** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
الرئيسيةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوع
 

 بقلم : . . محمد المزوغي

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
عزيزة
فريق العمـــــل *****
عزيزة


التوقيع : بقلم : . . محمد المزوغي 09072006-161548-3

عدد الرسائل : 1394

تاريخ التسجيل : 13/09/2010
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 4

بقلم : . . محمد المزوغي Empty
10072012
مُساهمةبقلم : . . محمد المزوغي

بقلم : . . محمد المزوغي


الليبرالية والدين

بين التنازع والاحتواء

محمد المزوغي

1- مبادئ الليبرالية

رغم تعدّد معانيها ورغم التطورات اللاحقة التي طرأت على تصوّراتها،
فإنّه يمكن إرجاع الليبرالية إلى الفكرة المحورية التالية : أنّ الإنسانية
بلغت سنّ الرشد، وقادرة بمفردها على تسيير شؤونها دون وصاية خارجية. إنّ
النظام السياسيّ الذي ينتهج نهج الليبرالية هو نظام متفائل بقدرة الاجتماع
البشري على تحقيق أسباب التقدّم عن طريق الحوار وتصحيح أخطائه بالتجارب
المتعاقبة. الليبرالية ترتكز أساسا على مبدإ الحرية الفردية واحترام حرية
الآخرين؛ إنّها التسامح المتبادل والشامل على شرط ألاّ يكون خاضعا لأيّ
ريبيّة أو لامبالاة، لأنّ «الليبرالية لها معتقد، ومعتقدها هو التقدّم،
واقتناعها هو أنّ الحرية في ذاتها هي خير وتَطمح إلى الخير، وأنّ الحقيقة
تنبع من الحوار، وأنّ تَحسّنا لامتناهيا هو حركة طبيعية للإنسانية (1)».

هكذا يُعرّف كاتب فرنسيّ من القرن التاسع عشر مفهوم الليبرالية، وهو
مفكّر عاصر بروز تلك النزعة التي أخذت تجتاح أوروبا وأمريكا الشمالية (2).
قال إنّ الليبرالية ليست فقط منظومة سياسية بل هي نظرة شاملة للعالم
تُميّز حتى الأفراد. يمكننا مثلا أن نُشخّص على مستوى الأفراد مزاجا
ليبراليا، روحا ليبرالية وطبعا ليبراليا : «المزاج الليبرالي هو استعداد
تلقائي للّطف، للسّخاء، للإنصاف؛ ويمكن أن يكون مجبولا أو مكتسبا. الروح
الليبراليّة تنطوي بالضرورة على قدر معيّن من التربية والتعليم؛ روح كهذه
هي منفتحة متوازنة سيّدة نفسها، وتعترف لحُجج الآخرين بنفس الحقوق التي
تنسبها إلى نفسها. الطبع الليبرالي هو نتاج خليط المزاج والروح؛ إنه يطبّق
الليبرالية في الممارسة العمليّة؛ يترجم إلى أفعال، إيحاءات المشاعر
وأوامر العقل. "لا تفعل للآخرين ما لا تودّ أن يفعله الآخرون لك" هذه هي
قاعدة سلوكه (3)». إذن الليبرالي الحقّ، الليبرالي المنسجم [مع مبادئه] هو
الذي يُؤمّن الحرية حتى لخصومه (4)». على المستوى العمومي فإنّ مجتمعا ما
يسمّى ليبراليا، حينما يحظر على نفسه أيّ نوع من الاحتياطات الوقائية التي
تعمل على الحدّ من حرية الاختيار، وفي المجال الحقوقي فهي تكتفي بالضروري
من العقوبات، دون مبالغة أو عنف. ولذلك فإنّ تخفيف قوانين العقوبات يسير
دوما بالتوازي مع تقدّم النظام الليبرالي(5). وحسب الكاتب يمكن أن نطبّق
هذه الصفة ـ رغم مفارقتها ـ حتى على الأديان. فعلا، إن دينا ما يُعتبر
ليبراليا حينما لا يكفّر الآخرين، وأكثر ليبرالية حينما يَعمد، في داخله،
على تهذيب الضمائر وتقويمها وتمتينها بدل استعبادها أو تهييجها. الدولة
تكون ليبرالية عندما تحترم النشاطات الفردية والجماعية للمواطنين، دون أن
تتخلّى عن صلاحياتها المشروعة، لأنّ الدولة «تطلب هي أيضا حريتها الذاتية
(6)». إن دولة ما، حتى وإن كانت تعتمد نظام الحكم الجمهوريّ، يمكنها أن
تغدو دولة لا ليبرالية «إذا لم تقدر على ضمان حرية المواطنين، أو إذا كانت
الأقليات فيها مضطهدة أو حتى مُعرقَلة في حرّيتها المشروعة (7)».

المستويات العامة التي تتمظهر فيها بجدّ فضائل الليبرالية على جميع
الأنظمة السابقة، هي المستوى الأخلاقي، والاقتصادي والسياسي. على المستوى
الأخلاقي الليبرالية مرتبطة عضويا بحرية التفكير والتي هي أوّل الحريات
وأسماها. ولن يكون الإنسان حرّا بأيّ حال من الأحوال، وفي أيّ مجال عمليّ،
إن لم يكن كائنا مفكّرا ذا وعي مستقلّ. إذن حرية التفكير ولا شيء غيرها،
هي الحاضنة الأولى للحريات الأخرى: «الحرية الدينية، حرية التعليم وحرية
الصحافة تُشتَقّ مباشرة من حرية التفكير (8)». على الصعيد الاقتصادي،
الليبرالية هي الاعتراف بحرية العمل، وكلّ الحريات المصاحبة «بما فيها
حرية الملكية التي هي امتداد شرعيّ لشخصية الإنسان (9)». أخيرا، على
المستوى السياسي، الليبرالية هي قبل كل شيء «البحث عن ضمانات للحرية»، ذلك
لأن النظام الليبرالي لا يسمح بأن تُنتهك حرية أي فرد من أفراده لحساب
المجموعة، حيث إن فكرة العقد الاجتماعي مُتصوّرة بصيغة مغايرة لتلك
المتعارف عليها. الليبرالية تتمثل العقد الاجتماعي «كرابطة للجميع من أجل
ضمان حرية كل [فرد] (10)». هذه الحرية لا تؤدي بالضرورة إلى الاعتباطية أو
التسيّب، ولا تسمح بالتعدّي على حقوق الآخرين. الحرية، في النظام
الليبرالي، هي تلك الصفة التي «تختص بكائنات عقلانية، قادرة على السيطرة
على ذاتها وحكم نفسها بنفسها، وبالتحديد ولأجل الحفاظ عليها فإنها تتطلّب
قوانين ضد الرخصة والاعتباط والتعسّفات من أيّ نوع كانت، بما فيها تعسّفات
الدولة (11)». الهمّ الوحيد للنظام الليبرالي، هو إقامة طوق لحماية حقوق
الفرد، وتأمين حرية المواطنين دون تمييز، ودون انتهاك لحرمتهم الشخصية.

بنجامين كونستان، أحد رموز الفكر الليبرالي الفرنسي في القرن التاسع
عشر، يؤكّد أنّ «المواطنين يملكون حقوقا شخصية مستقلّة عن كلّ سلطة
اجتماعية أو سياسية، وأيّ سلطة تخرق هذه القوانين تغدو غير شرعية (12)».
حقوق المواطنين تتمثل، حسب كونستان، في«الحرية الفردية، الحرية الدينية،
حرية الرأي، حيث تتضمن حرية الدعاية لها، التمتع بالملكية، الضمانات ضدّ
أيّ تعسّف. ليس هناك من سلطة تستطيع أن تنتهك هذه الحقوق، دون تمزيق لقبها
الخاص (13)».

