0inShare
Share on Tumblrفردريك نيتشه لم يكن فيلسوفا بالإحتراف، ولم يتردّد أبدا على كلية الفلسفة في حياته الدراسية. والكلّ يعلم أنه كان، أولا وقبل كل شيء، فيلولوجيا مختصّا في الدراسات الكلاسيكية. علم الفيلولوجيا الكلاسيكي هو علم يعنى بدراسة الآداب القديمة ولغاتها (اليونانية واللاتينية) دراسة تاريخية نقديّة؛ علم يعتمد التدقيق في النصوص والتحقيق فيها والمقارنة بين المصطلحات والعبارات وتاريخ تطوّرها والتغيّرات التي طرأت عليها عبر العصور. وهو اختصاص ذو مناهج محدّدة ومبادئ عامة مُعترف بها ومُجمع عليها من طرف الدارسين المختصين. وهو أيضا علم لا يدّعي لنفسه تجاوز حدوده ولا الدخول في نزاع مع العلوم الأخرى. مَن يكتب في الفيلولوجيا عليه أن يتمسك بقواعد ذاك العلم وبمناهج البحث التي أُرسيت منذ عهود، وأن يستثمر ما آلت إليه البحوث السابقة والمعاصرة.
عدم تمكّن نيتشه من الفلسفة يظهر بوضوح من خلال كتاباته التي تشكو النقص في التوثيق وغياب الإستشهاد بالمراجع والتسرّع في الأحكام والنثر المشبّع خطابة وشعريّة. ولكن الأكثر خطورة هو أن نيتشه أخلّ حتى بالعلم الذي اختص فيه أي الفيلولوجيا: فعلا، كتاب نشأة التراجيديا " Die Geburt der Tragödie" هو كتاب فيلولوجي حالم ومتوهّم. لقد خرق بذاك العمل، وهو رجل متخصّص، يدرس ذاك العلم في مؤسسة جامعية عريقة، كل المعايير والمناهج التي انبنت عليها الفيلولوجيا.
شنّ حربا شعواء على أعلام الفلسفة اليونانية الكلاسيكية وبالأخص منهم سقراط واتهمه بقتل التراجيديا هو والكاتب المسرحي يوربيدس الذي استمدّ، حسب زعمه، تعاليمه من سقراط وأدخل العقل والمنطق في أعماله المسرحية. وهي حملة بدأها قبل صدور نشأة التراجيديا في مجموعة من المحاضرات ألقاها في فترة لا تبعد كثيرا عن فترة صدور كتابه نشأة التراجيديا. هذا علاوة على أقوال مربكة وأفكار ناشزة وتُهَم خطيرة، رُكّبت على كَاهل رِجَال مِن العالم اليوناني وعلى فيلولوجيين معاصرين له وسابقين عليه. وهي أقوال ينقصها التوثيق وغير مدعّمة بشواهد تاريخية دقيقة كما هو معمول به في أي مبحث علمي يستحق هذه التسمية.
كتابان اثنان كانا لهما أثر كبير ومحدِّد في حياته الفكرية :
[rtl]
ـ اكتشافه الأوّل في الفلسفة عثر عليه صدفة، دون قصد منه، وهو كتاب العالم كإرادة وتمثل (Die Welt als Wille und Vorstellung
) للفيلسوف آرتور شوبنهاور. قرأ ذاك الكتاب بِنَهم واكتشف عوالم نظريّة جديدة لم يكن لِيَحلم بها وهو شابّ تربّى فكريا في أحضان الفيلولوجيا واعتاد التحقيق والتدقيق في النصوص الكلاسيكية وتروّض على استعمال المنهج التحليلي التاريخي المفصّل والنقد المنهجي.
ولقد قال واصفا الأثر الذي أحدثه فيه اطلاعه على عمل شوبنهاور : « كلّ سطر [من الكتاب] يدعو للتسليم، للرفض، للإستسلام: لقد رأيت في تلك المرآة معكوسة، بحجم رهيب، العالم، الحياة وذاتي. لقد حدّقت بي، من خلال تلك الصفحات، العين المشرقة واللامبالية للفنّ. هنا مرّت أمام أعيني الداء والدواء، الطرد والعودة، النعيم والجحيم ».
