهر
للوراقين حتى وفاته.
في هذه الوريقات تراءى لي بول فاليري ، وأرنست أرلو
، ودي سوسير ، وغاستون باشلار وكثيرون غيرهم ، يحدّقون في دهشة وانبهار في
حضرة هذا الشيخ الذي سبقهم في سلاسة ويسر إلى صياغة أفكارهم ثم لم يعبأ
بها ، وإنما تفرّغ لقضايا معرفية أخرى.
نجد في هذه الرسالة حديث باشلار عن جماليات المكان :
المكان الذي لايؤنث لا يعول عليه
ونجد
ما ردده أخيراً بول فاليري عن الكتاب الذي ينبغي أن لا يتوقف عن مدّ
مطالعيه بفيض من المعاني لايحد وإلا فقد أهميته وانتهى كمصدر معرفي دائم
العطاء :
يقول ابن عربي :
الكلمة التي تفهمها لا يعول عليها
ونجد أيضاً إضاءات ألسنية لم يخطر بعضها ببال دي سوسير نفسه
معرفة الحروف دون معرفة تشكلاتها الأولى لا يعول عليها .
اللفظ المهمين على المعنى لا يعوّل عليه
كل صمت لا يحتوي الكلام لا يعوّل عليه
كل معنى احتوته عبارة لا يعوّل عليه
اثبتّ
في مقدمة تحقيقي للمخطوط صحة نسبته لابن عربي وشرحت ما يستشكل من فقراته
التي أطلقت عليها اسم " المعوليات " وفرغت من العمل قبل أكثر من عشر سنوات
إلا أنني لم أتمكن من نشره كاملا حتى الآن على الرغم من المحاولات التي
قمنا بها أنا والشاعر فرج العربي وإلحاح الأصدقاء : الأستاذ سعد نافو ،
والشاعر مفتاح العماري ، والناقد عبدالرسول العريبي الذي صُدم بعدم نشر
الكتاب حتى الآن بعد عودته من الأرجنتين ، واتهمني بالتقصير في نشر اثر لم
توجد أكمل نسخة خطية منه إلا في مدينة بنغازي التي نسخ فيها المخطوط ، فإلى
هؤلاء وغيرهم أهدي هذا الجزء من الرسالة والتحقيق ، لعلها تسهم في إدخال
بعض الأنس على نفوسهم الشفافة ..
مختارات من رسالة الذي لا يعول عليه
- الوجد الحاصل عن التواجد لا يعوّل عليه.
- الوجود الذي يكون عن مثل هذا الوجد لا يعوّل عليه.
- الخاطر الثاني فما زاد لا يعوّل عليه .
- التجلي في صورة ذات روحها مدبر لا يعوّل عليه .
- الوارد المنتظر لا يعوّل عليه.
- الاطلاع على مساوئ العالم لا يعوّل عليه .
- الحال الذي ينتج عند شفوفك على غيرك لا يعوّل عليه .
- التجلي المعنوي في الصورة المقيدة لا يعوّل عليه الأكابر من الرجال.
- صحبة المكاشف بالروحانيات من غير إفادة ولا استفادة كذب لا يعوّل عليه
- كشف الأشياء ذاكرة لله تعالى بما أنت عليه من الذكر لا يعوّل عليه.
- الوارد الذي يرد من تغير المزاج لا يعوّل عليه.
- اللفظ المهمين على المعنى لا يعوّل عليه.
- كل علم من طريق الكشف والإلقاء أو اللقاء والكناية بحقيقة تخالف
شريعة متواترة لا يعوّل عليه ويكون ذلك الإلقاء أو اللقاء أو الكناية
معلولاً غير صحيح إلا الكشف الصوري فإنه صحيح ووقع الخطأ في تأويل المكاشف
مما أريدت له تلك الصورة التي ظهر له فيها هذا العلم على زعمه .
- كل علم حقيقة لا حكم للشريعة فيها بالرد فهو صحيح وإلا فلا يعوّل عليه
- السماع من الحق في المخالفات إن ( لم ) يعلم السامع انه خطاب ابتلاء فإنه لا يعوّل عليه.
- نظر الخلق بعين الحق مع التسليم لا يعوّل عليه .
- خرق العوائد والمزيد من الفوائد مع استصحاب المخالفات لا يعوّل عليه .
- الحركة عند سماع الألحان المستعذبة وعدمها عند عدم هذا السماع لا يعوّل عليه.
- السماع من الحق في الأشياء لا يعوّل عليه العارف .
- الإقامة على حال واحد نفسين فصاعداً لا يعوّل عليها أكابر الرجال.
- كل فن لا يفيد علماً لا يعوّل عليه.
- كل صمت لا يحتوي الكلام لا يعوّل عليه .
- الأنس بالله في الخلوة والاستيحاش في الجلوة لا يعوّل عليه .
- شغل النفس بالجمال المقيد مع الدعوى برؤية جمال الحق في الأشياء لا يعوّل عليه.