2- الأديان ضدّ الحرية والديمقراطية والعلمانية:

المفكّر التنويري الحديث الذي يعيش في العالم العربي لا يشكّ طرفة عين
في معقولية المبادئ المؤسسة للمنظومة الليبرالية. فهو يعتبرها مكاسب
إنسانية جديرة بالاحترام، ولا يمكن التراجع عنها إلى حالة سابقة، بل يجب
تقويتها وتدعيمها؛ أو إن وجب الأمر تقويمها وإصلاحها واستكمالها، لا
التخلي عنها أو نبذها بالكامل. فالنظام الليبرالي، من حيث المبدأ، يُوفّر
الأسس الشرعية الضامنة للحريات الفردية، ويحفظ حرية التعبد، دون أن يفرض
على المجتمع هيمنة دين محدد، أو يلزم الأفراد بتأدية طقوسه وشعائره بالقوة
أو بالضغط على ضمائرهم بشتى الوسائل. هذه مكتسبات إنسانية لا جدال فيها،
مَن يجادل فيها هم في وقتنا الحاضر الإسلاميون، ورهط من اليمينيين في
الغرب، كما فعل أسلافهم، من الرجعية الأوروبية في القرن التاسع عشر،
المناهضون للثورة الفرنسية والموالون للكنيسة وللأرستقراطية الملكية.

فعلا، ما الشيء الذي يجمع بين من يدعو لتحرير الإنسان مِن ربقة
الوصاية الدينية اللاهوتية، ومَن يُحاول تكريسها؟ ما الشيء الذي يجمع بين
من يتشبّث باستقلالية التفكير، بحرية النقد والحوار العقلاني وبين من يرسم
حدودا، ويُنصّب محظورات، ويضع سلطات غير قابلة للنقد؟ الدين في سياسة
الليبرالية هو عمليا لا شيء : إنه مجرّد خيار شخصي، ويبقى كذلك بحيث إنه
لا ينبغي إطلاقا أن يجتاح الساحة العامة، أو يُسوّي اختلافات المجموعة
ويُشرّط تحركاتها وتشريعاتها المدنية. الدولة الليبرالية دولة بلا دين، لا
من جهة أنها ملحدة، بل لأنها تحفظ حقوق كل الأديان وترعاها دون تمييز أو
إعلاء من شأن واحدة على أخرى. ليس هناك في دساتير الدولة الليبرالية بُند
يُحدّد حرفيا دين الدّولة، أو يُجبر المواطنين على تبنّي دين بعينه
والالتزام بتعاليمه وتطبيق شرائعه حتى وإن كان دين الأغلبية.

لكن الأنظمة الليبرالية ليست مبدئيا ضدّ الدين بما هو كذلك، وحتى
اختيار نهج العلمانية لا يعني القضاء على الدين أو محوه كليا من الضمير
الشعبي. انظر إلى الليبراليين العرب المحدثين، لا أحد منهم ناهض الدين بما
هو دين، ولا واحد منهم نقد الدين الإسلامي في ذاته أو دعا إلى فسخه من
الذاكرة الجماعية (وهذا هو المأخذ الذي يأخذه عليهم اليساريون، يعني عدم
حسمهم نهائيا مع المنظومة الدينية). كل ما في الأمر هو أنهم ينادون
بإصلاحات تدريجية، وتحديثات للمنظومة الفقهية، أي لمنظومة التشريعات
القديمة، كي تتلاءم مع العصر وتحترم حرية الأشخاص. وليس من المستغرب أن
نجد في تاريخ أعلام الليبرالية أسماء رجال ناهضوا الإلحاد جهارا، وربما
ناصبوا الملحدين العداء. الليبرالي الفرنسي كونستان يصف حالته بعد أن
اطّلع على الكتاب الذي يُعتبر محصّل الإلحاد في القرن الثامن عشر، أي
"نظام الطبيعة" للفيلسوف الملحد تيري دولباخ، قائلا: « غالبا ما انتابني
شعور بالرعب والتعجّب من قراءتي ذاك الكتاب الشهير "نظام الطبيعة". هذه
الضراوة لشيخ أوصِدت أمامه كل أبواب المستقبل، هذا التعطّش اللامفهوم
للتدمير، هذه الحماسة ضدّ فكرة رقيقة ومعزّية، تبدو لي هذيانا عجيبا(14)».
الدين في اللحظة الراهنة، ـ بعد انقضاء زوبعة المفكرين الأحرار ـ حسب زعم
كونستان «هو واقع لا يمكن الشك في حقيقته (15)». إنّ بذرة الدين، كما
يقول، مُودَعَة في داخلية الإنسان، في قلبه، ولا يمكن لأيّ قوّة أن تمحوها
أو تقتلعها. لكنّ هذا القول ـ يتدارك، كونستان ـ لا يعني إضفاء مصدر
إنساني على هذه الهبة السماوية، أي حصرها في بوتقة الذاتية(16). ومن
منظوره المُعلن، كمسيحي بروتستانتي، فهو يرى أن « الموجود اللامتناهي أودع
هذه البذرة في قلوبنا، لكي يهيّئنا إلى الحقائق التي ينبغي علينا أن
نعلمها … كلّما رسخ اقتناعنا بأن الدين أوحي إلينا بطُرق فوطبيعية، كلّما
ازداد واجبنا بالاقتناع من أننا نكتسب الملكات الكافية لتقبّل تلك
التواصلات الرائعة. إن هذه الملكة هي التي نسميها الشعور الديني (17)».
الليبرالي كونستان، يعمّق الهوة التي تُبعد بينه وبين المفكرين الأحرار
الذين اعتبروا -في فترة غير بعيدة عنه- الأديان مفلسة نظريا وفاسدة
أخلاقيا لأنّها تنشر الجهل والخرافة وتولّد الحروب والعداوات، ولا تساهم
بالتالي في تربية الجنس البشري وتهذيب طبائعه(18). لكنّ الليبرالي كونستان
يعارض هذا الرأي، ويعطي كمثال مضاد نبذة من تاريخ العرب قبل مجيء الإسلام
وبعده. الإنسان العربيّ قبل الإسلام، أي في عصر "الجاهلية"، كما يقول
المسلمون، «هو صعلوك بلا رحمة، قاتل دون ضمير، العربي لم يكن إلاّ حيوانا
مفترسا». وكأني بكونستان يستنسخ أقوال الإسلاميين القدماء والمحدثين
لتبيين جدّة الإسلام وتفوّقه على العصر الذي سبقه. «العرب، قبل محمد ـ
يواصل كونستان ـ يعتبرون النسوة متاعا. يتصرّفون معهنّ كإماء. يئدون
بناتهم أحياء. فظهر النبي، وقرنان من البطولة، ومن السخاء، والإخلاص؛
قرنان متساويان، على أكثر من مستوى، مع أجمل عصور الإغريق والرومان،
تاركان في حوليات العالم أثرا مُشعّا (19)». على الإسلاميين الذين يُكفرون
المنظومة والليبرالية جملة وتفصيلا ويحقدون على العلمانية، أن يحفظوا هذه
الأقوال الصادرة عن أحد أكثر المنظرين السياسيين موالاة لتلك المنظومة في
القرن التاسع عشر.