ويبدو أن تلك التجربة الفكرية، التي أحدثها فيه الإطلاع المفاجئ على كتاب شوبنهاور، كانت تجربة محدّدة وعميقة وَسَمَت ذهنيته بِسِمَات لازمته طوال حياته؛ على الرغم من أنه في الأخير، وكعادته، انقلب على أعقابه وناصبه العداء وشنّع عليه.
وما لازمه من فلسفة شوبنهاور هو جانبها السلبي أي معارضتها العقل بالإرادة وقاعدتها اللاعقلانية وعداؤها للوضعية وللعلم وتشاؤمها العميق والزّعم بأن الخلاص ليس متاحا للإنسان إلاّ عن طريق الفنّ والموسيقى.
وما كان لأي شخص درس الفلسفة بجدّية وتشبّع بروحها النقدية الصارمة أن يفتتن بسهولة بفلسفة شوبنهاور وأن يجاريه في أفكاره ويتبنّاها دون نقاش. بل إنه من المفروض أن يكون إطلاعه الشامل على تاريخ الفلسفة ومعرفته بمختلف الأنساق الفكرية والعلمية درعا يقيه من التهافت على فكر ما دون اخضاعه لعمليّة تمحيص ونقد عميقين. وقد تمكنه معرفته الشاملة من وضع فلسفة شوبنهاور في موضعها وتأطيرها في مجالها الخاصّ من تاريخ الفلسفة.
«العالم هو تمثلي» (Die Welt ist meine Vorstellung
) بهذه القولة يفتتح شوبنهاور كتابه العالم كإرادة وتمثّل، ومعروف في تاريخ الفلسفة أن هذه المقولة تميّزت بها النزعة الذاتويّة وكلّ التيارات الفكرية المماثلة لها. والفلسفة المثالية ذات المنحى الرومانسي، التي سادت الفكر الألماني في تلك الفترة، هي ذاتوية خالصة لأنها تختزل الواقع العيني وقيم الحق والجمال في ادراكات الذات وتمثلاتها: العالم المادي والقيم الأخلاقية من خير وشرّ وجمال وقبح، والقيم العلمية والمنطقية من صدق وكذب وصواب وخطإ هي أمور نسبيّة ترجع أساسا إلى خيارات شخصية تحدّدها الذات دون وجود ما يطابقها في الواقع العيني. وشوبنهاور يثني على الفيلسوف الإنجليزي بركلي الذي، حسب رأيه، عبّر عن تلك الحقيقة المبدئية التي تنصّ على أن الوجود هو ما يُدرك (Esse est percipii
)، بل إن هذا الرأي، حسب شوبنهاور، عبّر عنه حكماء الهند الذين جعلوا من المبدإ الأسمى في تعاليم الفيدانتا حقيقة أن وجود الشيء وإدراكه الذاتي مترادفان.
بالتساوق مع هذه الحقيقة "الخالدة" هناك حقيقة أخرى لا تقلّ عنها أهميّة، تمعن في تجذير النزعة الذاتية وتعمّقها، حيث أنها تنصّ على أن «العالم هو إرادتي» ( Die Welt ist mein Wille
) أي أن العالم في ذاته لا وجود له وإنما وجوده مشروط بالذات المدرِكة ومستنفذ في تمثلاتها ومحكوم بإرادتها الذاتية.
وعلى الرغم من إلمامه الكبير بدقائق علوم عصره فإن شوبنهاور ـ وهنا يبرز الجانب السلبي من تفكيره ـ كان ناقدا ومشكّكا في العلم وفي قدرة العقل على المَسك بحقائق الأشياء. وقد استمدّ من كانط ذاك التصوّر حول الشيء في ذاته كحدّ أقصى للمعرفة الإنسانية وتمسّك به وتبنّاه كقاعدة أوّلية لضرب ادعاءات العقل في امكانية التوصّل إلى معرفة مطابقة للواقع .