- كل معنى احتوته عبارة لا يعوّل عليه.
- تعظيم الحق في بعض الأشياء لا يعوّل عليه.
- رؤية الخلق وكل ما سوى الله بعين النقص في جناب الله لا يعول عليه .
- الكشف الذي يؤدي إلى فضل الإنسان على الملائكة أو فضل الملائكة على الإنسان مطلقاً من الجهتين لا يعوّل عليه .
- احتقار العوام في جنب الخواص بتعيين فلان وفلان كفضل الحسن البصري على الحسن بن هانئ لا يعول عليه.
- المشاهدة والكلام معاً لا يكون إلا في حضرة التمثيل فلا يعوّل عليه أكابر الرجال.
- التجلي المتكرر في الصورة الواحدة لا يعوّل عليه .
- المظهر الإلهي إذا تقيد في نفسه لا يعوّل عليه فإن المظهر الإلهي
لا يتقيد إلا في نظر الناظر لا في نفسه وإدراك الفرق بينهما عسر جداً.
- الاعتماد على الله وهو التوكل في غير وقت الحاجة لا يعوّل عليه.
- السكون عند الحاجة لقوة العلم مع البشرية لا يعوّل عليه لأنه حال عارض سريع الزوال
- دعوى رؤية الحق في الأشياء مع الزهد فيها لا يعوّل عليه لأنه حال عارض الزوال فإن الزهد ليس من شأن صاحب هذا المقام.
- المعرفة التي تسقط التمييز بين ما يجوز للمكلف التصرف فيه وبين ما لا يجوز لا يعوّل عليها.
- اتخاذ الحق دليلاً على وجود الخلق لا يصح فلا يعوّل عليه لأن الخلق لا يكون غاية.
- المعرفة بالله معراة من الأسماء الإلهية لا يعوّل عليها فإنها ليست بمعرفة
- المزيد من الحال الذي لا ينتج علماً لا يعوّل عليه.
- الحال عند الأكابر لا يعوّل عليه .
- وجود الحق في القلب لا يعوّل عليه قال الله تعالى ( ما عندكم ينفد).
- وجود الحق عند الاضطرار لا يعوّل عليها. لأنه حال والحال لا يعوّل عليه.
- رفع الأسباب عند الأكابر لا يعوّل عليه بل من شأنهم الوقوف عند الأسباب.
- الوقوف مع الأسباب للمزيد لا يعوّل عليه .. وإن عضده العلم من أجل الركون إليها .
- الجوع لا يعوّل عليه.
- الوارد عن انحراف المزاج لا يعوّل عليه وإن كان صحيحاً فإن الصحة فيه أمر عارض نادر.
- شهود الفراغ الإلهي من الأكوان لا يعوّل عليه .
- وجود تنزيه الحق مطلقاً عن صفات الخلق لا يعوّل عليه .
هوامش التحقيق
1-2 | يعرف ابن عربي في رسالته اصطلاح الصوفية التواجد بأنه استدعاء الوجد أو إظهار حالة الوجد من غير وجد، أما الوجود الذي يكون عن الوجد فهو فناء البشرية لغلبة سلطان الحقيقة وهذا الفناء لا يكون كاملاً إلا عن وجد حقيقي. |
4- | التجلي هو انكشاف أنوار الغيب وقد يكون هذا الانكشاف معنوياً وقد يكون صوريا يبرز للحسّ في تشكل مرئي فإذا جاء هذا الانكشاف في صورة مستهلكة دلّ علي أنه لا يحمل جديداً لأنه يعبر عن ذاكرة ماضية ولا يقود إلى رؤيا مستقبلية . |
5- | الوارد المنتظر غالباً ما يكون حديث نفس أو صورة خلقها الخيال الذاتي. |
7- | الحال عند ابن عربي " اصطلاح الصوفية " هو ما يرد على القلب من غير تعمّل ولا اجتلاب ومن شرطه أن يزول ويعقبه المثل بعد المثل إلى أن يصفو وقد لا يعقبه المثل . |
8- | يشير ابن عربي هنا إلى أن شأن المعني الإطلاق فإذا تقيد لم يؤد غايته كاملة ولهذا لا يعول عليه إلا أهل البدايات من الذين لا عهد لهم بالمعاني المطلقة . |
11- | الوارد كل ما يرد على القلوب من الخواطر من غير استدعاء وترقب ويطلق بإزاء ما يرد من فيض الأسماء على القلب وقد يعبر بالوارد عن المعرفة المتدلية من حضرة الغيب. |
12- | انفردت المخطوطة بهذه المعولية ونلاحظ تقارب هذا المعنى من مقولة الجرجاني إمام البلاغة العربية الألفاظ خدم المعاني . |
