حي وميت المعطي قبال -
mkabbal@gmail.com وهو طريح الفراش، اجتر إلى حد الهوس مسارات مشواره المعوج الذي جرب فيه الخوف والجوع والتعب والمرض، برا وبحرا، إلى أن وصل في أحد الصباحات الممطرة إلى تخوم باريس. قبل أن يهز قلاعه في اتجاه الشمال، ركب سيناريوهات بأحلام مجنحة، رأى فيها نفسه صاحب عمارات وسيارات ومال ونساء. ولم يترك أي هامش للسيناريو الكارثي الذي قاده، في الأخير، إلى أن يصبح طباخا بلا أوراق في أحد المطاعم الشعبية، يفرك حبات الكسكس ويعـِدّ المشاوي ويشكل الطواجن، هو الذي لم يسبق له أن «سلق بيضة» في حياته بسبب عناية والدته وأخته! بعد سنة ونصف من العمل الشاق، الذي كان يقوده إلى ساعة متأخرة من الليل، وقف أخيرا على الوعود الكاذبة للباطرون حمو القبائلي، الذي لم يف بوعده لا في التصريح الرسمي بعمله ولا في مساعدته على التقرب من أحد مساعدي عمدة المدينة الذي كان يتردد على المطعم لتناول وجبة كسكس. وفي أحد المساءات، في ساعة متأخرة من الليل، نظف الأواني ورتب المطعم واقتلع صور والدته وأخته المثبتة على باب الثلاجة وصعد الدرج الخلفي للمطعم المطل على الشارع، الذي أفضى به إلى محطة باصٍ نقله إلى مدينة بوبيني. في اليوم التالي، أفاق في حجرة فندق تندى بالعفونة. لما حاول الوقوف لم تسعفه قدماه. نادى على ابن عمه الذي عاين شلله النصفي. بعد نصف ساعة، نقلته سيارة إسعاف إلى المستشفى المركزي للمدينة. هنا، بدأت المشاكل: لم يكن يتوفر العربي على شهادة الإقامة ولا على الضمان الاجتماعي والتعاضدية. وبما أن حالته كانت تستدعي تدخلا سريعا، فقد أرجئت الإجراءات الإدارية إلى وقت لاحق. بعد شهرين من الإقامة بالمستشفى، وضع العربي على كرسي متحرك وأعطى الإشارات الأولى بحركات من فمه المعوج، فهم منها ابن عمه كلمات «راني خرجت فالسو»، «فرنسا غدارة». في الأخير، طلب من ابن عمه القيام بإجراءات ترحيله نهائيا إلى المغرب. في الغد، بدل ابن عمه، تقدم منه ثلاثة من رجال البوليس أبلغه أحدهم أنه تحت طائلة قرار بالطرد نحو المغرب. غمغم العربي ببضع كلمات غير مفهومة، لم تمنع رجالات البوليس من وضع «النيميرو خمسة» من حول معصميه، ودفعه وهو جالس على كرسيه الآلي إلى جوف «لاراف».
وهو محمول من طرف مساعدي الخطوط الملكية المغربية الذين صعدوا به الدرج إلى الطائرة، التفت نحو الواجهة الزجاجية للمطار ليذرف دمعة ساخنة ولسان حاله يقول: «هربنا من جهنم وغادين للجحيم»! حدث ذلك قبل أن يصوت البرلمان الفرنسي، الأسبوع الماضي، على تقليص استفادة الأجانب الذين يوجدون في وضع غير قانوني من «المساعدة الطبية للدولة». ويتمتع الأجانب الذين لا يتجاوز دخلهم 634 أوروها شهريا من هذه الخدمة المجانية منذ عام 2002، وذلك تبعا لإجراء اتخذه جان-بيار شوفينومان لما كان وزيرا للداخلية في عهد ميتران.. وقد صوت نواب الأغلبية التابعة للرئيس ساركوزي على ضرورة تسديد حق التسجيل لمبلغ 30 أوروها سنويا، بحجة أن التكاليف الإجمالية لهذه التغطية وصلت إلى 535 مليون أورو لهذه السنة وستقارب 588 مليون أورو عام 2011، ويستفيد منها 215000 شخص. وأشار بعض النواب، بهدف تشويه سمعة الأجانب، إلى أن 49 في المائة من هؤلاء الأشخاص يحتالون على القانون، وذلك بإدلائهم بشهادات طبية مزيفة! تمهد هذه الإجراءات، في الحقيقة، لعملية أوسع تستهدف، في آخر المطاف، تضييق الخناق على المرضى من الأجانب الذين لن يصبح لهم من خيار سوى الموت السري في غرف رطبة أو العودة إلى بلدانهم للموت ببطء.
في بوجنيبة، أصبح العربي يعرف بلقب «مول الكرسي». تأقلم الجميع مع غمغماته. وفي أحد الأيام، تقدم منه ساعي البريد ليسلمه ظرفا بالبريد المضمون بداخله رسالة يطالب فيه المستشفى المركزي لمدينة بوبيني بـ»تسديد مبلغ 70 ألف أورو، تغطية لمصارف العلاج والإقامة، وإلا أحيل الملف على العدالة».. كان هذا الخبر «السار» سببا في شلل طرفه الأيسر!