إذن، الليبراليون عموما لا يعارضون الدين كمعتقد، ولا يسعون إلى
اقتلاعه من الوعي العامي أو القطع النهائي معه وانتهاج نهج الإلحاد، بل هم
مستعدّون لتزكيته والإعلاء من شأنه والدفاع عنه بشراسة. هم يعارضون فقط
تدخّل الدين في الدولة؛ أي المزج بين التشريع الدنيوي والمعتقد الديني.
ومع ذلك فإن المتديّنين لا يرضون حتى بهذا؛ لا يرضون بأن يُحصر الدين في
المجال الشخصي، ولذلك فقد شنّوا على الليبراليين، منذ القرن التاسع عشر،
حملة جمعت بين الطعن والثلب والتهكم والتكفير، كما يحدث الآن في عالمنا
العربي. المفكّرون الكاثوليك في القرن التاسع عشر ناهضوا الفكر الليبرالي
لنفس الأسباب التي يناهضه من أجلها الإسلاميون المحدثون، أي لما يتضمّنه،
حسب زعمهم، من استقلالية العقل تجاه الوحي، وإرادة الفصل بين النظام
الطبيعي (naturel) والنظام الفوطبيعي (surnaturel)، ومن حيث إعطاء حقوق
الأوّل في أن يتكوّن ويتطوّر ويتحرّك دون الأخذ بعين الاعتبار للثاني
(20). ومهما كانت إمكانية وجود هذا النظام الفوطبيعي، أي الوحي، فإنّ
الليبراليين يرون أن مسألة الدين الوضعي بما أنها مسألة شخصية لا ينبغي أن
تحكم سياسة الدولة وتدير مؤسّساتها المدنية. فالدولة الليبرالية، في الوقت
الذي تؤمّن فيه حريّة التعبّد لكل مواطنيها دون تمييز، يمكنها، بل ينبغي
عليها أن تمارس واجباتها في مجال التربية الاجتماعية والتشريع المدني على
أساس محايد، أو بالأحرى على أساس موحّد، وهكذا فهي تضع حلولا لإشكالية
الحياة الاجتماعية والإدارة العمومية خارج أي عنصر متعال.

هذا الأمر لا يمكن إلاّ أن يسبّب الذعر في قلوب المتدينين ويولّد
السّخط لدى السلط الدينية بوجه عام، مهما كانت صفة الديانة المعمول بها.
فعلا، كيف يمكن، حسب زعم النقاد الكاثوليك (وحتى الإسلاميين المعاصرين)،
لدين متجذر منذ قرون في الوعي الشعبي أن يَتنحّى عن الوجود، أن يَغدو
مجرّد ذكرى ماض سحيق فقدَ مفعوله بالكامل؟

المنظومة الليبرالية كنسق حياة سياسية واجتماعية لا يتعلق فيها العنصر
المدني الاجتماعي إلاّ بالنظام الإنساني، بحيث أنّ خصومها اعتبروها منذ
بدايتها في تضارب تام مع الدين ومع نظامه العقائدي ـ التشريعي القائم
والمهيمن على الوعي الشعبي لمدة قرون (21). وعلى هذا الأساس فإن
الليبراليين الكاثوليك ـ وهذا الحكم يسري على معتنقي أيّ ديانة ـ هم تناقض
في الكلمة (contradictio in terminis)، هم خلف منطقي وذلك بشهادة خصومهم
الكاثوليك الأرثوذكس أنفسهم. إنهم يجدون أنفسهم بين قرني مفارقة حادة :
إما تقبّل الحرية الفردية كاملة وتامة، وبالتالي الانضمام عن جدارة
للمعسكر الليبرالي واعتبار الدين شأنا خاصا غير ملزم في تنظيم شؤون
المجموعة، أو الالتزام بتعاليم الدين الوضعي والانضواء تحت راية الكنيسة
ورفض الحرية الفردية.

المفكرون المؤمنون المنسجمون مع معتقدهم يعترفون بالفرقة بين الفكر
الليبرالي والمعتقد الديني، لأن الليبرالية، هي النفي لكلّ اعتماد على
الإله وعلى سلطة أولئك الذين يتكلمون باسمه من إكليروس وفقهاء في تسيير
شؤون الدولة. إنّها القطيعة الكاملة مع النظام الذي وضعه الله وأراده
المسيح كما يعترف أحد الكتاب الكاثوليك (22)، وهو يتحدث بلغة متطابقة حتى
في العبارات لتلك المستخدمة إلى يومنا هذا من طرف التيارات الإسلامية
الحديثة. بالنسبة للمسيحي، الله هو سيّد المجتمعات والأفراد، والحكّام كما
المحكومون، يخضعون للقانون الأخلاقي والطبيعي الذي وضعته الإرادة الإلهية.
إنه كلام يستطيع أن يتفوّه به أي مؤمن وفي أي زمان، وأظنّ أنه لا يمكن
للأمر إلاّ أن يكون كذلك، وعلى مدى التاريخ. فلنفتح فقط أي صفحة من كتب
سيد قطب أو أبي الأعلى المودودي أو الخميني أو حسن الترابي أو القرضاوي،
فسنرى أن هذا الخطاب مستديم وراسخ عند جميع المنظرين واللاهوتييين
المسلمين والمسيحيين. أبو الأعلى المودودي يقول «إذا كان الله هو الخالق
السيد الحاكم للإنسان وللكون الذي يعيش فيه، فليس من المعقول أن تقتصر
أحكامه وتشريعاته على حياة الفرد الخاصة، وتنتهي سلطته عندما تبدأ علاقة
الفرد مع غيره في الحياة الاجتماعية (23)». أما سيد قطب فهو يرى أن العالم
كلّه يعيش في جاهلية بسبب ما أسماه «الاعتداء على سلطان الله في الأرض
وعلى أخص خصائص الألوهية .. وهي الحاكمية (24)». الجرم الأكبر الذي
اقترفته الإنسانية المحدثة يكمن في نزعها سلطة الله وإعطاء الإنسان الحق
في «وضع التصورات والقيم ، والشرائع والقوانين، والأنظمة والأوضاع، بمعزل
عن منهج الله للحياة ، وفيما لم يأذن به الله». المنهج الإسلامي، حسب سيد
قطب، يتفرّد عن المناهج الأخرى من حيث أنه يجمع بين الديني والدنيوي، بين
العقيدة والشريعة. ولذلك فإن جميع مجتمعات الأرض هي جاهلة وخصوصا تلك التي
تقيم « أنظمة وشرائع، المرجع فيها لغير الله وشريعته. سواء استمدت هذه
الأنظمة والشرائع من المعابد والكهنة والسدنة والسحرة والشيوخ، أو
استمدّتها من هيئات مدنية "علمانية" تملك سلطة التشريع دون الرجوع إلى
شريعة الله .. أي أن لها الحاكمية العليا باسم (الشعب) أو باسم (الحزب) أو
باسم كائن من كان .. ذلك أن الحاكمية العليا لا تكون إلا لله سبحانه، ولا
تزاول إلا بالطريقة التي بَلَّغها عنه رسله (25)».

نحن هنا أمام خيار محدّد ومصيري : إما الإله أو الإنسان ولا ثالث
بينهما. فلو حذفنا، لا أقول مقولة الوجود الإلهي، بل تدخّل الإله في
التاريخ، ورفضنا مبدئيا فكرة الوحي (والاعتقادات المصاحبة : النبوّة،
الكتب المقدسة، الشرائع السماوية) لهوى كل البنيان الديني الوضعي على نفسه
ولانتصب الإنسان بمفرده وأنيطت به هو وحده المسؤولية في إدارة شؤون حياته
وتقرير مصيره كما يرغب وكما يُمليه عليه العقل وقوانين الاجتماع الإنساني.

هذه هرطقة واضحة عند المسيحيين، كفر صارخ بالنسبة للإسلاميين، لأن
أُولي الأمر ـ كما يكتب المفكر المسيحي الذي أنا بصدده ـ هم تحت إمرة
الله، كما رعيّتهم أيضا، وبالتالي فإن القانون الطبيعي له قواعد تربط
الأمراء برعيّتهم ولا يُسمح للأوّلين بأن يُعطوا أوامر جائرة، كما لا
يُسمح للثانين بأن يَعصوا الأوامر العادلة. ولكلّ أن يحدس بأن فيصل
التفرقة بين الجائر والعادل هو الله، أو كتاب الله : التوراة عند اليهود،
الإنجيل بالنسبة للمسيحيين والقرآن عند المسلمين.