العلم لا يعرف إلاّ سطح الأشياء: « الميكانيكا والفيزياء والكيمياء تعطينا القواعد والقوانين التي تفعل بمقتضاها القوى [...] : لكن تلك القوى في ذاتها، مهما يُقال ومهما يُفعل، تبقى دائما خاصيات خفيّة (qualitates occultae
)، لأن الشيء في ذاته، حينما يَتمظهر ويُبرز لنا تلك الظواهر، فإنه مختلف جذريا عن الظواهر ذاتها ».
كلّ القوى الطبيعيّة تبقى، في نهاية المطاف، غامضة الفهم ومستعصية على الإدراك الإنساني لأن ظواهر الطبيعة والقوى المسيّرة لها، ليست إلاّ « درجة معيّنة من تموضع الإرادة، أو ما نعتبره نحن جوهرنا الخاصّ؛ أي أن هذه الإرادة في ذاتها تقبع خارج الزمان والمكان ». على هذا الأساس تغدو المعرفة الإنسانية غير قادرة على المسك بتلك الإرادة الكونية، التي هي الشيىء في ذاته، ولا حتى قانون السببية يساعد على اكتناه اسرارها. مبدأ السببية الذي تعتمد عليه العلوم الوضعيّة ليس إلاّ إسقاطا ذاتيّا ولا وجود لما يطابقه في الخارج، لذلك، حسب شوبنهاور، فإن « مالبرانش (Malbranche
) على حقّ: كلّ سبب طبيعي ليس إلاّ سببا ظرفيّا» أي لا ينبع من ذات الأشياء بل يُلمّح فقط إلى التمظهر الخارجي لتلك الإرادة الواحدة المستعصية على الإدراك الإنساني، بحيث أن تمظهراتها المتدرّجة تكوّن العالم المرئي برمّته.
لا أريد أن أختزل فلسفة معقدة وثريّة، كفلسفة شوبنهاور، في هذه الأطروحات التي نجدها صريحة وجليّة في كتابه العالم كإرادة وتمثّل. ولكن إذا اطّلع شابّ في مقتبل العمر على كتاب فيه أفكار من هذا القبيل مركّزة في جزء كبير منها على التّشكيك في قدرة العلم على إدراك حقيقة الوجود، وإذا كان ذاك الشاب صفحة بيضاء لم ينهل بعد من الفلسفة ولم يتعمّق في أغراضها فمن السهل حدس الأثر البالغ الذي تخلّفه فيه والأفكار التي تتجذر في ذهنيّته مكوّنة نظرته للعالم. وبالأخصّ إذا لم تكن له ميول علميّة ولا إلمام ببعض دقائقها (كما كان الأمر بالنسبة إلى نيتشه. والكلّ يعلم جهله بالعلوم الصحيحة وغربته عن الرياضيات التي تندّر بها نُقاده) فإنه حتما سيعادي العقل وسيحطّ من قيمة العلم وسيتنكر للتنوير يعني أنه سيعيش نفسيّا في واقع مغاير لواقعه وفي ذهنية مخالفة لذهنية عصره التي أولت العلوم الصحيحة مكانة عالية وبثتّ روح التفاؤل بالتقدّم وبقدرة العقل البشري على معرفة الكون والتحكم في الطبيعة والسيطرة عليها وتسييرها.
لايبقى أمامه إلاّ طلب الخلاص والعزاء من نسق مغاير ومن مجال ذهني مختلف، وشوبنهاور يقدّم له البديل؛ إنه الفن والعبقرية الفنية: « أيّ صنف من المعرفة يسمح بتأمل الحقيقة الجوهرية للعالم؟...أيّ نوع من أنواع المعرفة تُتأمّل فيه المُثل، التي هي التموضع المباشر للشيء في ذاته، للإرادة؟ هذه المعرفة الخاصّة هي الفنّ، عمل الإنسان العبقري ». ومن هذه الفنون يتميّز فن الموسيقى لأن الموسيقى تعبّر مباشرة عن تلك الإرادة المتعالية، عن الشيء في ذاته وعن المثل المفارقة.