15 | ما بين القوسين زيادة يستقيم بها المعنى والسماع عند الصوفية - كما يعرفه الكلاباذي هو استجمام من تعب الوقت وتنفس لأرباب الأحوال واستحضار الأسرار لذوي المشاغل " التعرف لمذاهب أهل التصوف ص 160 تحقيق عبد الحليم محمود إلا إن ابن عربي يقصد سماعاً خاصاً وهو الانفتاح على حضرة الغيب والتلقي عنها من دون وسائط الأشياء . -يرصد ابن عربي هنا مقام النفس الإنسانية في ذروة سموها من حيث كونها تواقة للترقي في كل نفس وعدم الرضا بالإقامة على حال واحد ولو للحظة قصيرة. |
22- | سقطت هذه ( المعولية ) من طبعة حيدر آباد وانفردت بها المخطوطة وفيها تعبير جميل عن الصمت الناطق . |
23- | الأنس عند ابن عربي هو أثر مشاهدة جمال الحضرة الإلهية في القلب وهو جمال الجلال - رسائل ابن عربي - اصطلاح الصوفية 5. |
24- | الجمال المقيد لدى الصوفية هو جمال الرمز ويقابله الجمال المطلق وهو جمال غاية الرمز إلا أن الجمال المقيد قد يكون حاجباً عن رؤية الجمال المطلق وقد يكون طريقاً يفضي إليه وعلى هذا الأساس بني ابن عربي معوليته هذه . |
25- | سقطت هذه المعولية من طبعة حيدر آباد. |
28- | الكشف لدى الصوفية هو الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيّة وجوداً وشهوداً - التعريفات للجرجاني ص 184. |
30- | المشاهدة عند ابن عربي تطلق على رؤية الأشياء بدلائل التوحيد وتطلق بإزاء رؤية الحق في الأشياء وتطلق بإزاء حقيقة اليقين من غير شك - ابن عربي اصطلاح الصوفية ص 9 و وحضرة التمثل هي حضرة تدلي الحق في دائرة الكشف الصوري التي تتم فيها وحدها المشاهدة والمخاطبة معاً وهي دائرة يعدّها الصوفية أقل رتبة من دائرة الكشف المعنوي التي ينعدم في شهودها الكلام . |
32- | المظهر الإلهي كالتجلي المعنوي شأنهما الإطلاق لا التقييد وإذا تقيد حصل اللبس على المشاهد فلا يدرك حقيقة ذلك التقييد. |
| مقام الرؤية المطلقة لا يصح أن يكون معه زهد وإلا انتفت صفة الإطلاق. |
- المعرفة هي عند الصوفية تحقيق القلب بإثبات وحدانية الحق بكمال الصفات والأسماء - للمع لأبي نصر الطوسي ص 63 تحقيق عبد الحليم محمود وطه سرور . وقيل المعرفة تأتي على ثلاثة أوجه : معرفة إقرار ومعرفة حقيقة ومعرفة مشاهدة وبمعرفة المشاهدة يندرج الفهم والعبارة والكلام كتاب الجلالة - ابن عربي - تحقيق رياض مصطفى العبدالله ص 36.
|
37- | الفقهاء يتخذون الخلق دليلاً على وجود الحق والصوفية يتخذون الحق دليلا على وجود الخلق وابن عربي هنا يخالف الفريقين . |
38- | المعرفة إما أن تكون ذاتية معرّاة عن الأسماء والصفات وتلك لا سبيل إلى إدراكها مطلقاً وإما أن تكون متلبسة بأنوار الأسماء والصفات أما إذا جاءت معراة وهي غير ذاتية فإنها لا تعدو كونها من بعض أوهام الفكر. |
40- | الحال إما أن يثبت فيصير مقاماً وإما أن يتلاشى وإلى أن يثبت أو يتلاشى لا يعول عليه. |
41- | لأن الشأن أن تكون أنت معه لا أن يكون هو معك واستشهد ابن عربي بالآية ( 26-16) لتأكيد مدلول هذه المعولية ولإسكات الفقهاء . |
42- | في هامش المخطوطة تعليق نرجح أنه من بعض تلاميذ محيي الدين ابن عربي ونصه: إذا وجده في غير حال الاضطرار فذلك الذي يعول عليه وتعريته عن الاضطرار حال غير مُرضٍ ووجود الحق فيه مُرضٍ . |
34-44 | يرصد ابن عربي في هاتين المعوليتين مقامين من مقامات السلوك الأول للمبتدئين وهو الغيبة عن الأسباب بشهود المسبب والثاني للمنتهين وهو رؤية الأسباب والمسبب في أن واحد لا تحجب هذه ذاك ولا ذاك هذه . |
46- | انظر ( المعولية ) رقم - 11- وقد أبقيت هذه المعولية للدلالة على ما أشرت إليه في المقدمة من وجود مكررات قد تختلف لفظاً ولكنها تحمل معنى واحد . |
47- | الفراغ الإلهي هو شهود التجلي بمنأى عن تدليات مظاهر الأسماء والصفات وحكمتها في الكون . |
48- | في هامش المخطوطة : فإنه يؤدي إلى نفس ما أثبته ورفعه قال عليه السلام كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم فأتى بكاف الصفة صحبة . |