إن الفصل بين الحكم الزمني والحكم الديني، أي استقلالية السياسة عن
الشريعة، هو الشرط المؤسّس لكلّ مجتمع ليبرالي، لكن هذا الفصل، كما هو
مرفوض عند الإسلاميين بجميع مشاربهم (يحبّذونه كما قلت في الخارج وليس في
الداخل، أي في دار الحرب وليس في دار الإسلام)، هو مرفوض عند الكاثوليك،
حتى وإن أذعنوا نسبيا، منذ بضعة عقود، إلى الأمر الواقع.

الكاتب الكاثوليكي يرى أن العقل ذاته قادر على البرهنة على أن الأمير،
ليس كشخص فقط، بل كحاكم أيضا، هو خاضع (assujettit) للإله وللأوامر التي
يأمره بها عن طريق صوت الطبيعة التي هي صنعة الله، ولذلك فإنّ أيّ فصل بين
العمل السياسي وتعاليم الكنيسة مرفوض. الليبراليون يرون على العكس من ذلك
أن الحاكم الزمني لا يجب عليه أن يخضع إلاّ لقانون الطبيعة في أعماله
كحاكم، وبما هو كذلك فإنه غير مُجبر على اتّباع القانون الإلهي أو
الفوطبيعي، نظرا إلى أن السلطة المدنية، بما أنها مؤسسة إنسانية بحت، فهي
مفصولة كليا عن أي نظام فوطبيعي ومستقلة عنه. الدولة هي مجال العقل
والطبيعة، الكنيسة لها مجال الإيمان والنعمة. ليس هناك من حاكم ملزم في
أعماله بصفته كحاكم، أن يأخذ بعين الاعتبار الوحي؛ يمكنه أن يُشرّع ليس
فقط دون أن يكون بصره متعلقا بالقوانين الفوطبيعية، التي قررها الله، بل
أيضا ضد تلك القوانين، والتي حتى وإن كانت تلزم الحاكم كشخص، لا يمكن أن
تلزمه إطلاقا بصفته حاكما.

إن هذا الرأي، في نظر الكاتب المسيحي، هو غاية في التخلف، قبل أن يكون
في منتهى الهرطقة. فعلا، كيف نعترف بأن الله، صانع القانون الطبيعي وفي
نفس الوقت القانون المضاف للقانون الطبيعي، لم يشأ أن يكون هذا الأخير
مُلزما للملوك والشعوب، مثلما تلزمهم قوانين الطبيعة؟ كيف يمكن لله أن لا
يُجبر الأمير بواجب ألاّ يأمر رعيّته إلاّ بما يتماشى مع القانون المسيحي،
ولا ينهاهم إلاّ عمّا ينهاهم ذلك القانون؟ النتيجة هي أن الأبواب موصدة
أمام الليبراليين الكاثوليك، والحوار مع الليبراليين العلمانيين هو عمليا
ونظريا مستحيل.

إذن النظرية الليبرالية القائلة بأن الأمم غير ملزمة مثل الأفراد،
بالاعتقاد الجازم في صحة الدين الوضعي (المسيحي في حال كاتبنا، الإسلامي
في حال المسلمين والقوميين)، وأن شعوبا مندمجة في مؤسسة عريقة منذ ولادتهم
يمكنهم، بعد مئات السنين، التنازل عن التعميد الشامل، حذف كل عنصر
فوطبيعي، تقبّل الأجيال القادمة عملية نزع المسيحية، القانون الاجتماعي،
وتقبّل هذه الأمور ليس فقط كضرورة، بل كتقدم حقيقي للعصر الحديث. هذه
النظرية يَقف أمامها، حسب الكاتب، الحس الديني السليم (الخالق الذي أبدع
هذا الإنسان ما أراد أن يكون الاجتماع البشري مستقلا عنه) والتراث الثابت
المقرّر. (هذا الكلام، مرة أخرى، يمكن أن يصادق عليه أي مسلم معاصر إذا
عوّضنا المسيحية بالإسلام، والكنيسة بالأمّة، والقانون بالشريعة).

أوغسطينوس في رسالة إلى أحد أعيان الروم استشهد بالكتاب المقدّس لكي
يبيّن أن لا حاكم إلاّ لله «طوبى لشعب الرّبُّ إلههم (مزامير، 144، 15).
هذا هو الرجاء الذي يجب علينا أن نحققه لصالحنا ولصالح المجموعة التي نحن
مواطنوها (26)». وفي موضع آخر يحذر أولئك الذين يرغبون في التحرّر من أسر
الشريعة، بأنه يجب عليهم طاعة أولي الأمر، أي الملوك، بما هم ملوك في خدمة
الله، إذا أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر (bona iubeant, mala
brohibeant) في مملكاتهم، ليس فقط بشأن الاجتماع الإنساني بل أيضا في ما
يخص الدين الإلهي (27)». في مملكة يحكمها أمير مؤمن يطبّق أوامر الله لا
يمكن التذرّع بحرية الإرادة أو الضمير الشخصي للتملّص من قوانين الشريعة،
ومن يفعل ذلك فهو كمن يتذرّع بتلك الحرية لتحقيق رغباته الإجرامية. «عبثا
تقول : سأعتمد على حرية الإرادة (libero arbitrio). لماذا لا تطالب بنفس
الرخصة في القتل، والاغتصاب وكلّ أنواع الجرائم التي يتمّ مَنْعها بقوانين
زاجرة نافعة؟» ثم يقول بأن الأمير محكوم بإرادة الله سواء كإنسان أو
كحاكم. كإنسان عليه عبادة الله وطاعته، وكحاكم عليه أن يسَنّ قوانين دينية
وينشرها بالقوة اللازمة. وفي "مدينة الله" يخلص أوغسطينوس إلى الحكم
التالي وهو أننا « نسمي سعداء الأباطرة المسيحيين، إذا وضعوا قوّتهم في
خدمة السموّ الإلهي بتوسيع مُلكه ونشر عبادته (28)».

ليس هناك من إسلامي قديم أو حديث لا يوافق على أقوال أوغسطينوس بشأن
أسس الحكم الرشيد، حيث يتمازج الواجب الديني مع الحكم الدنيويّ، ويَطغَى
الأول على الثاني إلى حد الامّحاء. ليس هناك قانون لله وقانون للإنسان،
فالكلّ لله، والإنسان ليس إلاّ منفذا لأوامره.