ما يفتن القارئ في فلسفة شوبنهاور هو سهولة عباراته وسلاسة أسلوبه ووضوح مفاهيمه وتسلسلها المنطقي، وهي فضيلة كبرى في وقت نحت فيه الفلسفة الألمانية مع هيغل، الذي كان شوبنهاور من أشدّ معارضيه وخصومه، إلى غموض العبارة وتعتم المفهوم وصعوبة المسك بجوهر التفكير. يكفي قراءة الصفحات الأولى مِن فنمنولوجيا الروح (Phänomenologie des Geistes
) حتى يصيبنا نوع من الغثيان ويمتلكنا الإستياء والضجر وأظنّ أن قليلا من الناس صبروا على قراءة ذاك المؤلّف من أوّله إلى آخره. لكن مع شوبنهاور الأمر مختلف، إذ يمكن قراءة كتابه في غضون أيام من أوّله إلى آخره وإعادة قراءته واستيعاب أفكاره الأساسية بيسر وسهولة.
ولكن من الصعب الإعتراض على فلسفته ونقد تعاليمه ومبادئ نسقه إن لم يكن قارؤه مُلمّا بتاريخ الفلسفة ومتخصّصا فيها. وهذه بالفعل هي الحالة التي كان عليها نيتشه فقد كانت معرفته بالفلسفة معرفة سطحيّة لا تتجاوز نطاق المعرفة الفيلولوجية وقد اعترف ياسبرس وكثير من كاتبي سيرته بهذه الثغرة في تكوينه الفلسفي. وقد أدّاه هذا الأمر إلى الإرتماء في أوّل نسق فكري صادفه في حياته، لقد تبنّى فلسفة شوبنهاور من خلال كتاب العالم كإرادة وتمثّل مباشرة ودون مقاومة ذهنيّة أو روح نقدية أو تريّث.
فلسفة وشبنهاور هي فلسفة الإرادة أي الإرادة مَنظور إليها من جانب ميتافيزيقي؛ ومعلوم أن الإرادة لا شيء يحيطها ولا منطق يضبطها. في الوقت الذي يعمد فيه العقل إلى تقنين الأشياء واحكامها فإن الإرادة، على العكس من ذلك، تطلق العنان للخيال والإعتباط وحريّة الإختيار.
للعقل مبادئ نظرية ثابتة وقوانين شاملة وقواعد منطقية تحكم فعاليته وتعصمه من الخطأ وتمكنه من إصابة الحقيقة؛ الإرادة لا يحكمها قانون ثابت وليست من مجال النظرية ولا يمكن تعميم فعاليتها على جميع الفعاليات الفردية الأخرى ولا تصبو نحو الحقيقة لأن الإرادة، بما هي كذلك، هي مجال الجواز والحرّية والجواز وحرّية الإختيار لا دخل لهما بالحقيقة فالحقيقة من المجال النظري والإرادة من مجال الفعل العملي. من يولج الإرادة في مجال الحقيقة أو يسبقها على العقل فإنه لا يعمل إلاّ على محو الحقيقة وفسخ النّظر.
الإرادة تابعة للعقل واختيارها نابع من مقايسة عقلية سابقة للفعل، هذا هو المذهب العقلاني، الإرادة هي الأساس ومبادئ العقل والتفكير تسبقها حرّية الإختيار: أنا أريد إذن أنا أفكّر هذا هو مبدأ المذهب المقابل أي مذهب اللاعقل.
معاداة العلم والتنكر لمبادئ العقل تنبع من هذا التوجّه الفكري وتنتشر كي تكتسح مجالات عدّة تصل بها إلى حدود قصوى في المجال العملي والسياسي، وكلّ التيارات العنصرية واليمينية على المستوى السياسي هي من دعاة اللاعقل وتغلّب الإرادة على المنطق. وقد يكون هذا التيار الفكري له أساسه اللاهوتي في الأديان التوحيدية (أقول أساسه اللاهوتي وليس استتباعاته العنصرية لأن الأديان من حيث المبدأ لا عنصرية فيها) التي أضفت على الإله صفة الإرادة العمياء التي لا يحدّها حدّ ولا مانع لأفعالها ولا تخضع حتى للتقييم الأخلاقي لأن الله غير مجبور على فعل الأصلح كما يقول علماء الكلام الأشاعرة.
وتنسحب هذه النظرة على الأفعال الإنسانية وعلى القيم الموجهة لها، وكما يقول علماء الكلام المسلمين لا فعل يملك صفة الخير والشرّ في ذاته وإنما كلّ الأفعال على البراءة، وفعل الله لا يمكن وصفه بالخير والشرّ لأن هذه المقولات لا تحكمه ولا تنطبق عليه، فالخير ما أوقفه الشرع (أي الإرادة الإلهيّة) والشرّ كذلك، فلو أن الشرع قد أمرنا بالزنا والقتل والسّرقة لكان ذلك أمرا حلالا.
وهذه الأقوال مبثوثة في كتب اللاهوتيين المسلمين واليهود والمسيحيين، وهي، حقيقة، حتى وإن كانت نابعة من وعي إيماني صادق بعظمة الإله وبقدرته اللامحدودة، قد فتحت ثغرة معرفية وأخلاقية خطيرة جدّا. وقد تفطّن الفيلسوف العربي ابن رشد إلى ذلك حينما قال بأن مَن يُطلق العنان للإرادة الإلهية ولقدرتها على فعل كلّ شيء فإنه يجعل من الله شبيها بالملك الجائر وأفعاله عبثية لا يمكن معرفتها ولا التنبؤ بها، علاوة على أن هذا الرأي قد يلحق ضررا كبيرا بالفلسفة وبمبادئ العلوم النظريّة .
ولكن هذه الآراء هي أكثر خطورة في ميدان الإجتماع والمعاملات بين الناس نظرا لأنه تزعزع المبادئ المؤسّسة للأخلاق والدين، فعلا، إن ساوت أنطولوجيّا بين الخير والشرّ وجعلت من الفارق بينهما فارقا عرضيّا يمكن أن يتغيّر بحسب الإرادة الإلهية فإنها قد تؤدّي حتما إلى نوع من النسبوية السفسطائية وابن رشد يقصد الأشاعرة ولاهوتي الأديان الأخرى: « وأما قول من يرى... بأن أفعاله [الله] لا تتصف بالجور بل نسبة الخير إليه والشرّ نسبة واحدة، فقول غريب جدّا عن طباع الإنسان ومنافر لطبيعة الموجود الذي في غاية الخير. وذلك أنه [حسب رأي الأشاعرة] ليس ههنا شيء هو خير بذاته بل بالوضع ولا شيء هو شرّ بذاته، ويمكن أن ينقلب الخير شرّا والشرّ خيرا فلا يكون ههنا حقيقة أصلا، حتى يكون تعظيم الأوّل وعبادته إنما هو خير بالوضع. وقد كان يمكن أن يكون الخير في ترك عبادته والإعراض عن اعتقاد تعظيمه، وهذه كلّها آراء شبيهة بآراء بروتاغوراس » ويبدو أن آراء أصحاب الإرادوية، إن كانت لاهوتية أو فلسفية، هي في منتهى الخطورة على المستوى السياسي أيضا لأنها تشرّع، من حيث لا تدري، للإعتباطية وللتسلّط والظلم. ولقد ذهب ديكارت إلى أن الإرادة الإلهية ليست فقط تفرض قيم الأفعال كما تشاء بل إنها تفرض قيمة الحقيقة بحرّية ولا شيء يضبطها أو يقنّن اختيارها.
هذا حقيقة هوس ولوثة ذهنية وأعتبر أن التمسّك بهذه المبادئ ونشرها وتعليمها للناس قد يقودهم إلى التخاذل والرضا بالأمر الواقع وقد يعطي ذريعة للحاكم للتصرّف مُحاكيا أفعال الإله الإعتباطية وهو الذي عدّ نفسه دائما ظلّ الله على الأرض .