أين نضع حرية الضمير إذن؟ ما هي وضعيّة الديانات الأخرى في مملكة يكون
فيها الدين لله؟ المؤمنون جميعهم، في بدايتهم وهم قلة، لا ينشدون إلاّ
التسامح والحقّ في الاختلاف "لكم دينكم ولي دين" حسب المأثور الإسلامي.
لكن هذا في فترة الضعف وقلة العَدد، كما حدث مثلا في المسيحية المبكرة،
حيث إن ترتوليانس يعترف بأن الطبيعة والقوانين مَنَحتْ بالتساوي كل إنسان
القدرة على اتّباع صوت ضميره، وبأنه لا يمكن أن نُكره أيّ أحد على عمل
يتضارب مع قناعته. لكنه لا يُعمّم هذا القانون لكي يرفع أي تبرير عن
الاضطهاد الديني من أيّ جهة أتى. فالمسيحية، بالنسبة إليه، لها الحق في
الحرية الكاملة الشاملة لأنها الدين الحق والقداسة الكاملة (29). هنا يكمن
الفارق بين المنظومة الدينية، وبين أيّ نظام إنساني : فالأولى تدّعي
الاكتمال منذ البداية، وتدّعي الحيازة على الحقيقة المطلقة، أما الثانية،
على عكس من ذلك، تعتبر نفسها منظومة إنسانية، بحيث تعترف بالخطأ وبإمكانية
تجاوزه وتفتح مجالا لإمكانية التقدّم، والرقيّ نحو الأفضل. إن هذا التعصّب
الأعمى المنجرّ عن وهم امتلاك الحقيقة، هو الذي ولّد في الأديان النقمة
على كل من عارضها أو انتقدها، ولذلك فهي لم تجد بدّا من إقصائه وتهميشه أو
المطالبة بإنزاله أقسى أنواع العقوبات الجسدية. السلطات الدينية إذا لم
تكن لها اليد الطولى في الممارسة المباشرة لتلك العقوبات (وهو أمر لم
تقبله كليا)، فهي تجيز لنفسها اللجوء إلى الحاكم المدني لترهيب المخالفين
«بحيث إنه غالبا ما يكون الناس مدفوعين للبحث عن الدواء الناجع لأرواحهم،
حينما يرهبون العذاب الذي يتوعّد أجسادهم (30)»، كما يقول أحد رجال
الاكليروس المسيحي.

فكما أن المسلمين جعلوا من تقنيتهم في تربية المجتمع هي التعذيب
المقنن والمنظّم من طرف الحاكم بالشريعة، كذلك فإن الكنيسة، مارست دائما
حقها في التعذيب. كلاهما، يزعمان بأنّ العذاب في هذه الدنيا غايته الردع،
ومرماه هو تطهير النفوس من أدران الكفر، حتى تصل ربّها دون شائبة، وهكذا
تتّقي عذابا أشدّ يوم القيامة. البابا ليون العاشر، في مرسوم ضدّ زعيم
الإصلاح "انهض يا ربّ (Exurge Domine)" اصدره سنة 1520 أدان فيه قولة
للوثر تبدو في بساطتها القولة الأكثر إنسانية ورأفة في العالم، وتنصّ على
أن:" حرق الهراطقة هو ضدّ إرادة الروح القدس (Haereticos comburi est
contra voluntatem Spiritus)". لكن في نظر السلطة الكنسية العليا الاعتراف
بهذه يعني شجب تاريخ كامل من أعمال الكنيسة وتدنيس لذاكرة رجال محاكم
التفتيش، بل وإدانتهم في الماضي والحاضر.

المسلمون لا يتوانون هم أيضا عن حرق المرتدّين، وهو حدّ ليس بغائب عن
الشريعة الإسلامية (استعمله، حسب الروايات القديمة، أبو بكر وخالد بن
الوليد وعلي بن أبي طالب). الكاتب المسيحي الذي دوّن المقال عن
الليبرالية، وبعد مرور أربعة قرون على تلك الإدانة البابوية، يقول بشيء من
الامتعاض، شارحا هذه الطريقة البشعة في الانتقام من البشرية: « فلنُفهَم
جيدا. من هذا البُند المُدان، لا نريد أن نستخلص أن الكنيسة تملك مباشرة
حقّ السيف، أي الحق في إصدار الحكم بإعدام [يقول إعدام وليس حرق]
الهراطقة: النص أعلاه لا يفرض هذا التأويل (31)». نحن هنا أمام عماء
تاريخي مذهل. من الذي أدان جردانو برونو وحكم عليه بالحرق ونفذه فيه؟ من
الذي سجن غاليلي وعذّبه إذن؟ إنّ ما يشغل هذا الكاتب ليس الفعل في حدّ
ذاته (الحرق، أو الاعدام كما يقول)، ما يشغله هو إبعاد التنفيذ عن
الكنيسة، وتركه في يد السلطة المدنية، حتى وإن كان ذلك الحكم بشعا ومناهضا
لكرامة الإنسان. إذا كان النص لا يفرض بالضرورة هذا التأويل، فماذا يفرض
بالتحديد؟ يفرض شيئا عجيبا حقا. إليكم الإجابة: « يمكننا ويجب علينا أن
نستنتج أن حكم الإعدام ضدّ جُرم الهرطقة [بلغة المسلمين، الردّة أو الكفر]
ليست دائما وضرورة غير مبرّرة، وأن ظروفا معينة، تحتّم، لصلاح الحالة
الروحية والأخلاقية، أن تعمل الدولة عملا حكيما وصالحا، بمعاقبة الهرطقة
العمومية [إشهار الردة أو الكفر] (32)». المسلمون لا يجب عليهم أن يسعدوا
لهذا الكلام، أي أن يُرجعوه ضد المسيحيين لإظهارهم وكأنهم محتكرو التعصب،
لأن تاريخهم مسطّر بالدماء، وتشريعاتهم ضدّ ما يسمى بالكفار والمرتدين،
السارية والمطبّقة إلى يومنا هذا، هي أكبر زاجر لهم لكي لا يسعدوا بشيء.
المسلمون حسموا القضية في حديث متّفق عليه : «من بدّل دينه فاقتلوه». أبو
بكر قتل أهل الردّة وسباهم ونكّل بهم، لا لأنهم أنكروا الدين أو حاربوه،
بل فقط لأنهم امتنعوا عن تسديد الضرائب. ابن تيمية كتب كتابا كاملا لكي
يبرهن، بصريح عباراته على أنّ « قتل المنافق جائز من غير استتابة (33)».
وأن دم أيّ واحد في الدولة ليس معصوما بظاهر إيمانه «وإن أنكر ذلك القول،
وتبرّأ منه، وأظهر الإسلام». الأدلة والقرائن من السيرة مفحمة لمن هو في
ريب من أمره وابن تيمية يعرضها في عرائها هكذا: «ويدلّ على ذلك أن النبيّ
أهدر يوم فتح مكة دم عبد الله بن سعد بن أبي سرح، ودم مِقيَس بن حبابة،
ودم عبد الله بن خطل، وكانوا مرتدّين ولم يستتبهم … فعُلم أن قتل المرتدّ
جائز، وأنه لا يُستتاب (34)». القتل بالنسبة لشيخ الإسلام هو القانون
العامّ في الدولة الإسلامية، ضدّ كل من ارتدّ أو تزندق أو كفر، وهو يعرض
الأحداث والوقائع التي تبرهن على أنّ تلك الإجراءات هي من صلب تراث
الإسلام. وهذا ما حكاه عن عليّ بن أبي طالب: «أتى عليّ برجل قد تنصّر،
فاستتابه، فأبى أن يتوب فقتله». يعني هكذا بكل راحة بال، قتل حاكم مسلم
رجلا كان مسلما ثم تحوّل إلى المسيحية، دون أيّ تعليل أو تفسير معقول.
والأدهى هو الآتي: «وأتى برهط يُصلّون القبلة وهم زنادقة، وقد قامت عليهم
بذلك الشهود العدول، فجحدوا، وقالوا ليس لنا دين إلاّ الإسلام، فقتلهم ولم
يستتبهم (35)». وفي رواية أخرى لم يكتف بجزّ رؤوسهم بل حرقهم بالنار «وعند
الطبراني في الأوسط من طريق سويد بن غفلة ‏"‏أن عليا بلغه أنّ قوما
ارتدّوا عن الإسلام فبعث إليهم فأطعمهم ثم دعاهم إلى الإسلام فأبوا، فحفر
حفيرة ثم أتى بهم فضرب أعناقهم ورماهم فيها ثم ألقى عليهم الحطب فاحرقهم
ثم قال‏:‏ صدق الله ورسوله"‏». إن قاعدة عليّ، حسب ما حكاها عنه المسلمون
هي هذه: «إني إذا رأيت أمرا منكرا أوقدت ناري ودعوت قنبرا [أي دعا مساعده
المسمّى قنبر]». ولا ينجو من أحكام القتل هذه أي أحد: لا الذمّيّ ولا
المرأة ولا العبد ولا حتى أسير الحرب. يقول ابن تيمية مرة أخرى «وقد ثبت
ثبوتا لا يمكن دفعه أن النبيّ وخلفاءه الراشدين كانوا يقتلون كثيرا من
الأسرى من غير عرض الإسلام عليهم وإن كانوا ناقضين للعهد(36)». الأبواب
موصدة أمام الجميع، والسيف نازل على رقبة كل من سوّلت له نفسه نقد الإسلام
أو نبيّه أو تبديل دينه أو الكفر بالأديان: «المرتدّ الطاعن لا يجب قبول
توبته، بل يجوز قتله وإن جاء تائبا وإن تاب (37)». ولا تُعفى حتى المرأة
من هذه الأحكام القاسية والدليل على ذلك أنّ النبيّ، دائما حسب ما استقاه
ابن تيمية من السيرة، «أمر بقتل النسوة اللاتي كنّ يؤذينه بألسنتهم
بالهجاء، مع أمانه لعامّة أهل البلد، ولم يستتب واحدة منهنّ حين قتل من
قتل … وهؤلاء النسوة قُتِلن من غير أن يُقاتلن ولم يُستَتبْن، فعُلم أن
قتل من فعل مثل فعلهنّ جائز قتله بدون استتابة، فإن صدور ذلك عن مسلمة أو
معاهدة أعظم من صدوره عن حربية [يعني امرأة مشاركة في الحرب] (38)».