ـ الكتاب الثاني الذي أثر في المسار الفكري النيتشوي هو تاريخ المادية للفيلسوف والسياسي الإشتراكي فريدريك آلبرت لانغ (1828 ـ 1875). عن طريق لانغ تعرّف نيتشه على الفكر المادّي عند فلاسفة اليونان القدامى وعند المحدثين، وعلى نقد المعرفة عند كانط، على الداروينية ومبادئ العلوم الطبيعية الحديثة. وقد كتب قائلا « إن العمل الفلسفي الأكثر أهمية الذي برز في العقود الأخيرة هو دون شك عمل لانغ. يكفيني كانط، شوبنهاور وهذا الكتاب لـلانغ ». لانغ رغم توجهه السياسي الإشتراكي لم يكن من أتباع المادّيّة: لقد كان يعتقد بأن المادّية في الفلسفات السابقة على كانط هي التصوّر الوحيد، التقدمي والمتماسك، الذي يمكن من خلاله تشكيل نظرة علمية للواقع. ولكن بعد كانط فإن الماديّة أصبحت نزعة ميتافيزيقية تقارب المثاليّة ويجب التخلّص منها وطرحها. انطلاقا من مسلّمات كانطيّة واعتمادا على بعض مبادئ فلسفة شوبنهاور فإن لانغ يعتبر مجموع الظواهر التي يدرسها العلم نسبية لإدراكاتنا الحسّية، ومشروطة بتكويننا الذهني المحدود والغير قادر على الوصول إلى معرفة الأشياء في ذاتها.
الجانب الإيجابي في كتاب لانغ المتمثّل في الكمّ الهائل من المعطيات التاريخية والسرد الدقيق لنظريات العلماء والفلاسفة حول المادّية حيّده إن لم يكن قد أجهض مفعوله بتبنّيه هذا الرأي الأخير الذي يشدّد على محدوديّة المعرفة الإنسانية مبدئيّا وذلك لإرتباطها الوثيق بالذات العارفة وبما ركّب فيها من قوالب ذهنية ثابتة ومحدّدة. [/rtl]
شوبنهاور ولانغ، في نهاية المطاف، يصبّان في نفس المصبّ ويدعّم أحدهما الآخر ومن اكتفى بالإطلاع عليهما، كما فعل نيتشه، فإنه لا يربي في ذاته إلاّ نزعات لاعقلانية وقناعات فكرية تحطّ من قيمة العلم وتعادي مبادئ العقل. لست أدري هل أن الإطلاع على كتابين أو ثلاث في الفلسفة يكفي بمفرده أن يجعل أحدنا ملمّا بتشعبات الفلسفة وبجميع اشكالاتها ومحيطا بمعضلاتها التاريخية والنظرية؟ وهل أن شيئا من هذا القبيل يُمكّن الدارس من الحيازة على عقل فلسفي نقدي تحليلي؟ لديّ شكوك في قدرة هذا المنحى في الدرس أن يربي وعيا فلسفيا متينا وأن يكوّن شخصية نظرية مكتملة.
دراسة الفلسفة هي دراسة صعبة وشاقة وتتطلّب تعمّقا ومعرفة شاملة (حتى وإن لم تكن عميقة ومفصّلة) في كثير من الاختصاصات والميادين العلمية الأخرى. والمثل الأعلى، في ذلك، يعود للفيلسوف اليوناني أرسطو (وفلاسفة الإسلام) الذي، علاوة على كونه فيلسوف ذو عقل نقدي تحليلي فقد كان يملك أيضا ذهنية تجريبية ملتصقة بالواقع، وكان ملمّا بجميع علوم عصره وقد أنتج فيها الكثير وترك آثارا خالدة.
الفلسفة، إذن، تتطلّب التزاما كاملا وتمرينا طويلا دائبا، ولا يكفي، للإلمام بها ولممارستها بالفعل، الإطلاع على بعض الكتب حتى وإن كانت مشهورة ومتداولة في زمانها. ومَن، في عصرنا الآن، عرض له أن اطّلع على الوجود والعدم للفيلسوف الفرنسي سارتر وتاريخ الجنون أو أركيولوجيا المعرفة لــفوكو فإنه حتما لا يدّعي لنفسه المسك بأسس الفلسفة ولا المعرفة التامّة بها ولا أن يصبح بدوره فيلسوفا. بل، قد تكون تلك الكتب مُظلّلة ومُفسدة للوعي الفلسفي أصلا.