بالنسبة لسيّد قطب ليس من الضروري إطلاقا اللجوء إلى القانون أو تلمّس
أسباب معقولة لتبرير حركة الزحف الإسلامي. فالدين الحق، يعني الإسلام،
الذي ينبغي بل يجب أن ينتشر في الأرض ويسودها بالقوّة «ليس في حاجة إلى
مبررات أدبية». لماذا؟ لأن الإسلام «له أكثر من المبررات التي حملتها
النصوص القرآنية "فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا
بالآخرة. ومن يقاتل في سبيل الله فيُقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما
(النساء، 74)"». إلى آخره من الآيات المحرّضة على القتل.

3- الاختراق والاحتواء:

لقد ظهرت في القرن التاسع عشر ـ على إثر انتشار الفكر الليبرالي وما
صاحبه من حرية فردية وإرهاصات علمانية ـ تحركات من طرف مجموعات مسيحية
لاختراق الليبرالية واحتوائها. البعض منهم أراد أن يلتهم حتى مبادئ الثورة
الفرنسية باعتبارها ناتجة عن تعاليم المسيح ذاته (39). وهناك في العالم
العربي فصيلة من الإسلاميين الذين يحاولون هم بدورهم افتكاك الإنجازات
الليبرالية التحررية وإرجاعها إلى تعاليم الدين، أو التوفيق بينها وبين
العقيدة الإسلامية. فالديمقراطية والحرية الدينية هي من جوهر الإسلام،
والغرب الليبرالي لم يأت، في مجال الحريات العامة والحكم الرشيد بشيء جديد
يُعتدّ به. إرناست رينان، الذي لا يخفي نزعته العلمانية وحتى المناهضة
للإكليروس، ارتطم هو نفسه بنزعة من هذا القبيل كانت قد استفحلت في فرنسا
منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر. ولقد شدّت انتباهه تلك المفارقة
التي بموجبها ينتصب أخطر مناهضي الحريّة وأكثرهم حقدا عليها مدافعين عنها
(40). فعلا، «إن الأحزاب الرجعية ـ يقول رينان ـ التي تعتقد بأنها مسلوبة
حق حينما اكتسبت الإنسانية حقوقها وكسرت العصا التي أرادت بها عرقلتها،
تأتي أخيرا للانتصاب كمضطهَدة، والمطالبة لها بفوائد الحرية التي حاربتها
بشدّة، حينما كانت مضادة لها (41)». هذا تناقض وفي نفس الوقت، بالنسبة
لرينان، خطوة كبيرة لأنّ التيار التحرري الحديث استطاع أن ينتزع من أعداء
الحرية اعترافا بفائدتها، وبصلاحيتها حتى لقضاء مصالحهم. لكنه شيء مربك
إذا علمنا أن الأشياء وصلت إلى هذا الحدّ، أي إلى حدّ أن مصلحة أعداء
التقدّم جعلتهم ينادون بالمبادئ التي خلعتهم، ويطالبون بالذهاب بها إلى
مداها الأقصى (42). لا ينبغي أن نعوّل على هذه الليبرالية المفروضة ظرفيا،
لكن هذا التحوّل إن دل على شيء فإنما يدلّ على أنّ هناك رضًى برؤية هذه
الحقوق الإنسانية مُعلنة ومثارة من طرف أولئك الذين صادروها في البداية.

ومع ذلك فإن هذه الانقلابات المستمرة، الشرعنة للزجر والمنع والتحريم
ثم التراجع عنها، هذا التحول من أعداء للحرّية إلى مبشّرين بها يُحتّم
علينا عدم تصديقهم. ولا هم، في حقيقة الأمر، جدّيون في مؤلفاتهم الزاخرة
بالدعاية لأنّ التاريخ، بكلّ ثقله، ينتصب أمامهم ليُكذّبهم. المؤسسات
الدينية القائمة لا يمكنها أن تتخلص من ماضيها، فنَفي أيّ شيء من تراثها
يعني الموت.

الفكر الليبرالي الحر هو في الطرف النقيض للمجال الذي يُموقع فيه
الدين نفسه، لأن مجال هذا الأخير، كما يقول رينان "تعيس ومشوّش" إذا قسناه
بمعايير العقل البشري. فالحقيقة بالنسبة للفيلسوف هي كسب مكتمل نسبيا
وحراك متواصل، لا يُحتّم التوقف النهائي، ولا التخلي عن كل شيء، يعني عن
الماضي، دون أن يكون عبدا لذاك الماضي. هذا الماضي لا ينبغي أن نُلغيه أو
نُبطله بل يجب «أن نعرف كيف نفسّره بالمعنى الجديد، وإظهار وجه الحقيقة
الذي يحمله والذي أسيء تحديده (43)». فاستخدام أنظمة متعددة، وتجاوز
الحلول القديمة بتفعيل مناهج أخرى، لا يُضعف أبدا من قدرة الفيلسوف بل
يُقوّيه، لكن بالنسبة للأرثودوكسية الدينية هذه المنهجية ممنوعة. والسبب
الرئيسي في ذلك أن كل دين يموقع نفسه منذ البداية في نقطة الاكتمال
وبالتالي يمتنع عن أي محاولة للتقدّم أو المراجعة أو التنسيب، ومع مرور
الزمن يتصلّب في مقولات ساكنة لا ينبغي إلا الامتثال لها دون مناقشة.
التاريخ يشهد بذلك، والماضي هو الحائط الذي لا يمكن أن يتجاوزه أي دين،
وفي كل مرة حاول فيها اللحاق بركب التقدم فهو مُرغم على نكران ذاته
وتاريخه وتراثه. رينان يقول بأن الأرثوذكس، على هذا الأساس، ليس لديهم
الحقّ في التكلم عن الحرية، وإذا تحدثوا عنها، فليس لديهم من خيار إلاّ أن
يكونوا كذابين أو هراطقة (44).

أهل الأديان جميعهم يرفضون البنود المؤسسة للمنظومة الليبرالية، وفي
مقدمتها: السيادة الشعبية، التسامح والانفتاح تجاه الأديان الأخرى، حرية
التفكير الغير محدودة، بما فيها حرية التعبير والصحافة.

بالنسبة للسيادة الشعبية، فهم إن اعترفوا بها عن مضض، يضيّقون من
صلاحياتها ويجعلونها تابعة لنظام عقدي معين. رينان يقول بأن الكُتّاب
الكاثوليك، دون تمييز، حتى أولئك الذين بدوا أكثر ليبرالية، وكل
اللاهوتيين والفلاسفة المسيحيين الذين يَدُورون في فلك الكنيسة، مُجمَعين
على إدانة البند الأساسي في النظام الليبرالي أي السيادة المطلقة للشعب
وحقه في حكم نفسه بنفسه. العقد الاجتماعي لروسو، رغم كل نقائصه من الجانب
الافتراضي والتاريخي، يبقى دائما بالنسبة إليهم كتابا هرطقيا، ولكن
بالنسبة لليبراليين يبقى رمزا للفكر الحرّ. الحق الإلهي هو في أعينهم
قضيّة غير قابلة للمساومة، بل هي بند إيمان مدعّم بالكتاب المقدس. وبما أن
تأويلهم ليس بلطيف على المعاني المضادة ـ كما يقول رينان ـ فإن النصوص
مجودة بوفرة. (سفر الأمثال، 8 ـ 15، رسالة بطرس، 2 ـ 13، بولس رومية 13 ـ
1 ـ 7).

لقد أصبحت موضة متفشية منذ زمان، يقول رينان، القول بأن الإنجيل يحتوي
على مبادئ الحرية السياسية، والسيادة الشعبية، مثلما يزعم الإسلاميون
الآن. لكن، يعترض رينان، نحن سنكون، دون شك، في حرج كبير إذا ثبت وجود أي
مقطع يحتوي على بذرة النظام السياسي المعمول به من طرف الأنظمة الحديثة
(45). إن الاحترام للإنجيل وللكتب المقدسة، لا ينبغي أن يذهب بالمرء إلى
العثور عما لا يوجد فيها. الفكرة المولّدة للإنجيل، كما يرى رينان وكثير
من المفكرين الغربيين، هي فكرة أخلاقية دينية غايتها التنبيه على كيفية
اكتمال وتطهير داخلية الإنسان: «دون شكّ ـ يواصل رينان ـ إن احترام
الإنسانية الذي ينبع من هذه التعاليم يجب أن يقود إلى أفكار قيّمة في
السياسة، وبالفعل تستحق اعترافا للمسيحية، لكن دون مبالغة أو إجحاف. هذه
النتيجة "السعيدة" يجب أن تُستخرج على وجه الاستتباع البعيد. فالمقطع
السياسي الوحيد الذي يمكننا الاستشهاد به من الإنجيل هو كلمة لامبالاة
عالية "اعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله"».

هذه القولة اليتيمة التي أصبحت الآن سلاحا حادّا في أيدي المتعصبين
المسيحيين تُستعمل ضد الأديان الأخرى، للبرهنة على أن المسيحية وحدها هي
الحاملة منذ البداية لبذرة العلمانية، ولفكرة فصل الدين عن الدولة، بدت
لرينان مجرّد لامبالاة دون أي استتباع عملي جدي. المسلمون، من جهتهم،
يستعملون هذه القولة اليتيمة بنفس الحدّة وبنفس الطلاقة اللاتاريخية لكي
يثبتوا أن تعاليم الدين المسيحي فاسدة، وبأن الدين الإسلامي أفضل منه لأنه
الوحيد الذي جعل قيصر وما لقيصر لله وحده. لكن هذه القولة اليتيمة، إن
كانت بالفعل من جوهر المسيحية، فإن المسيحيين هم تعساء لأنهم بقوا لمدة
ألفي سنة ولم يفعّلوا المبدأ الذي نص عليه كتابهم المقدّس، أي الفصل
التامّ بين السياسة والدين. في حقيقة الأمر هنا تكمن الخدعة، إنها محاولة
أخرى من تلك المحاولات التي برع فيها أهل الأديان، أي اختراق إرث الحداثة
واحتوائه. فالمتدينون حينما تفطّنوا إلى أن الرّكب سائر في طريقه دون أن
يبالي بهم أخذوا يهرولون وراءه ويلهثون للحيازة على مكان ما.

هل أفكار الحرية والسيادة الشعبية نبعت أصلا من المسيحية أو من أيّ
دين آخر؟ هل شعارات الثورة الفرنسية جاءت من تعاليم المسيح؟ تاريخيا لا
يمكن للجواب إلاّ أن يكون بالسلب. فعلا، ألم تعمل كل القوى الدينية، منذ
ردح طويل، على خنق كل الحركات التي أدّت إلى تحرير الإنسان الحديث؟ ألم
يكن الكتّاب الكاثوليك هم الأشد مناهضة لكلّ نزعة ليبرالية؟ التاريخ يبيّن
أن المسؤول عن هذا التحرر والمساهم الأوحد فيه هي الروح الحديثة، التي
تخلّصت، في الغرب، ليس من المسيحية فقط، بل من النظام الفوطبيعي ومن
خرافات كل الأديان. لقد تعاملت الأرثوذوكسية الدينية مع تلك الروح
التحررية ومع رجالها بازدواجية ومكر: «في البداية لعنتهم، وبعدها حينما
رأت أنه من المحال كبح التيار، وأن البشرية ستواصل في شق طريقها، غير
عابئة بتركها إلى الوراء، أخذت تجري وراءها، تُسرع حثيثا، تدّعي بأنها هي
وحدها التي فعلت كل شيء، ولذلك تستحق الاعتراف لها بالجميل (46)».

أما مفهوم التسامح كقاعدة أساسية للتعايش السلمي في كل مجتمع ليبرالي
ديمقراطي، فهو غائب عن الأديان لأسباب جوهرية. فعلا، لا يمكن لأي دين أو
منظومة عقائدية، يزعم أصحابها أنها منزّلة من السماء، أن تتمسك بهذا
المبدأ وترتكز عليه في تعاملها مع الآخرين. القرآن يقول: لكلّ جعلنا منكم
شرعة ومنهاجا؛ لا إكراه في الدين؛ لكم دينكم ولي دين، وفي نفس الوقت نجد
آيات تقول: إن الدين عند الله الإسلام؛ ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن
يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين، إلى آخره من الآيات والأحاديث. إذا
جمعنا الأطروحة والنقيض فإن الكفة تبدو مرجحة أكثر للنقيض، أعني للتعصب
وليس للتسامح والانفتاح. أما الدين الذي يرى أصحابه أنه الأكثر انفتاحا
والأقل تعصبا، والداعي إلى محبة العدوّ حتى، فإنه لا يخلو هو أيضا من
التناقضات الصارخة.

هناك قانون عام، يدعمه الواقع العيني والأحداث الماضية، وهو أن
الأديان التوحيدية، لم تكن في يوم ما متسامحة، ولن تكون كذلك أبدا،
والمتدينون، حينما يكونون صادقين مع أنفسهم، يُقرّون بذلك صراحة. لكنهم
غارقون في ازدواجية قاتلة، واحدة داخلية، والأخرى خارجية، حسب رينان. لا
تطلبوا من أي ملّة هذا التسامح الداخلي، الذي هو ليس بالريبية في بنود
الدين، وإنما الفعل النقدي عليها، فهو مدان ومرفوض كعمل خبيث، سيئ،
ومستحيل. فعلا، في اللحظة التي يقتنع فيها أهل هذه الملة بأنها هي الحقيقة
المطلقة والوحيدة، فإنه من الصعب جدا، هذا إن لم يكن من المحال أن يعترفوا
بنظام ديني آخر يزعم هو أيضا امتلاك الحقيقة عن جدارة. « كل تعاليم مطلقة
هي في جوهرها، ومن حيث المبدأ، لامتسامحة (47)».

ولذلك فليس من الإجحاف القول بأن كل أرثوذكسية دينية هي خالية بتاتا
من الحيادية الفلسفية، تلك الحيادية التي تجعلها منفتحة على التعاليم
والأفكار المخالفة أو المغايرة، دون اتخاذ موقف رافض ما قبليا. هذا
التسامح هو، حسب رينان، الشرط الأساسي للتسامح الخارجي الذي يجعل ممكنا
الحفاوة بين المتنازعين، والذي، في ميدان السياسة، يمنح للواحد وللآخر نفس
الحقوق. إن منطق الأرثوذكسية الدينية مخالف لهذا النهج، لأن منطلقه يقوم
على مسلّمة متعسفة وخطيرة، وهي أن الدين يحتكر في ذاته الحقيقة الإلهية
المطلقة، هو الفطرة الساكنة في جبلّة الإنسان، كما يزعم المسلمون. ولا
يستطيع أحدهم أن يرفض الحقيقة إلاّ وهو جاهل جهلا مطبقا أو متعمّد وعن سوء
نية، ولا يقدر أي شخص أن ينسلخ من فطرته، إلاّ وهو ناكر للطبيعة أو سائر
ضدها. الموقف من هذين الشخصين هو، في أحسن الأحوال تجاهلهما، بشيء من
الازدراء، كما جاء في رسالة بولس إلى تيطس (3 ـ 10) «وصاحب الهرطقة اقطع
العلاقة به بعد إنذاره أولا وثانيا. عالما أن مثل هذا هو منحرف يمضي في
الخطيئة وقد حكم على نفسه بنفسه!». المؤمن المنشق عن الجماعة يقول يسوع
المسيح يجب أن يُنظر إليه "كالوَثَنِي وجَابِي الضرائب (متى، 18 ـ 17)".
أما إذا أراد المؤمنون أن يسيروا على معيار حقيقتهم الإلهية المطلقة،
وتطبيق تعاليمها فلا مفرّ لهم من الإدانة، أو التطهير عن طريق الحرق. إن
محاكم التفتيش التي لاحقت الهراطقة في كل ركن من أوروبا وحرّقتهم بالنار،
لم تخرج عن تعاليم الإنجيل. لقد أسست مشروعيتها الإلهية على قولة للمسيح:
«إن كان أحد لا يَثبُتُ فيَّ يُطرح خارجا كالغصن فيَجفّ؛ ثمّ تُجمع
الأغصان الجافة، وتُطرح في النار فتحترق "يوحنا، 15، 6"». وفي ترجمة أخرى
«من لا يثبتْ فيَّ يُلقَ كالغصن إلى الخارج فيَيْبس فيَجمعون الأغصان
ويُلقونها في النار فتَشتَعل (48)». افعلوا كل ما بوسعكم لكي تُخرجوا هذه
القولة من معناها الحرفي إلى أيّ معنى رمزي مجازي، فإنكم لا تستطيعون أن
تُطهِّروها من بُعدها التعصبي. فهي، حتى وإن اعتُبرت مجرّد أمثولة، تبقى
دائما عنيفة ومخلّة بالرحمة التي يعتقد أتباع هذا الدين أنه جاء بها من
دون الأديان الأخرى.

وأرى أن الإنجيليين الذين يوزعون كتبهم على المسلمين لكسبهم إلى دينهم
على أساس أنه دين الرحمة والعطف والمحبة والغفران، بخلاف الإسلام الذي هو
دين العنف والسيف، ليس لهم أي مخرج أمام هذه الأقوال المبثوثة في الأناجيل
والتي شرّعت لكل أشكال الإقصاء والتكفير. لا يستطيعون أن يُعزوا البشرية،
على أساس قولة المسيح أعلاه، إلاّ بالإمعان في إذلالهم وإحباط أعمالهم
وإتلاف مجهوداتهم بالكامل. في تأويلهم لهذا المقطع كتب رهط من العلماء
المسيحيين، وكلّهم دكاترة راسخون في علم التأويل: «يحاول الكثيرون أن
يعملوا الصلاح وأن يكونوا أمناء وأن يصنعوا ما هو صواب. إلاّ أن الربّ
يسوع يؤكّد أن الطريق الوحيد للحياة الصالحة الحقّ هو الالتصاق به مثل
التصاق الغصن بالكرمة. فبعيدا عنه وبدونه تصبح جهودنا ضائعة (49)». نحن
هنا أمام تأويل بروتستانتي لقولة المسيح من إنجيل يوحنا: الإصحاح 15،
الآية 6، وكما هو معلوم فإن الإنجيليين يكنّون أشدّ العداوة لملّة
الكاثوليك لكن في هذه النقطة، تختفي الفروقات وتصمت العداوة، وجميعهم
يعودون لنفس المنبع لكي ينضووا تحت شعار واحد: (Extra Ecclesiam nulla
salus) يعني "خارج الكنيسة لا يوجد خلاص"، ولكلّ أن يُلبس اسم الكنيسة
اللقب الذي يريده (كاثوليكية، بروتستانتية، أرثوذكسية، إنجيلية…).

المسلمون، في هذه النقطة، لا يختلفون قيد أنملة عن المعتقد المسيحي.
فبالنسبة إليهم خارج الإسلام لا يوجد خلاص البتة. أهل الأديان جميعهم،
والفلاسفة القدماء والمحدثون أعمالهم محبطة حتى وإن تصرفوا بأخلاقية. ابن
تيمية تهجّم على المتديّنين في جميع الملل، ورفع عنهم صفة التقوى، بل
وقَذَفَهم بالكُفر حتى وإن كانوا مجتهدين، كما يقول «في العلم والزهد
والعبادة(50)». شرط الإنسانية التقيّة، بالنسبة إليه، يقتصر فقط على
الإيمان بما «جاء به محمد». وحتى لو بَلغ الرجل في الزهد والعبادة والعلم
ما بلغ «ولم يؤمن بجميع ما جاء به محمد فليس بمؤمن، ولا وليّ لله تعالى
كالأحبار والرهبان من علماء اليهود والنصارى وعبادهم، وكذلك المنتسبين إلى
العلم والعبادة من المشركين، مشركي العرب والترك والهند وغيرهم ممن كان من
حكماء الهند والترك وله علم أو زهد وعبادة في دينه وليس مؤمن بجميع ما جاء
به محمد فهو كافر عدوّ الله، وإن ظنّ طائفة أنه ولي لله، كما كان حكماء
الفرس من المجوس كفارا مجوسا، وكذلك حكماء يونان، مثل أرسطو وأمثاله كانوا
مشركين يعبدون الأصنام والكواكب (51)». إن علوم الفلاسفة وتنسّك عبّاد أهل
الأديان الأخرى، هي في نظر العلامة ابن تيمية، ليست إلاّ هلوسات الشياطين،
جميعهم أولياء الشيطان وليسوا بأولياء الرحمان «ولهذا تنزّلت عليهم
الشياطين واقترنت بهم فصاروا من أولياء
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

بقلم : . . محمد المزوغي :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

بقلم : . . محمد المزوغي

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
» محمد المزوغي سيرة مخطوط
» قراءات نيتشه وأبعادها النظرية - محمد المزوغي
» عمانوئيل كانط : الدين في حدود العقل او التنوير الناقص- محمد المزوغي
» مناهج البحث العلمي وأسس الفكر الليبرالي عند كارل بوبر - محمد المزوغي
» الأصل والتكون الاحد 8 نيسان (أبريل) 2012 بقلم: محمد وقيدي

صلاحيات هذا المنتدى:تستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: دراسات و ابحاث-
إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوعانتقل الى: